راعي الأبرشيّة سيادة المطران بو نجم
مقالات/ 2025-11-01
رسالة راعي أبرشيّة أنطلياس المارونيّة
ســـيـادة المـطـران أنـطـوان بو نـجـم
إلى الكهنة والمؤمنات والمؤمنين
بمناسبة بداية السّنة الطقسيّة 2025-2026
بعنوان:
«التواضع طريق إلى الملكوت»
«إن لم تعودوا كالأطفال...»
(متى 18/3)
عالمُنا اليومَ يشبهُ برجَ بابل جديدًا. الناسُ يسعون إلى العلوِّ، إلى الظّهورِ، إلى المجدِ الذي لا يدوم. كلٌّ يريدُ أن يُرى، أن يُمدَحَ، أن يُصفَّقَ له. في زمنٍ إمتلأ بالأضواءِ والشّاشاتِ، صارَ الإنسانُ يعبدُ صورتَه، ويقيسُ قيمتَه بعددِ ما يملكُه من مُتابعين على منصّاتِ التّواصُلِ الاجتماعي، أو بعددِ المُعْجبين. نسيَ أنّه خُلق على صورةِ إلهٍ متواضعٍ، متخفٍّ، لا على صورة ذاتِه المنتفخَة.
إنسانُ اليوم يُخفي ضعفه وراءَ الأقنعةِ، ويتزيّن بالكلماتِ المفخّمةِ والمظاهر اللامعة. يتنافسُ لا ليبني، بل ليَهزمَ الآخر. يظنُّ أنَّ العظمة تُقاسُ بالسلطةِ أو بالمالِ أو بالنفوذِ، وينسى أنّ المجدَ الحقيقيَّ هو في المحبّة التي تتنازلُ لتَخدمَ وتقدّمَ ذاتَها عن الآخرين. قلوبُنا أصبحتْ متحجّرةً بالغرورِ، عاجزةً عن الإصغاء إلى صوت مَن خلقها وأبدعها. نريد أن نربحَ العالم فنخسرَ أنفسَنا، نُشيّدُ أبراجًا من كبريائنا، فتتهاوى عند أوّل نسمةٍ من الحقيقة.
كم نحتاجُ اليومَ إلى نعمةِ الإنحناءِ والصِّغرِ أمامَ اللّه. كم نحتاجُ اليومَ الى أن نتعلّمَ من يسوعَ المتواضعِ والوديعِ، الذي غسلَ أقدامَ تلاميذَه ليعلّمَنا أنّ الطريقَ إلى المجدِ يمرُّ عبرَ التواضعِ والخدمةِ.
أحبّائي، أبناء وبنات الأبرشيّة الذين أحّب،
في بدايةِ هذه السّنةِ الطقسيّةِ الجديدةِ، أودُّ أن أشاركَكم كلمةً من الإنجيلِ تمسُّ جوهرَ دعوتِنا المسيحيّةِ وهي اليوم بمثابةِ نداءٍ نبويٍّ يوقظُ القلوبَ: «أَلـحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنْ لَمْ تَعُودُوا فَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَطْفَال، لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَات» (متى 18/ 3)، مُستلهمًا عظةَ البابا لاون الرابع عشر التي ألقاها على الكرادلةِ بعد انتخابه: «أقول هذا لنفسي أوّلًا، بصفتي خليفةِ بطرسَ، وأنا أبدأ رسالتي هذه كأسقفٍ للكنيسةِ في روما، والمدعوَّةِ إلى أن تترأسَ الكنيسةَ الجامعةَ بالمحبّة، بحسب التّعبيرِ المعروفِ للقدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ. فهو، بينما كان يُقتاد وهو مقيَّدٌ بالسّلاسل إلى هذه المدينة، مكان استشهاده الوشيك، كتب إلى المسيحيّين فيها قال: «سأكون حقًّا تلميذًا ليسوع المسيح، عندما لن يرى العالم جسدي» (الرّسالة إلى أهل رومة،4). كان يشير إلى الوحوش التي ستفترسه، وهذا ما حدثَ بالفعل، لكن كلماته هذه تذكّرنا بالتزامٍ لا يمكن أن يتخلّى عنه أيُّ شخصٍ في الكنيسةِ يمارسُ خدمةَ السّلطة وهو أن نختفي ليظهر المسيح، وأن نصيرَ صغارًا نحن لكي يُعرَفَ ويُمجَّدَ هو كما كان يردّدُ يوحنا المعمدان «عَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَزيد، وعَلَيَّ أَنَا أَنْ أَنْقُصَ» (يو 3/ 30)، وأن نبذل أنفسَنا إلى أقصى حدّ، حتّى لا
تَنقُصَ الفرصة لأيّ أحدٍ لكي يعرفه ويحبّه.»
1. الطفل صورة التلميذ بحسب الإنجيل
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ طِفْلٍ فأَقامَه بَينَهم وضَمَّه إِلى صَدرِه (مر 9 :36)
لم تكن صدفة أن يضعَ يسوعُ طفلاً في وسط تلاميذِه. يُريد أن يُعطيَهم درسًا يؤسّسُ لرسالتِهم وشهادتِهم. الطفلُ يرمزُ إلى البساطةِ، وانعدامِ الحساباتِ، والثّقةِ الكاملة بمَن يعتني به. فهو لا يملكُ طموحاتٍ دنيويّةً، بل يعيشُ في حالةِ اعتمادٍ وتسليمٍ كلِّيٍّ.
أن نصبح مثلَ الأطفالِ لا يعني العودةَ إلى الطفوليّةِ، بل استعادةَ ذلك الإستعدادِ الداخليِّ وتلك الجهوزيّةِ الداخليّةِ التي تفتحُ عقولَنا وقلوبَنا على اللّه. الطفلُ يندهشُ، يقبلُ بلا شروطٍ وبلا حساباتٍ، يغفرُ بسرعةٍ وينسى ما تعرّضَ له. فأن نصبحَ مثل الأطفال يعني أيضًا أن «نستشعرَ» (ما معناه أن نشعر بما سيأتي). في هذا الإطار، يؤكّد البابا لاون في مقابلته العامّة في 27 أيلول 2025 «أنّ الفعلَ «إستشعرَ» يصفُ حركةً في الرّوحِ، ورؤيةً في القلب وجدَها يسوعُ كثيرًا في الصّغار، أي في أناس روحُهم متواضعةٌ. في الواقعِ، هناك أناسٌ علماءُ يستشعرون قليلًا، لأنّهم يظنّون أنّهم يعرفون. مع ذلك، جميلٌ أن يبقى في العقل والقلب مكانٌ يكشف اللّه لنا فيه عن ذاته. ويملأ أعماقَنا شيئًا من معارفِه. ما أجمل الرّجاء عندما تتدفّقُ معرفةٌ جديدةٌ في شعبِ اللّه!».
الطفلُ، في بساطتِه وثقتِه، يكشفُ سرّ الملكوت أكثر من أيّ حكيمٍ أو فهيم. لا تعرف عيونُه النقيّةُ المكرَ والرياء، وقلبه البريء يصدّق الحبّ قبلَ البرهانِ. لذلك نفهمُ الطفولةَ بالمعنى البيبليّ كموقفٍ روحيٍّ دائمٍ يقومُ على قبولِ للّه بلا حساب، بلا شروطٍ، وكثقةٍ تسلّمُ نفسَها إلى الآبِ كما يضعُ الطفلُ يده في يدِ أبيه.
أن نكون تلاميذَ حقيقيّين يعني أن نحفظَ فينا دهشةَ الطفلِ، ونبقى قادرين على الفرح بخاصةٍ في الأمورِ الصغيرةِ، وعلى التواضعِ، والإيمانِ الحقيقيِّ الذي يفتحُ قلوبنا على النورِ.
2. التواضع والخدمة والرحمة ثالوثُ الشّهادة المسيحيّة الحقيقيّة
التواضعُ ليس ضعفًا، بل هو الحقيقةُ التي تحرّرُ حياتَنا من ألمٍ يُلاحقنا كلَّ لحظةٍ، هذا الألمُ هو ألمُ الـ«أنا»، ألمُ القلقِ من النظرةِ التي يحملُها الآخرون عنّا، ألمُ المقارنةِ الدائمةِ بالآخرين، ألمُ الرغبةِ في السيطرةِ أو في أن نكونَ الأفضلَ دائمًا، ألمُ الكبرياءِ الذي يجعلُ الإنسانَ لا يحتملُ أن يُخطئ أو أن يُنتقَد. إنّهُ ألمُ البحثِ عن الكمالِ الزائفِ الذي لا يتحقّقُ أبدًا، فيعيشَ الإنسانُ في صراعٍ داخلـيٍّ دائمٍ بين ما هو عليه وما يريدُ أن يظهرَ به.
التواضعُ هو الإعترافُ المتكرّرُ بأنّ كلّ الحُسنِ والجمالِ وما نملكُ، يأتي من اللّهِ، وأنّنا مخلوقاتٌ محدودةٌ لكنّها محبوبةٌ ومغفورٌ لها. التواضعُ والصِّغرُ يحرّرانِنا من وهمِ القدرةِ المطلقةِ التي يوهمُنا العالمُ اليومَ أنّه بدونِها لا يمكنُنا أن نستمرَّ ونحقّقَ ذواتِنا. إنّهما يُدخلاننا في منطقِ الخدمةِ التي تتحوّلُ سريعًا إلى استعراضٍ أو سلطة إذا ما أُنجِزتْ خارجَ إطارِ التواضعِ. فالقلبُ المتواضعُ يرى الخدمةَ إمتيازًا لا واجبًا، وفرصةً لا عبئًا.
المسيحُ نفسُه، بتجسُّدِه أصبحَ طفلاً مُحتضِنًا ضعفَنا. لم يختَرْ طريقَ التّسلّطِ بل طريق الخدمةِ. حياتُه بكاملها تشهدُ على هذه القاعدةِ: «كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يُوَاضَع، وَمَنْ يُواضِعُ نَفْسَهُ يُرْفَع» (لو 14/ 11). إنه المثالُ الكاملُ للتواضعِ: «فَهُوَ، معَ كَونِهِ في صُورَةِ اللّه، لَمْ يَحْسَبْ َمُسَاوَاتَهُ للّهِ غَنِيمَة، بَلْ أَخْلَى ذَاتَهُ، مُتَّخِذًا صُورَةَ العَبْد، صَائِرًا في شِبْهِ البَشَر. ولَمَّا ظَهَرَ في هَيْئَةِ إِنْسَان، واضَعَ ذَاتَهُ، وصَارَ مُطِيعًا حَتَّى الـمَوْتِ، الـمَوْتِ على الصَّلِيبِ» (فل 2/ 6-8).
في يسوعَ ومع يسوعَ، يصبحُ التّواضعُ قوّةً تُرسِّخُ قلبنا في الرحمةِ وتُنمّي فينا القدرةَ على استقبالِ ألمِ الآخرين ومرافقتِهم بلطفٍ. المتكبّرُ لا يعرفُ أن يرحم، لأن قلبَه ممتلئٌ من ذاتِه. أمّا المتواضعُ، ففارغٌ من كبريائه، ورحمتُه تتماهى مع المحبّة الإلهيّة كما يقول القدّيس يوحنا الذهبيُّ الفمِ: «ليس هناك شيءٌ يجعلُ الإنسانَ قريبًا من اللّه مثلَ الرحمةِ، لأنّ الرحمةَ هي صورةُ المحبّةِ الإلهيّةِ على الأرضِ».
تعلنُ أمُّنا مريمُ هذه الحقيقةَ في نشيدِها: «نظرَ إلى تواضعِ أَمَتِه» (لو 1/ 48)، فهي تذكّرنا دومًا بأنّ القلوبَ الطيّبةَ وحدَها تميّزُ اللّهَ وتجليّاتِه في العالمِ. والقدّيسون، من فرنسيس الأسيزي إلى تيريزيا الطفل يسوع والوجه الأقدس وشارل دو فوكو مُلهم رهبنة أخوات يسوع الصغيرات... كلُّهم جسّدوا هذا الطريق: طريقُ الصِّغَر الذي يصبحُ مُثمرًا لأنّه يتّكلُ كلّيًّا على اللّه.
3. ثمار فضيلة التواضع والصِّغر في الحياة المسيحيّة
الصغيرُ المتواضعُ في نظرِ الناس، هو الكبيرُ في عينيِّ اللّه. هذه الفضيلة التي عاشها يسوعُ نفُسه حين صار إنسانًا، طفلًا، عبدًا، هي البوابةُ التي تَدخل منها النّعمة إلى القلبِ. فضيلةُ الصِّغَرِ ليستْ ضعفًا، بل هي اختيارٌ حرٌّ لأنْ نعيشَ أمامَ اللّه كأبناءٍ صغار، واثقين بحبّه، معتمدين على رحمته، غيرَ متّكلين على استحقاقِنا. الصغيرُ لا يملكُ شيئًا ليحميه، لذلك يضع كلَّ ثقته في اللّه، ومن هنا تنبعُ ثمارُه الكثيرةُ.
في الحياة الشخصيّة: التواضعُ يساعدُنا على قبولِ محدوديّتِنا وضعفِنا، والإتكالِ الدائمِ على اللّه بالفعلِ لا بالقولِ فقط. إنّه يعلّمُنا أن نقول بثقة: «أَللّـهُمَّ، إِصْفَحْ عَنِّي أَنَا الـخَاطِئ» (لو 18/ 13). التواضعُ يشفي القلب من الكبرياءِ الذي يعزلُنا عن اللّهِ وعن الآخرين.
في الحياةِ الجماعيّةِ: نعيشُ زمنَ السينودسيّة التي أساسُها فضيلةُ التواضعِ والتي تخلقُ مناخًا من الأخوّةِ يساعدُنا على الإصغاءِ إلى الآخر بدونِ تعالٍ، وعلى المغفرةِ بدون شروطٍ، وعلى الخدمةِ بدون البحثِ عن المراكزِ الأولى. يقول القديس بولس: «لا تَفْعَلُوا شَيْئًا عن خِصَامٍ ولا بِعُجْبٍ، بَلْ باتِّضَاع، وَلْيَحْسَبْ كُلُّ واحِدٍ مِنْكُم غَيْرَهُ أَفْضَلَ مِنْهُ (فل 2/ 3).
في رسالة الكنيسة: العالمُ لا ينتظرُ منّا كنيسةً تبحثُ عن السلطةِ، بل كنيسةً تركعُ لتخدمَ. الكنيسةُ المتواضعةُ هي التي يثقُ بها الناسُ ويصدّقونها ويتبعونها، لأنها تعكسُ وجهَ المسيحِ الخادمِ.
4. فضيلة تعاكس إنحراف العالم
إنّ فضيلةَ الصِّغَرِ تجعلُ حياتنا اليوميّةَ، بكلِّ تفاصيلِها العاديةِ، مكانًا للنعمة، حيث يكفي أن نكون أوفياء في القليل، لنُفرّحَ قلبَ الآبِ السّماوي. لذلك، أدعوكم، أيّها الإخوة والأخوات، أبناء وبنات الأبرشيّة الأحبّاء، إلى جعل التواضعِ ممارسةً يوميّةً لا فكرةً نظريّةً.
لأحبّائي الكهنة والمكرّسين والمكرّسات، أقول: تَذكّروا أنّ تكرُّسَكم وخدمتَكم الكهنوتيّةَ ليستْ ترقيةً اجتماعيّةً، بل خدمةً متواضعةً لشعبِ اللّه. الكاهنُ المتعالي يجرحُ الكنيسةَ، أمّا الكاهنُ المتواضعُ فيبنيها لتصبحَ على مدى المكانِ والزمانِ.
للأهل أقول: في عائلاتِكم، علّموا أولادَكم أنَّ العظمةَ الحقيقيّةَ لا تكمُنُ في السيطرةِ، بل في الخدمةِ. علّموهم أنّ السلامَ يأتي، لا محال، إذا عاشوا الصِّغرَ، وحينها سيفرحون لأنّهم سيرَون يدَ اللّهِ في كلّ شيءٍ. لتكُنْ بيوتُكم أماكنُ تُعاشُ فيها البساطةُ بفرحٍ.
وللعلمانيّون المؤمنون كافّةً، أقول: ليكنِ انخراطُكم في المجتمعِ مؤسَّسًا على حبّ الخيرِ العامِ وتفضيلِه على الخيرِ الشخصيّ، محترمين ضعفَ بعضِنا البعضِ، ساعين الى إنشاءِ عالمٍ أفضل. كونوا شهودًا لفرحِ الإنجيلِ البسيطِ.
وكمُبادرةٍ عمليّةٍ يُمكنُ أن نقوم بها على صعيدِ الأبرشيّةِ مجتمعين: أقترحُ أن نخصّصَ يومًا إمّا أسبوعيًّا إمَّا شهريًّا في كلّ رعيّة لعبادةِ القربانِ المقدّسِ، نطلبُ فيه من الربِّ أن يمنحَنا قلبًا كقلبِ الطفلِ وروحِ التواضعِ والصِّغرِ. وليقدّمْ كلُّ واحدٍ منا، يوميًّا، عملَ محبّةٍ ملموسٍ تُجاه الفقراءِ، فهم أوّلُ انعكاسٍ لوجهِ المسيحِ بيننا. يذكّرُنا يسوعُ أنّ هذا هو شرطُ الدّخولِ إلى ملكوتِه ونحن نعرف أنّنا لن نبلغَ ذلك بجهدِنا، بل بنعمةِ الروحِ القدسِ. فبالروحِ نفسِه يقودُنا اللّهُ إلى الأمامِ، ويبيِّنُ لنا طرقًا جديدةً.
لنسعَ في زمنِ اليوبيلِ لنكونَ صغارًا بحسبِ الإنجيلِ، فنستشعرُ ونخدمُ تدبيرَ اللّهِ ببساطةٍ وثقةٍ بنويّتَين. ولتشفعْ بنا أمُّنا العذراءُ مريم، الخادمةُ المتواضعةُ والأمُ الأمينةُ، وتعلّمنا أن نحفظَ قلبَ الطّفلِ أمامَ إبنِها يسوع. أبارككم جميعًا + المطران أنطوان بو نجم
أبارككم جميعًا
+ المطران أنطوان بو نجم
راعي أبرشيّة أنطلياس المارونيّة