الحرب المقدّسة

الحرب المقدّسة

عادت في الآونة الأخيرة، إلى الصفحات الأولى من الصحف، عبارةٌ كانت الكنيسة قد أسقطتها من قواميس لغّتها منذ زمنٍ بعيد. فالبعض أطلق على تدخّل روسيا في الحرب السوريّة اسم "الحرب المقدّسة". طبعًا انقسم الرأي العام في لبنان إلى اثنين. البعض يؤّيد التسميّة ويبرهنها بحججٍ لاهوتيّة وكتابيّة، والبعض الآخر يرفضها ويبرهن رفضه أيضًا بحججٍ لاهوتيّة وكتابيّة. وتطويع الكتاب المقدّس في أحاديث سياسيّة ليس غريبًا عن بلادنا.

بطبيعة الحال، رفض العبارة أو قبولها لا ينبع في لبنان من إيمانٍ عميقٍ وتديُّنٍ صادقٍ، بل هو مرتبط بتحزّبات اللّبنانيّين. فإذا كان الحزب الذي تنتمي إليه يؤيّد النظام في سوريا، أصبحت مؤيّدًا للتدخّل الروسي، وأصبحت من المدافعين الشرسين عن "الحرب المقدّسة". أمّا إذا كره حزبك النظام وتمنّى سقوطه، أصبحت فجأةً عالمًا في اللّاهوت وأخذت تبرهن أنّ استخدام تلك العبارة ساقط. بات هذا المشهد في وطننا طبيعيًّا، فبدل أن يكون للّبنانيّ أفكارٌ وآراءٌ حرّة، ينتمي آلافُ اللبنانيّين إلى رأيٍ واحدٍ، أُسقِطَ عليهم من حيث لا يدرون، أو أُنزِلَ على آبائهم منذ أجيالٍ عتيقة.

بعيدًا عن رأيي في السياسة الإقليميّة، أردت في أسطري القليلة هذه أن أعطي رأيًا لاهوتيًا في شأن "الحرب المقدّسة". من المؤكّد أنّ المسيحيّة ليست دين حربٍ، ومن المؤكّد أنّها ترفض القتل بكلِّ أشكاله. فلا يُمكن لأيّ حربٍ أن تكون إيجابيّة. فهي، ولو فازت بمعاركها أنظمة سياسيّة أو مجتمعات دينيّة معيّنة، يخسر فيها الإنسان حتمًا.

الكنيسة لا تدافع عن هذا النظام أو ذاك. هي تُدافع عن الإنسان وكرامته، وعن حقّه بتقرير مصيره ودينه بحريّة. وهي بطبيعة الحال، لا تمنع عن المسيحيّ الحقّ بالدفاع عن نفسه، لأنّ الحقّ بالحياة مكتسب. أمّا شنِّ الحروب باسم الدين، فهو لا يرتبط بأي شكلٍ من الأشكال بالإيمان المسيحي، وإذا شهد التاريخ يومًا حروبًا باسم المسيحيّة، فهي لم تكن سوى التفاف على رسالة المسيح، وتطويعها في حسابات أرضيّة فانية. أمّا البابا يوحنّا بولس الثاني، فقد اعتذر علنًا من بطريرك القسطنطينيّة للألم التي تسبّبت به الحروب الصليبيّة في الماضي البعيد، لأنّ الكنيسة، التي لم تنفصل بجوهرها يومًا عن رسالة الإنجيل الحقّة، هي شاهدة فقط للحبّ الإلهي يسوع المسيح، ولو أنّ بعض رجالها أكثروا الإخفاق وشهدوا زورًا أمام أبناء جيلهم.

أمّا بالنسبة للحرب المقدّسة، فهي واحدة، وكلّنا فيها جهاديون. لأنّ المسيح أوصانا ألّا نخاف من يقتلون الجسد (متّى 10، 28)، ورسالة القدّيس بولس إلى أفسس أوضحت لنا أنّ صراعنا ليس مع لحمٍ ودمّ بل مع أجناد الشرّ الروحيّة (أفسس 6، 12). "الحرب المقدّسة" واقعٌ هي، لكنّ سلاحها الصوم والصلاة، ولم يكن يومًا دبّابات وراجمات صواريخ وبنادق مزيّنة بصور قدّيسين. وغايتها لم تكن يومًا نُصرةَ هذه الجبهة أو تلك، بل تحقيق خلاص كلِّ إنسان وكلِّ الإنسان. لذلك، فلنشدّد الركب الواهنة ولنقم لحربٍ مقدّسة روحيّة. لنحمل مسيحيّي الشرق بصلاة قلبٍ صادقة وبأصوامٍ قاسية وفرِحة، لأنّنا منذ خرجنا من مياه العماد، خرجنا جنودًا روحيّين، أُعدّ لهم النصر منذ إنشاء العالم!