شهيد الإيمان: بين الأمس واليوم

شهيد الإيمان: بين الأمس واليوم

شهيد الإيمان: بين الأمس واليوم

منذ نشأة الكنيسة الأولى، ارتبطت كلمة "شاهد"     بالمسيحي الذي يعلن إيمانه بجرأة ويعيش بحسب قيم الإنجيل. لم يكن الأمر مجرد لقب، بل مسيرة حياة تُترجم التزامًا شخصيًا بشخص يسوع المسيح. ومع الاضطهادات، اكتسبت الشهادة بُعدًا جديدًا: فالموت من أجل المسيح صار أسمى تعبير عن المحبة والاتحاد به، إذ من عاش شاهداً في حياته ومات شهيدًا من أجله، أعلنت الكنيسة قداسته ورفعته مثالاً حيًا ومصدر شفاعة للكنيسة المجاهدة. يقول ترتليانوس، أحد آباء الكنيسة الأوائل: " دماء الشهداء هي بذار المسيحيّة"، بهذه الروح، فهمت الكنيسة أن الشهادة ليست مأساة بل قوة حياة جديدة.

الشهادة اليوم: واقع لا يزول

قد يعتقد البعض أن زمن الاستشهاد انتهى مع القرون الأولى، لكن الواقع يُظهر عكس ذلك. فبحسب تقارير "أبواب مفتوحة" (Open Doors)، هناك اليوم أكثر من 360 مليون مسيحي يعيشون في بلدان يواجهون فيها الاضطهاد بدرجات مختلفة، بدءًا من التمييز الاجتماعي وصولاً إلى القتل.

وقد ذكّر البابا الراحل فرنسيس بأن "عدد الشهداء في زمننا يفوق عددهم في القرون الأولى"، مشيرًا إلى أن الاستشهاد لم يعد حدثًا عابرًا، بل هو خبرة يومية تعيشها الكنيسة في مناطق مختلفة من العالم.
في أيلول 2025، وخلال صلاة في بازيليك القديس بطرس خارج الأسوار، شدّد البابا لاون الرابع عشر على أن الاستشهاد هو "الاتحاد الأعمق والأقرب مع شخص المسيح الذي سفك دمه فداءً عنّا"، وأضاف: "كثيرون في أيامنا هذه يضطهدون ويُقتلون بسبب إيمانهم، وهم يشهدون أن ملكوت الله حاضر بيننا".

حقيقتان نستخلصهما من الاستشهاد
من واقع الاستشهاد، قديمًا وحديثًا، نستخلص حقيقتين متناقضتين ظاهريًا لكنهما متكاملتان:
1. الألم المستمر
السلام ما زال بعيد المنال طالما يُقتَل الإنسان باسم الدين أو الإيديولوجيا أو العرق. أطفال استشهدوا وهم يتعلمون، مسنّون استشهدوا على مقاعد الكنيسة، ومرضى قضوا وأناجيلهم بين أيديهم. مشاهد قاسية تكشف سؤالاً عميقًا: لماذا يُواجه الإيمان بالعنف؟
الجواب يتلخصّ في كلمة واحدة: الخوف. فالقاتل، حين يستخدم سلاحه ضد الضعفاء، يكشف في العمق أن الإيمان أقوى من العنف، وأن الحقيقة لا تُسكت بالرصاص.

2. الرجاء الذي لا يُقهر
رغم الاضطهاد، يبقى الإيمان حيًا. لقد صمدت المسيحيّة أكثر من ألفي سنة، ليس لأنها مرتبطة بحدث ماضٍ، بل لأنها خبرة متجددة مع المسيح الحيّ. إنها خبرة "حبّة القمح" التي تموت لتثمر (يو 12: 24)، ووعد الربّ: "هاءنذا معكم كل الأيام، حتى انقضاء الدهر" (متى 28: 20).

 وجوه أخرى للشهادة
الاستشهاد لا يقتصر على البعد الديني فقط، بل يتسع ليشمل وجوهًا أخرى:
شهادة وطنية: حيث يضحّي المؤمن بحياته دفاعًا عن أرضه وشعبه.
شهادة إنسانية وأخلاقية: حيث يدفع المرء حياته ثمنًا لتمسكه بالعدالة والحق ورفضه للفساد.
وفي كنيستنا المارونية، يسطع مثال الشهداء الـ350 والإخوة المسابكيين في دمشق، الذين أراقوا دماءهم حبًا بالمسيح، فصاروا جزءًا من تراثنا الروحي والكنسي. 

الطوبى والدعوة
ختامًا، نرفع الطوبى مع يسوع: "طوبى للمضطهدين من أجل البرّ، لأن لهم ملكوت السماوات" (متى 5: 10).
طوبى لكل من حمل نير المسيح وتوّج حياته بالشهادة. هؤلاء يعلّموننا أن الإيمان لا يُعاش بنصف قلب، بل بجذرية تامة.
أما لمن يظن أن العنف هو الحل، فالتاريخ يثبت أن الدم لا يجلب إلا الدم، وأن كلّ حرب أو اضطهاد يعيدنا إلى زمن البربرية، حيث يغيب الحوار ويُستبدل بالعنف. إن دماء الشهداء ليست دعوة للانتقام، بل بذار سلام ومصالحة، ورسالة بأن قوة المحبّة أقوى من الموت.