كَسر الكلمة - العهد القديم -22- أحد الأعمى

كَسر الكلمة - العهد القديم -22- أحد الأعمى

أحد شِفاء الأَعمى
سفر أشعيا: 42 / 6 – 8 + 16 - 18
6 أَنا الرَّبُّ دَعَوتُكَ في البِرّ وأَخَذتُ بِيَدِكَ وجَبَلتُكَ وجَعَلتُكَ عَهدًا لِلشَّعبِ ونورًا لِلأُمَم
7 لِكَي تَفتَحَ العُيونَ العَمْياء وتُخرِجَ الأَسيرَ مِنَ السِّجْن والجالِسينَ في الظُّلمَةِ مِن بَيتِ الحَبْس.
8 أَنا الرَّبُّ وهذا ٱسْمي ولا أُعْطي لِآخَرَ مَجْدي ولا لِلمَنْحوتاتِ حَمْدي.
16 وأُسَيِّرُ العُمْيانَ في طَريقٍ لم يَعرِفوه وأُسلِكُهم مَسالِكَ لم يَعهَدوها وأَجعَلُ الظُّلمَةَ نورًا أمامَهم والمُلتَوَياتِ مُستَقيمة. هذه الأُمورُ سأَصنَعُها ولا أَترُكُهم.
17 قدِ ٱرتَدُّوا إِلى الوَراءِ وخَزِيَ خِزْيًا المُتَوَكِّلونَ على المَنْحوتات القائِلونَ لِلمَسْبوكاتِ: أَنتُنَّ آلِهَتُنا.
18 أَيُّها الصُّمُّ ٱسمَعوا أَيُّها العُمْيانُ ٱنظُروا وأَبصِروا.

مقدّمة
إِنَّهُ الأحدُ الأَخيرُ الَّذي يَجْتَرِحُ فيهِ الرَّبُّ يَسوعُ الأَعاجِيبَ، بِحَسَبِ تَقاسيمِ قِراءاتِ زَمنِ الصَّومِ في كَنيسَتِنا الـمَارونِيَّة. إِنَّ أُعجوبَةَ شِفاءِ أَعمى أَريحا هيَ خَاتِمَةُ أَعاجيبِ الرَّبّ بِحَسَبِ الإنجيليِّينَ الإِزائِيّين. بَعدَ الأُعجوبَةِ الأُولى وَشِفاءِ الـمُخلَّع، أَليَومُ، الأُعجوبَةُ الثّانيَةُ وَالأَخيرَةُ لِأُسبوعَا العَجائِب، فيهَا يُنيرُ الرَّبُّ عُيونَ الأَعمى، فَيُظهِرُ أَنَّهُ سَيِّدُ النُّورِ وَالحَياةِ ولا سُلطانَ للظَّلامِ وَلِلموتِ على كُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بهِ (مر 10 / 46-52). أَمَّا قِراءَةُ العهدِ القَديمِ من سِفرِ أَشعيا، فَهيَ مُختارَةٌ مِن نَشيدِ عبدِ الرَّبّ (أش 42 / 1 - 9) وَالقِسمِ الثّاني (42 / 16 - 18) من نَشيدٍ آخَرَ يَدعو فيهِ النَّبيُّ الشَّعبَ لِتَسبيحِ الرَّبِّ الـمُعطي العُميانَ البَصَرَ وَالصُّمَّ السَّمَع. إِلاَّ أَنَّ القِسمَينِ هما وِحدةٌ مُتكَامِلَةٌ من "كتابِ التَّعزية" (40 - 55).
في هَاتَانِ القِراءَتانِ الإنجيلِ وَسفرِ أشعيا، تُسَلِّطُ كَنيسَتُنا الضَّوءَ على قُدرَةِ الرَّبِّ الَّتي تَغْلِبُ الشَّرَّ بِالخَيرِ وَالظُّلمَةَ بِالنُّورِ، لِأَنَّ الرَّبَّ هوَ الطَّريقُ وَالنورُ وَالحَياةُ. معَ نِهَايَةِ زمنِ الصَّومِ، يَنتَقِلُ الصَّائِمونَ منَ الظُّلمَةِ إِلى نورِ مَعرِفَةِ الرَّبِّ الحَقَّةِ، لِكي يُشَارِكُوا فَرَحَ القِيامَةِ بَعدَ الآلامِ. هَذهِ هيَ مَسيرَةُ النَّفسِ البَاحِثَةِ بلا مَلَلٍ عَنِ الرَّبِّ، بِهدَفِ مَعرِفَتِهِ وَالتَّمتُّعِ بِجمَالِهِ، تَنتَقِلُ من ظُلمَةِ الجَهلِ إِلى نُورِ الـمَعرِفةِ وَالحَقيقَةِ. فَالنَّفسُ لا تَعلَمُ مَعنى النُّورِ من دونِ اخْتِبَارِ الظُّلمَةِ، فَفي التَّجرِبَةِ تتطّهَرُ البَصيرَةُ وَتَنفَتِحُ العُيونُ على نورِ الحَقيقَة.
مقدِّمة مُختَصَرَة لِأَشعيا الثَّاني أَو الفُصول 40 – 55:
تُخْبِرُنا هَذهِ الفُصولُ عَن انتِصَارِ الفُرسِ عَلى البابِلِيِّينَ وَاقْتِرابِ تَحريرِ الشَّعبِ الإِسرائيلِيِّ مِن عُبودِيَّةِ البابِلِيِّينَ وَعَودَتِهِم إِلى أَرضِهم (550 – 539 ق.م.). في هَذهِ الحَقَبَةِ من انتِصَاراتِ مَلِكِ الفُرسِ قُورُشَ على البابِلِيِّينَ، ظَنَّ بَعضُ الـمَجلُوِّينَ اليَهودِ أَنَّ آلِهةَ الوثَنِيِّينَ هُم الَّذينَ نَصَرُوا الفارِسِيِّينَ. فَقَامَ نَبِيًّا من بينِهِم مَجهولَ الهُوِيَّةِ، سَمَّاهُ العُلماءُ أشعيا الثّاني، لِيُذَكِّرَ الشّعبَ اليَهودِيَّ بِأَنَّ الرَّبّ الَّذي أَخرَجهُم من أَرضِ مِصرَ هوَ نَفسُهُ مُخَلِّصُهم وَمُحرِّرُهُم منَ البابِليِّينَ، ولا إِلهَ سِواهُ. أَمَّا لَقَب "عَبد الرَّبّ" فَهو مَجهولُ الهوِيَّةِ ولا يُمكِنُنا تَحديدُهُ في شَخصٍ أَو مَجموعةٍ واحِدَة، لِأَنَّهُ يُعبِّرُ حينًا عَن الشَّعب الإسرائيليّ، حينًا آخَر عن قورُشَ المسيحُ الوثنيُّ الَّذي كانَ أَداةَ خلاصٍ في يَدِ الرَّبّ لِتَحريرِ اليهود (راجع 41 / 1 - 7)، وَأَيضًا، يَعني أَشعيا الثاني أو نُخبةُ الشَّعبِ اليهوديّ.

تفسير الآيات
6 أَنا الرَّبُّ دَعَوتُكَ في البِرّ وأَخَذتُ بِيَدِكَ وجَبَلتُكَ وجَعَلتُكَ عَهدًا لِلشَّعبِ ونورًا لِلأُمَم
7 لِكَي تَفتَحَ العُيونَ العَمْياء وتُخرِجَ الأَسيرَ مِنَ السِّجْن والجالِسينَ في الظُّلمَةِ مِن بَيتِ الحَبْس.
8 أَنا الرَّبُّ وهذا ٱسْمي ولا أُعْطي لِآخَرَ مَجْدي ولا لِلمَنْحوتاتِ حَمْدي.

هَذِهِ الآياتُ الثّلاثُ مُختارَةٌ من أَوَّلِ نَشيدٍ لِعبدِ الرّبِّ. يَصِفُ النَّبيُّ عبدَ الرَّبّ بِرَسولٍ أَفاضَ الرَّبُ عَليهِ من روحِهِ (42 / 1) وَبَعثَهُ لِيُخلِّصَ الشَّعبَ. نُلاحِظُ الوِحْدَةَ الَّتي تَصِلُ هذه الآياتُ بَعضَها بِبَعض من خِلالِ تَكْرارِ العِبارَة "أنا الرًّبُّ" لِيُسَطِّرَ النَّبيُّ أَنَّ الرَّبَّ هوَ إِلهُ إِسرائِيلَ وَحدَهُ، هوَ مُخَلِّصُهُم من أَعْدَائِهِم. يَختَلِفُ العُلماءُ حولَ جَذرِ الفعل נצר في الآية 6 الَّذي يَعني "حَفَظَ" والـمُتَرجَمُ هُنا بـ "جَبَلَ" أَي יצר وَالَّذي يَطرَحُ إِشْكالِيَّةً على الـمُستَوى التَّراتُبيِّ لِلأَحْداثِ، إِذْ دَعَا الرَّبُّ عبْدَهُ وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَي عَلَّمهُ سُبُلَهُ وَوَصايَاهُ، فَكيفَ من بَعدِ هذا كُلِّهِ "جَبَلَهُ"؟ لِذا تَصْحيحًا لِهَذهِ العِبَارَةِ نُعيدُ الجَذرَ الأَصليَّ في النَّصّ العِبريّ أي נצר أَو "حَفِظتُكَ". يَتسَاءَلُ القَارِئُ عَن هُوِيَّةِ هَذا العَبْدِ الـمُميَّز عِندَ الرَّبّ؟ منَ الـمُفتَرَضِ أَن يَكُونَ أَشعيا الثّاني الَّذي يَعْتَبِرُ أَنَّ الرَّبَّ اخْتارَهُ في الحقَبَةِ القَريبَةِ منَ الخُروجِ من بَابِلَ، لِيذَكِّرَ الشَّعبَ بِخَلاصِ الرَّبّ لَهُم وَيُحَضِّرَهُم بِإِعلانِ كَلمةِ الرَّبّ الَّتي هيَ نورٌ لِبَصيرَتِهِم وَحُرّيةً لِـمَن هوَ أَسيرُ الأَفكارِ الـمُضَلِّلَة وَخاصَّةً عِبادَةِ الأَوثانِ (راجع مز 107).
أَمَّا عِبارَةُ "أَنا الرَّبُّ" فَتَرِدُ 195 مرَّةً في العهدِ القديمِ، خاصَّةً في أَسفارِ الخُروج، اللاَّويِّين، أَشعيا وَحزقيّال وهي العِبارَةُ الَّتي عَرَّفَ الرَّبُ بها عَن نَفسِهِ لِـموسَى النَّبيّ (خر 3 / 14)، وَتُستَعمَلُ في وَجهِ التيَّاراتِ الوثَنيَّةِ وَعِبادَاتِ الأوثان.

16 وأُسَيِّرُ العُمْيانَ في طَريقٍ لم يَعرِفوه وأُسلِكُهم مَسالِكَ لم يَعهَدوها وأَجعَلُ الظُّلمَةَ نورًا أمامَهم والمُلتَوَياتِ مُستَقيمة. هذه الأُمورُ سأَصنَعُها ولا أَترُكُهم.
17 قدِ ٱرتَدُّوا إِلى الوَراءِ وخَزِيَ خِزْيًا المُتَوَكِّلونَ على المَنْحوتات القائِلونَ لِلمَسْبوكاتِ: أَنتُنَّ آلِهَتُنا.
18 أَيُّها الصُّمُّ ٱسمَعوا أَيُّها العُمْيانُ ٱنظُروا وأَبصِروا.

نُلاحِظُ في هذهِ المجموعَةُ الأَخيرَةُ تَغَيُّرًا في الأُسْلوبِ وَغِيَابُ العِبارَةِ الرِّباط بينَ الآيات، هذا، لأَنَّ هذه الآياتُ تُؤَلِّفُ قِسْمًا من نَشيدٍ جَديدٍ لا صِلةَ لهُ وَنَشيدَ العَبدِ الأَوَّل، بَل مَضْمونُهُ وَرسالَتُهُ يَخْتَلِفَانِ. يَمتازُ هذا النَّشيدُ بِدَعوَةِ الشَّعبِ لِإنْشادِ نَشيدٍ جَديدٍ لِلرَّبّ، كما يَدعو أَيضًا الطَّبيعَةَ وَما فيها لِلمُشارَكَةِ بِالإنشادِ لِلرَّبّ. كما يَتميَّزُ بِأُسلوبِهِ الغِنائيِّ الحِوارِيِّ، فَيَجعَلَ الرَّبَّ يَخْرُجُ من صَمتِهِ الطَّويلِ لِيُخَلِّصَ شَعبَهُ (آيات 13 - 17). فَالآيةُ 16 تَحتَوي عَلى صُوَرٍ من سِفرِ الخروج تُذَكِّرُنا بِعنايَةِ الرَّبِّ بِشَعبِهِ، حينَ قَادَهُ في الصَّحراءِ في عَامودٍ من غمامٍ وَعَامودٍ من نار ٍ(خر13 / 21 - 22). يَعِدُ الرَّبُّ هُنا شَعبَهُ بِخلاصِهِ وَتَحْريرِهِ من بَابِلَ، وَهَذَا الأمرُ سَيُتَمِّمُهُ هوَ بِنَفسِهِ كما فَعَلَ سَابِقًا. هَذهِ الأُمورُ لا أَحدَ سِوَى الرَّبِّ يُمكِنُهُ أَن يُنْجِزَها، فلا المنحوتاتِ وَلا الـمَسْبوكَاتِ التي يَعبُدُها الوثنِيُّونَ قَادِرةٌ عَلى إِنجازِ هذا الخَلاص. هَذهِ الآيةُ 17 موَجَّهةٌ لِـمَن آمَنَ من شَعبِ إسرائِيلَ، بِالخلاصِ الَّذي نَسَبَهُ الفُرسُ لِآلِهَتِهم، فَتاهُوا عَنِ الحَقيقَة. وَمعَ الآيةِ 18، التي يَقْتَرِحُها بعضُ الشُّراحِ كَآيَةٍ خِتامِيَّةٍ لِنَشيدِ التَّسبيحِ للرَّبِّ، تَبْقَى دَعوَةً لِلشَّعبِ الَّذي ضَلَّ وَتاهَ عن مَعرِفةِ الرَّبِّ، فَأَعمَتِ الأوثانُ بَصيرَتهُ وَسُدَّتْ آذانُهُ عنِ الحقيقَة.
فَعَودَةُ البَصيرَةِ وَالإِصغاءِ هُما رَهْنُ إِرادَةِ الإِنسَانِ وَإِيمانِهِ، حتَّى الرَّبُّ نَفسُهُ لا يَسْتَطيعُ أَن يَهَبَ البَصَرَ ولا السَّمعَ لِـمَنْ لا يُريدُ. في إِنجيلِ مرقُسَ هَتَفَ أَعمى أَريحَا مُصِرًّا عَلى الشِّفاءِ وَالبَصَرِ: "فلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَاصِرِيّ، بَدَأَ يَصْرُخُ ويَقُول: «يَا يَسُوعُ ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!». فَانْتَهَرَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ لِيَسْكُت، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْدَادُ صُرَاخًا: «يَا ابْنَ دَاوُدَ ارْحَمْنِي!». فوَقَفَ يَسُوعُ وقَال: «أُدْعُوه!». فقَالَ لَهُ يَسُوع: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ لَكَ؟». قالَ لَهُ الأَعْمَى: «رَابُّونِي، أَنْ أُبْصِر!». فقَالَ لَهُ يَسُوع: «إِذْهَبْ! إِيْمَانُكَ خَلَّصَكَ»." (مر 10 / 47 - 52).

خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
تَدعونا قِراءَةُ النَّبيّ أَشعيا إلى البَحْثِ في أَعماقِنا عَن أَصنامٍ أَعْمَتْ عُيونَنَا عَنِ البَصَرِ وَآذانَنا عَنِ الإِصغاء. فَيَأتي نَصُّ أَعمى أَريحَا لِيَضَعَ أَمامَنا مَثلاً نَقتَدي بِهِ لِنتَحَرَّرَ من ظُلُماتِ بَصائِرِنا وَآذانِنَا، فَلْنَصْرُخُ معهُ مُصَمِّمينَ على الشِّفَاءِ: "يا ابنَ دَاوُد ارحَمني! رابّوني! أُريدُ أَن أُبْصِر". في آخِرِ أَيَّامِ زَمنِ الصَّومِ، لِنَطْلُب منَ الرَّبِّ النُّورَ لِعالَمِنا وَوَطَنِنَا وَالأَهمّ لِعُيونِنا الدّاخِليَّةِ، لِنتمكَّنَ من رُؤيَةِ نورِ القِيامَةِ وَالفَرحِ مع الرَّبّ وَالرَّجاءِ بِالرّوح في وَسَطِ الضّيقَاتِ وَالمآسي.


تحميل المنشور