الأمانة... وهمٌ أم حقيقة؟

الأمانة... وهمٌ أم حقيقة؟

يعلم كلٌّ منّا ومن خلال اختباره الشخصيّ المتواضع مدى صعوبة أن نكون أمناء على كلّ المستويات. فكيف أبقى أمينًا لزوجٍ أو زوجةٍ في ظروف حياةٍ متطلّبةٍ ومليئةٍ بالهموم؟ وكيف أبقى أمينًا لربّ عملي رغم ظلمه أو بخله؟ أو كيف أبقى أمينًا للّه بصلاتي وأيّامي طويلةٌ مليئةٌ

بالهموم والمشاكل والعمل الّذي لا ينتهي؟ ألّا تكاد الأمانة أن تكون وهمًا صعب المنال؟ 


الأمانة مفتاح الحبّ وعموده الفقريّ، هي قرارٌ شخصيٌّ مشروطٌ بالحرّيّة المطلقة. فعلى سبيل المثال، إنّ تعريف الزواج بحسب تعليم الكنيسة 

الكاثوليكية هو قرارٌ والتزام، وفي هذا أمانة. ينطبق هذا التعريف أيضاً على صعيد أمانتنا لله. فـ"إِنْ قَالَ أَحَدٌ: «إِنِّي أُحِبُّ اللهَ» وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي يَرَاهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لا يَرَاه؟" (1 يو 4/ 20) والعكس صحيح. هي إذًا حربٌ لا تنتهي

فصولها بصورةٍ نهائيّة ما دمنا ننمو بصورةٍ طبيعيّة. هو صراعٌ سرمديٌّ بين روحنا المندفع وجبلتنا الضعيفة.


فكيف لنا أن نبقى أمناء لشريكٍ أخطأ بالكثير تجاهنا وفضّل نفسه علينا في كثيرٍ من المواقف وآلمنا بقرارات متسرّعةٍ عديدة؟ كيف ذلك ونحن بشرٌ يؤلمنا موقفٌ وتجرح مشاعرنا كلمة؟ أو كيف لنا أن نتخطّى تعبنا ويأسنا ومشاكلنا لنجلس ونخصّص وقتاً أو طاقةً لتغذية علاقتنا بالآخر أو بالله؟ وكيف نستطيع أن نفضّل الله أو الآخر على بعض الرفهيّة وأوقات الراحة؟ إنّه لقرارٌ صعبٌ حقَّا! لنغوص في عمقِ تاريخنا الخلاصيّ ونسترجع ذاكرتنا التاريخيّة ونتعلّم الأمانة بمفهومها المسيحيّ العميق:

 

خلق الله الإنسان وعاهده بالبقاء على حبّه له في كلّ ظروفه. خان الإنسانُ اللهَ وبادَلهُ بأن عَبَدَ كلّ أنواع الأصنام والقوى الّتي تحيط به علّها تنفّذ أوامره وكثرة طلباته البشريّة العقيمة، إلّا أنّ الله بقي أميناً على عهده. تنوّعت وجوه القضاة والملوك والأنبياء عبر التاريخ وبقيت القصّة واحدة: قصّة شعبٍ، يترُكُ إلههُ ليعبدَ آلهة من صنع يديه. ولكنّ الله هو سيّدُ التاريخ وضابط الكلّ، فقاد الربُّ الإلهُ تاريخنا بأمانته، ولمّا تمَّ الزمان، أرسل ابنه يسوع في ملء الزمن. ولمّا رفضنا سرّ هذه المحبّة الكاملة، تجلّت لنا أمانة يسوع الّذي أطاع الآب حتّى الموت، فأرانا مجدّداً المعنى الحقيقيّ للمحبّة رغم عدم أمانتنا أو حتّى امتناننا. فقام، وفهِمنا بقيامته سرّ قوّة حبّه العظيم.


إنّ أمانة الله تجعلنا ننام نومًا مقدّسًا عارفين من وضعنا ثقتنا بهِ ورجاءنا الّذي لا يخيب. ولكن في الوقت نفسه، تضعنا هذه الأمانة أمام يقظةٍ ولحظةٍ مفصليّة فلا نبقى نُيّامًا وقد أتى العريس. فهل يبقى المحبوب بلا مبالاةٍ أمام ذلك الحبّ الّذي انحنى وأهرق أزليّته عند أقدام خليقته وغسلها بدمه؟ أنبقى نائمين غير مبالين أمام هذا الحبّ الكبير الّذي غلب الموت بموته؟ فليست الأمانة نتيجة قوّتنا العظيمة بل هي إيمانٌ بأنّ الروح يعمل فينا، وبأنّنا أقوياء بالّذي يقوّينا. هي عطيّةٌ من الروح القدس الّذي يدعونا لجهادٍ مقدّسٍ لا يعرف الاستسلام. فقُم أيّها النائم وانظر 

إلى من أحبّك دون شروط. قم، لا تخف، إنّه يدعوك! 


وأخيراً، ليبقَ الهدف هو الحبّ وليس الأمانة. إنّه الحبّ الّذي يجب أن يبقى أوّلاً في صلب إيماننا المسيحي. فالأمانة ليست شرط الحبّ بل نتيجته. فإن لم يكن الله عاطيها تتحوّلُ إلى واجبٍ قانونيٍّ يؤدّي بنا إلى المرارة والإحباط. ولنتذكّر في ليالي مرارة نكراننا كبطرس أنّ الله يبقى أمينًا لأنّه، وإن أنكرناه، فهو لا ينكرنا وإن كنّا غير أمناء يبقى هو الأمين لأنّه لا يمكن أن ينكر نفسه (2 طيم 2/ 12-13).