كَسر الكلمة - العهد القديم -31- أحد العنصرة

كَسر الكلمة - العهد القديم -31- أحد العنصرة

أحد العنصرة المجيدة
سفر التّكوين: 11 / 1 - 9
1 وكانَتِ الأَرضُ كُلُّها لُغَةً واحِدة وكَلامًا واحدًا.
2 وكانَ أَنَّهم لَمَّا رَحَلوا مِنَ المَشرِق وَجَدوا سَهْلًا في أَرضِ شِنْعار فأَقاموا هُناك.
3 وقالَ بَعضُهم لِبَعض: "تَعالَوا نَصنَعْ لَبِنًا ولْنُحرِقْه حَرْقًا. فكانَ لَهمُ اللَّبِنُ بَدَلَ الحِجارة، والحُمَرُ كانَ لَهم بَدَلَ الطِّين.
4 وقالوا: "تَعالَوا نَبْنِ لَنا مَدينةً وبُرْجًا رَأسُه في السَّماء، ونُقِمْ لنا ٱسْمًا كَي لا نَتَفَرَّقَ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها".
5 فنَزَلَ الرَّبُّ لِيَرى المَدينةَ والبُرجَ اللَّذَينِ بَناهُما بَنو آدم.
6 وقالَ الرَّبّ: "هُوَذا هُم شَعبٌ واحِد ولجَميعِهم لُغَةٌ واحِدة، وهذا ما أَخَذوا يَفعَلونَه. والآنَ لا يَكُفُّونَ عَمَّا هَمُّوا بِه حتَّى يَصنَعوه.
7 فلْننزِلْ ونُبَلْبِلْ هُناكَ لُغَتَهم، حتَّى لا يَفهَمَ بَعضُهم لُغَةَ بَعض".
8 فَفَرَّقَهمُ الرَّبُّ مِن هُناكَ على وَجهِ الأَرض كُلِّها، فكَفُّوا عن بِناءِ المدينة.
9 ولِذلِكَ سُمِّيَت بابِل، لأنَّ الرَّبَّ هُناكَ بَلبَلَ لُغَةَ الأَرضِ كُلِّها. ومِن هُناكَ فَرَّقَهمُ الرَّبُّ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها.

مقدّمة
معَ عيدِ العَنصَرة، تَبدَأُ الكَنيسَةُ زمنًا ليتورجيًّا جديدًا، يَعمَلُ فيهِ الرُّوحُ القُدس في قُلوبِ الـمُؤمنينَ، لِيَفهموا سرَّ المسِيحِ الفَادي وَالمخلِّص. فَقراءاتُ هذا الأَحدِ يَجمَعُها عَملُ الرُّوح القُدس. قراءةُ العهدِ القَديمِ تُخبِرُنا عن عمَلِ الرِّب الَّذي شَتَّتَ الشَّعبَ الواحِدَ على وجهِ الأَرضِ بِبَلبَلَةِ لُغاتِهم (تك 11 / 1 - 9). وَنصُّ أعمالِ الرُّسل يُخبِرُنا عن حَدثِ حلولِ الروح القُدسِ على التّلاميذِ الـمُجتَمعينَ في العِليَّةِ، فَبدأُوا يتكَلَّمونَ وَيُبشِّرونَ بسرِّ الرَّب بِلُغاتٍ مُختلِفة. لِيَأتي نصُّ إِنجيل يوحنا 14 لِيُعلِمَنا الرَّبُ يسوع، أَنَّهُ بعدَ صُعودِهِ، لَن يَترُكَنا يَتامَى، لِأَنّهُ سَيَهبنا البرقليطَ الآخَر، لِيُؤَيّدنا وَيبقَى معنا لِلأبَد.
إِنَّ القصَّةَ الـمَعروفَةَ بِعنوانِ "بُرجِ بَابِل"، هي قصَّةٌ رمزيّةٌ يَلعَبُ فيها حدثُ تَعدُّدِ اللُّغاتِ دَورًا مَأساوِيًّا بِالنِّسبَةِ لِشَعبٍ كانَ يَسعى لِلعَيشِ بِطمأنينَةٍ وَبِضمانَةٍ أَبديَّةٍ، بَعيدًا عن هَمِّ التَّشَرذُمِ وَالانقِسَام. إِلاَّ أَنَّ مَشروعَ الرَّبِ لَم يَتوافَق مع رَغبَةِ هذا الشَّعب، الذي كانَ يَسعَى بِجَهلٍ لِفَصلِ نَفسِهِ عنِ مَشروعِ الحياةِ وَغِنَى الاخْتِلاف. فَمن رَغبَةٍ بِالتَّدميرِ الذّاتي، بالانْعِزالِ التّامِّ عن الاختِلاف، اسْتَعملَ الرَّبُ "بَلبَلةَ اللُّغات" لِيُخلِّصَ الشَّعبَ الجَاهِل.

تفسير الآيات
1 وكانَتِ الأَرضُ كُلُّها لُغَةً واحِدة وكَلامًا واحدًا.
إِنَّ بِدَايَةَ النَّصّ تَتَعَارَضُ معَ النَّصّ السَّابِقِ، إِذ فيهِ يَتحدَّثُ الكَاتِبُ عَن سُلالَةِ بَني نُوحٍ "بِحَسَبِ عَشَائِرهِم وَلُغَاتِهِم وَبُلدانِهم وَأُمَمِهم" (تك 10 / 20. 31. ) وَيَنتَهي الفَصلُ العَاشِر بِقَولِهِ عن أَبناءِ نوحٍ: "وَمِنهم تَشَتَّتَتِ الأُمَمُ في الأَرضِ بعدَ الطُّوفَان" (10 / 32). فَتَشَتُّتَ الشُّعوبِ بِحَسَبِ هذا الفَصْل، هوَ أَمرٌ طَبيعِيٌّ وَعَلامَةٌ عَلى حُلولِ بَرَكةِ الرَّبِ على سُلالَةِ نوحٍ البَارّ. يَتَّضِحُ لنَا أَنَّ الفَصل العَاشِرَ هوَ وَليدُ الـمَدرَسَةِ الكَهنوتِيَّةِ الّتي تُرَتِّبُ السُّلالاتِ وَتَحفَظَها. وَالسّؤالُ الـمَطْروحُ الآن هوَ، كَيفَ يَأتي الفَصْلُ التّالي، الحادي عَشَر، فيَقول: "فَكَانَتِ الأَرضُ كُلُّها لُغةً واحِدةً وَكلامًا واحِدًا"؟ لِيَبْدَأَ الكَاتبُ هَكذا، قِصَّةً جَديدَةً تُعارِضُ السَّابِقَة!
مِنَ الواضِحِ أَنَّ كَاتِبَ نصِّنا يَنتَمي إِلى مَدرَسَةٍ جَديدَةٍ، وَهيَ بِالأَحرَى يَهْوِيَّة، فَيُفسِّرَ اخْتِلافَ الشُّعوبِ وَاللُّغَاتِ عَلى أَنَّهُ عِقَابٌ عَلى خَطيئَةٍ جَماعِيَّةٍ. فَيَجِدَ هَكذا، مَعنًى جَديدًا عَن انتِشَارِ الشُّعوبِ وَتَشَتُّتِهِم، إِذ أَحْداثُ التَّاريخِ تُظهِرُ أَنَّ تَفَرُّقَ الشُّعوبِ لَم يَكُنْ عَلامَةَ صِحَّةٍ وَبَرَكةٍ فقَط، بَل كَانَ لَهُ طَابَعٌ سَودَاوِيٌّ وَكانَ نَتيجَةَ خَطيئَةِ شَعبٍ بِكَامِلهِ. نَقصِدُ في هذا، سِنينَ السَّبي وَالجلاءِ التي عَانى منها شَعبُ الرَّب.

2 وكانَ أَنَّهم لَمَّا رَحَلوا مِنَ المَشرِق وَجَدوا سَهْلًا في أَرضِ شِنْعار فأَقاموا هُناك.
تَبْدَأُ هَذهِ القِصَّةُ مِن لَحظَةِ خُروجِ الشَّعْبِ مِنَ "الشَّرق"، أَي منَ الـمَكانِ الَّذي ارْتَكَبَ فيهِ آدَمُ وَحَوَّاءُ الـمَعْصِيَةَ ضِدَّ الرَّب: "فَطرَدَ الله الإِنسَانَ وَأَقامَ شَرقيَّ جنَّةِ عَدنٍ، الكَروبينَ وَشُعْلَةَ سَيفٍ مُتقَلِّبٍ ..." (تك 3 / 24). يَضَعُ الكاتِبُ اليَهوِيُّ الإِطَارَ لِقِصَّتِهِ، ضِمنَ إِطارِ النُّصوصِ السَّابِقَةِ لِيُحافِظَ على وِحْدَةِ النَّصوص وَالكِتاب. ثُمَّ يَسْتَعمِلُ اسْمًا آخَرَ لِبِلادِ بَابِل، وَهيَ "شِنعَار" (راجِع تك 10 / 10؛ "شِنعارُ أَي بِلادُ بَابِل" أش 11 / 11) وَهيَ إِحْدَى الأَراضِي الّتي تَشَتَّتَ فيها اليَهودُ، بِسَبَبِ خَطايَاهُم وَتَركِهِم لِلرَّبِ وَاتِّباعِهِم آلِهةَ الأُمَم. فَنَفهَمَ أَنَّ الكَاتِبَ يَستَعمَل الرَّمزِيَّةَ في قِصَّتِهِ. فَيَجعَلَ سَاحَةَ حَادِثَةِ "بُرجِ بَابِل"، في بِلادِ الجَلاءِ لِيُعطِيَ لِقِصَّتِهِ مَعنًى حَقيقيًّا تاريخِيًّا في إِطارٍ رَمزِيٍّ. وَاَيضًا، نُلاحِظُ اسْتِعمالَ صيغَةِ فِعلِ "نَسَعْ" العِبريّ أَي الرَّحيل، أَنَّها نَفسُها الصِّيغَةُ الـمُسْتعمَلَةُ في نصِّ خُروجِ اليَهودِ من مِصرَ، وَالَّتي كانَت أَيضًا أَرضًا اخْتَبرَ فيها شَعبُ الرَّبّ، العُبودِيَّةَ وَالسَّبي عن أَرضِهِ.

3 وقالَ بَعضُهم لِبَعض: "تَعالَوا نَصنَعْ لَبِنًا ولْنُحرِقْه حَرْقًا". فكانَ لَهمُ اللَّبِنُ بَدَلَ الحِجارة، والحُمَرُ كانَ لَهم بَدَلَ الطِّين.
4 وقالوا:"تَعالَوا نَبْنِ لَنا مَدينةً وبُرْجًا رَأسُه في السَّماء، ونُقِمْ لنا ٱسْمًا كَي لا نَتَفَرَّقَ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها".

يَنتَقِلُ الآنَ الكَاتِبُ من وَصْفِ الإِطَارِ، إِلى نَقْلِ حَديثِ الشَّعب بِصيغَتهِ الـمُباشَرَة، لِيَجعَلَنا نَسْمعُ كَلِماتِهم وَأَفكَارِهم. منَ الوَاضِحِ أَنَّ أَعضَاءَ الشَّعبِ مُتَّفِقونَ في قَرارِهِم. أَمَّا اسْتِعمالُ اللَّبِنِ الـمَحروقِ وَالحُمَرِ، فَهذهِ الـمَوادُ اسْتَعمَلها الشَّعبُ اليَهودِيُّ في أَرضِ مِصرَ، بِأَمرٍ من فِرعَونَ لِيُذِلَّهُم وَيُعامِلَهُم بِعُنفٍ شَديدٍ وَيُثَقِّلَ عَليهِم نيرَ العُبودِيَّةِ (راجع خر 5 / 6 - 14). فَبِأَدَواتِ العُبودِيَّةِ بَنَى الشَّعبُ بُرجًا رَأْسُهُ الى السَّمَاء. هَذهِ الصُّورَةُ تُذَكِّرُنا بِما قَالَتهُ الحِكمَةُ عن بُرجِ بَابِلَ: "وَلـمّا أَجْمَعَتِ الأُمَمُ على الشَّر فَأُخْزِيَت معًا" (حك 10 / 5).
إِنَّ عِلمَ الآثارِ اكْتَشَفَ أَبراجًا عالِيةً تُسَمَّى "زيغورات" وَهيَ عِبارَةٌ عن بِناءٍ بِارتِفاعِ ثمانينَ مترًا، مَبنيًّا بِاللّبنِ وَالحُمَر. كَانَت هذه تُشَيَّدُ في بلادِ ما بَينَ النَّهرَينِ في أُورْ، كَرمزٍ لِـمَقرِّ الآلِهَة، وَمُشَيِّدوها كَانُوا يَرفَعونَ البِناءَ لِيَجِدوا سَبيلاً لِلوصولِ إِلى آلهَتِهم. إِلاَّ أَنَّ الكَاتِبَ الـمُلهَمَ رَأَى في هَذه الأَبْراجِ خَطيئَةً عَظيمَةً ضِدَّ الرَّبّ، بِالتَّحديدِ خَطيئَة الكِبرياء وَالتَّـمَرُدِ على الرَّب. أَمَّا بِالنّسبَةِ لِإِقَامَةِ اسْمٍ بِهدَفِ الاسْتِقرارِ وَالثَّباتِ خَوفًا منَ التَّشتُّت، فَبِناءُ مَدينَةٍ معَ بُرجٍ يَحْفظانِ ذِكْرَى البّنّائين إِذ يَمتَلِكونَ الأَرضَ وَيَرِثونَها، فَتصيرَ خاصَّتَهُم؛ "إِنجابُ الأَولادِ وَبِناءُ مَدينةٍ يعَزِّزانِ الإِسْم" (سي 40 / 19). في هَذِهِ النَّوايَا، رَأَى الكَاتِبُ سَببًا لِلخَطيئَةِ، إِذ الإِنسَانُ يُريدُ أَن يَكونَ سَيِّدَ نَفسِهِ، كَالآلِهَةِ. منْ جَديدٍ نَرَى كيفَ أَنَّ الكِبْرياءَ وَالتَّمرُّدَ يُسَبِّبَانِ للإِنسَانِ العِقَاب.

5 فنَزَلَ الرَّبُّ لِيَرى المَدينةَ والبُرجَ اللَّذَينِ بَناهُما بَنو آدم.
هُنا يَتدَخَّلُ الرَّبُ بِنَفسِهِ، إِذ حينَ يَهِمُّ الشَّرُّ أَن يَغْلِبَ يَأتي الرَّبُ لِإِيقَافِهِ وَالسَّيطَرَةِ عَليه. فَالبَنَّاؤونَ يُسَمّيهِم الكاتِبُ "بَنو آدَم" لا "بَنو نوحٍ البارّ"، لِيَرمُزَ بِهذِه التَّسمِيَةِ إِلى البَشَريَّةِ الخَاطِئَةِ وَإلى أَنَّ الشَّرَّ هوَ الـمُتسَلِّطُ عَليهم، عَلى أَفكارِهِم وِعَلى قَرارِهِم. وَخَطيئَةُ آدَمَ وَحوَّاءَ هيَ الكِبْرِياءُ، وَالتَّمرُّدُ على الرَّب.

6 وقالَ الرَّبّ: "هُوَذا هُم شَعبٌ واحِد ولجَميعِهم لُغَةٌ واحِدة، وهذا ما أَخَذوا يَفعَلونَه. والآنَ لا يَكُفُّونَ عَمَّا هَمُّوا بِه حتَّى يَصنَعوه.
7 فلْننزِلْ ونُبَلْبِلْ هُناكَ لُغَتَهم، حتَّى لا يَفهَمَ بَعضُهم لُغَةَ بَعض".

نَتيجَةُ الكِبْرِياءِ، العِقَابُ منَ الرَّبّ. نُلاحِظُ هُنا، اسْتِعمالَ عِبارةٍ جَديدَةٍ "اللُّغَةُ الواحِدة" مَكانَ "الإِسم الواحِد".
أَللُّغَةُ كَانَتِ الوَسيلَةُ الأَسلَم وَالأَضْمن وَالأَنجَح لِتَشَتُّتِ هذا الشَّعبِ الـمُتمرِّد وَالـمُتكَبِّر على الرَّب.
هَبَّ الشَّعبُ لِكي يَضْمَنَ نَفسَهُ، إِلاَّ أَنَّ رَغبَتهُ لَيسَت رَغبَةَ الرَّبِ الَّذي أرادَ شَعبًا مِثالاً لِكُلِّ الشُّعوبِ، وَمُرسَلاً لِأَجلِ خلاصِ كُلِّ الشُّعوب. فَالخَطيئَةُ كَانت سَببَ نِعمةٍ، ظهَرَت في العَنصَرة أَو حُلولِ الرُّوحِ القُدس، بِموهِبةِ التَّكلُّمِ بِلغاتٍ مُختَلِفةٍ، على التَّلاميذ.

8 فَفَرَّقَهمُ الرَّبُّ مِن هُناكَ على وَجهِ الأَرض كُلِّها، فكَفُّوا عن بِناءِ المدينة.
9 ولِذلِكَ سُمِّيَت بابِل، لأنَّ الرَّبَّ هُناكَ بَلبَلَ لُغَةَ الأَرضِ كُلِّها. ومِن هُناكَ فَرَّقَهمُ الرَّبُّ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها.

هَاتانِ الآيَتان مَبنِيَّتانِ بِشَكلٍ مُتشابِكٍ (آ 8أ = 9ب) وَمِحوَرُهُما هوَ عَملُ الرَّبّ: "كَفُّوا عن بِناءِ الـمَدينَة، التي سُمِّيَت بَابل، لأَنَّ الرّب بَلبَلَ لُغةَ الأَرض". نُلاحِظُ غِيابَ "البُرجِ" هُنا، لِأَنَّ هَدفَ الكَاتِبِ لَيسَ تَحطيمَ الأَبراجِ العَالِية، وَلَكن اسْتَعمَلَهُ في الآياتِ السَّابِقة لِيَرمُزَ فيهِ إِلى كِبَرِ حَجمِ كِبرياءِ الشَّعبِ. أَمَّا المدينَةُ فَلم يَكتَمِل بِناؤُها، إلاَّ أَنَّها أُعطِيَت إِسمَ "بَابِل".
ألتَّسمِيَةُ "بَابِل" هُنا، لَها مَعنَيَان: الأوَّل هوَ بَلْبَلَ أَي غَيَّرَ لُغاتَ الشَّعبِ الواحِدِ، فَما عادُوا يَتكلَّمونَ اللُّغَةَ ذَاتَها، وَمَا عَادَ أَحدٌ يَفهَمُ لُغةَ الآخَر. وَالـمَعنى الثاني هوَ "مدينَةُ بَابِل" الوثَنيَّةِ، وَرَمزيَّتُها هي التَّمرُّد على الرَّبِ وَإِلغاءِ اسْمِهِ لِكي يَملِكَ الإِنسانُ على العَالَم. بِمعنًى آخَر "الكِبريَاء" وَ"إِلغاء ذِكرِ الرَّب" (راجع رؤ 17 – 18). فَالتَّعبيرانِ بَلْبَلَ وَبَابِل يَرمُزانِ، الواحِدةُ منهُم إِلى الـمَعصِيَةِ العُظمَى وَالثّانِية إلى العِقَابِ الكَبير بِتَعدُّدِ اللُّغات، لِكي لا يَفهَمَ الواحِد على الآخَر. هَكذا فَسَّرَ كاتِبُ النَّصِ في قِصَّةِ "بُرجِ بابِل" أَو "كِبرياءِ الشَّعب"، أَنَّ تعدُّدَ اللُّغاتِ عِقابٌ إلهيٌّ، أَمَّا حُلولُ الرّوحِ القُدس على التّلاميذِ وَتَكلُّمهم بِلُغاتٍ مُختَلِفةٍ كَانَ حَدثَ نِعمَةٍ وَعَملُ الرَّبِ في التَّاريخ. فَبَدلَ أَن يُفرِّقَ الرّوحُ القُدُس التَّلاميذَ بِإِعطائِهم مَوهِبةَ التَّكلُّمِ بِلغاتٍ جَديدَةٍ، هوَ وَحَّدهُم في سَبيلِ البِشَارَةِ وَإِعلانِ سرِّ قيامَةِ الرَّبِ يسوعَ من بَينِ الأَموات.

خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
لَيسَ لِلخَطيئَةِ الكَلمَةُ الأَخيرَةُ، هكَذا تُعَلِّمُنا قِراءَةُ العهدِ القَديمِ اليَوم. ألانعِزالُ هوَ آفةٌ يُعاني منها الإِنسانُ في زَمَنِنا الحَاضِر، فَيَقضيَ أَغلَبَ وَقتِهِ مع الشّاشَةِ في مكانٍ مُنعَزل. وَتحتَ شِعاراتٍ مثل "وسائِل التّواصُل"، يَختَبئُ شَيطانُ العُزلَةِ وَالفَردانيَّةِ وَغِيابِ اللّقاءِ الشَّخصيّ بِالآخَر، فَينتَشِرَ في عَالَمنا روحُ الموتِ وِاللاّمبالاة، بِسببِ البُعدِ عن الحياةِ الحقيقَيّةِ وِالاختِبَارِ الحياتيِّ. فَلنَطلُب منَ اللهُ القَادرِ أَن يُحوِّلِ شَرَّ الإِنسَانِ إِلى وَسيلَةٍ لِخلاصِهِ وَلِخَيْرِهِ، أَن يُنيرَ أَذهانَنا لِكي نَعرِفَ أَن نَستفيدَ من وسائلِ التّواصُل، فتَكونَ لنا وَسيلَةً لا وَثنًا.
كَما أَنَّ هذه القِراءَةُ تُعلِّمُنا أَيضًا، أَنَّ الشَّرَ يَنتَهي بِتَشْتيتِ أَنصَارِهِ وَتَشَرذُمهِم وَتَفكيكِ أَوصالِ العلاقَةِ بينَهُم. لِأَنَّ الانتِصارَ هوَ لِلرَّب دَائِمًا.
لِنَطلُبِ اليومَ موهِبةَ الرّوحِ القُدسِ، لِيَهبَنا نعمةَ التّمييزِ لكي نَختارَ دائِمًا الرَّبَ وَإِرادتَهُ، قبلَ البَدءِ بِمشاريعَ عَظيمَةٍ، قد تودِي بِنا إلى التَّمرُّد علَيهِ، كما شَعبِ بَابل.


تحميل المنشور