كَسر الكلمة - الرسائل -57- الأحد الثاني بعد عيد الصليب

كَسر الكلمة - الرسائل -57- الأحد الثاني بعد عيد الصليب

خراب أورشليم 
الآيات (1 قور 15:19-34)
19 إِنْ كُنَّا نَرْجُو الـمَسِيحَ في هـذِهِ الـحَيَاةِ وحَسْبُ، فَنَحْنُ أَشْقَى النَّاسِ أَجْمَعِين!
20 وَالـحَالُ أَنَّ الـمَسِيحَ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، وهُوَ بَاكُورَةُ الرَّاقِدِين.
21 فَبِمَا أَنَّ الـمَوْتَ كَانَ بِوَاسِطَةِ إِنْسَان، فَبِوَاسِطَةِ إِنْسَانٍ أَيْضًا تَكُونُ قِيَامَةُ الأَمْوَات.
22 فَكَمَا أَنَّهُ في آدَمَ يَمُوتُ الـجمِيع، كَذلِكَ في الـمَسِيحِ سيَحْيَا الـجَمِيع،
23 كُلُّ وَاحِدٍ في رُتْبَتِه: الـمَسِيحُ أَوَّلاً، لأَنَّهُ البَاكُورَة، ثُمَّ الَّذِينَ هُمْ لِلمَسِيح، عِنْدَ مَجِيئِهِ.
24 وَبَعْدَ ذـلِكَ تَكُونُ النِّهَايَة، حِيْنَ يُسَلِّمُ الـمَسِيحُ الـمُلْكَ إِلى اللهِ الآب، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبْطَلَ كُلَّ رِئَاسَةٍ وكُلَّ سُلْطَانٍ وَقُوَّة،
25 لأَنَّهُ لا بُدَّ لِلمَسِيحِ أَنْ يَمْلِك، إِلى أَنْ يَجْعَلَ اللهُ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ تَحْتَ قَدَمَيه.
26 وآخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الـمَوْت.
27 لَقَدْ أَخْضَعَ اللهُ كُلَّ شَيءٍ تَحْتَ قَدَمَيْه. وَحِينَ يَقُولُ الكِتَاب: "أُخْضِعَ لَهُ كُلُّ شَيء"، فَمِنَ الوَاضِحِ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي اللهَ الَّذي أَخْضَعَ لَهُ كُلَّ شَيء.
28 ومَتَى أُخْضِعَ لِلابْنِ كُلُّ شَيء، فَحِينَئِذٍ يَخْضَعُ الاِبْنُ نَفْسُهُ لِلَّذي أَخْضَعَ لَهُ كُلَّ شَيْء، حَتَّى يَكُونَ اللهُ الكُلَّ في الكُلّ.
29 وإِلاَّ فَمَاذَا يَفْعَلُ الَّذِينَ يَتَعَمَّدُونَ مِنْ أَجْلِ الأَمْوَات؟ إِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لا يَقُومُونَ أَبَدًا، فَلِمَاذَا يَتَعَمَّدُونَ مِنْ أَجْلِهِم؟
30 ونَحْنُ، فَلِمَاذَا نُعَرِّضُ أَنْفُسَنَا كُلَّ سَاعَةٍ لِلخَطَر؟
31 أُقْسِمُ، أَيُّهَا الإِخْوَة، بِمَا لي مِنْ فَخْرٍ بِكُم في الـمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا، أَنِّي أُوَاجِهُ الـمَوْتَ كُلَّ يَوْم.
32 إِنْ كُنْتُ صَارَعْتُ الوُحُوشَ في أَفَسُس، لِغَايَةٍ بَشَرِيَّة، فأَيُّ نَفْعٍ لي؟ وإِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لا يَقُومُون، فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَب، لأَنَّنَا غَدًا سَنَمُوت!
33 لا تَضِلُّوا! إِنَّ الـمُعَاشَرَاتِ السَّيِّئَةَ تُفْسِدُ الأَخْلاقَ السَّلِيمَة!
34 أَيْقِظُوا قُلُوبَكُم بِالتَّقْوَى، ولا تَخْطَأُوا، فَإِنَّ بَعْضًا مِنْكُم يَجْهَلُونَ الله! أَقُولُ هـذَا لإِخْجَالِكُم!

مقدّمة
أراد بولس الرسول، في هذا الفصل، ما قبل الأخير من رسالته إلى أهل قورنتس، أن يُذكّر الجميع بالبشارة الَّتي تلقَّوها سالفًا. فهي عربون خلاصهم، لأنَّها مُرتكزة على موت المسيح وقيامته، وتكلَّم على إثباتٍ حقيقيّ وهو ظهور يسوع للكثيرين وآخرُهم هو نفسه (راجع 1 قور 15: 6-8). ثمَّ دخل في إثباتٍ منطقيّ، ليُظهر أنَّ الإيمان الَّذي تسلَّمه أهل قورنتس، يكون باطلًا إن لم يؤمنوا بقيامة الموتى، أي بقيامة المسيح، الَّتي هي عربون قيامة المؤمنين.
يأتي مقطع رسالة هذا الأحد (1 قور 15: 19-34)، ليُكمّل المنطق الَّذي بدأ به بولس، مُعلّلًا أهميَّة الحفاظ على البشارة الَّتي تلقاها منه أهل قورنتس، بما فيها حقيقة قيامة المسيح. فالرجاء الحقيقيّ ليس بما يَفنى، بل بما يدوم؛ وما أشقى مَن "يرجو المسيح في هذه الحياة فقط" (1 قور 15: 19). يُعيد بولس إعلان الحقيقة بأنّ يسوع قام، وهو أوَّل من قام، ليكون عربون قيامة كلّ إنسانٍ يتَّحد به. 

شرح الآيات
19 إِنْ كُنَّا نَرْجُو الـمَسِيحَ في هـذِهِ الـحَيَاةِ وحَسْبُ، فَنَحْنُ أَشْقَى النَّاسِ أَجْمَعِين!
الَّذين لا يؤمنون بالقيامة ويعتقدون بأنَّ الَّذين ماتوا هلكوا إلى الأبد، قد تخلَّوا عن الرجاء. كان بولس يعرف أنَّه لا يمكن أن تكون هناك رسالة رجاءٍ للبشريَّة سوى رسالة القيامة الجسديَّة للمسيح. تُبنَى رسالة الإنجيل على أنَّ يسوع قام من الأموات. ولو كانت هذه الرسالة كاذبة، لكان ذلك يعني أنَّه لا يوجد رجاء. وفي هذه الحالة، يكون المسيحيُّون "أشقى النَّاس أجمعين".
لم يفسّر بولس ما يحدث بين الوقت الَّذي يرقد فيه الانسان وبين اللَّحظة الَّتي يأتي فيها الرَّبُّ ثانيةً ليقيم الموتى. فهل تبدأ الحياة في جسم القيامة عند الموت، أم عندما يأتي الرَّبُّ ثانيةً؟ لم يَقُل بولس شيئًا عن هذا. إنَّما الشيءُ المؤكَّد هو أنَّ الحياة الأبديَّة ستكون في هيئةٍ جسديَّة ممجَّدة. لا الجسد الماديّ، ولا الأشياء الماديَّة شرٌّ بطبيعتها. الشرُّ والخطيئة هما نتيجةٌ للخيارات الأخلاقيَّة الَّتي يتَّخذها النَّاس، وليس الأشياء الَّتي تَكوَّن منها الجسد.

20 وَالـحَالُ أَنَّ الـمَسِيحَ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، وهُوَ بَاكُورَةُ الرَّاقِدِين.
بعد أن صورَّ بولس عتمة المشهد من دون رجاء القيامة (راجع 1 قور 15: 13-19)، أكَّد حقيقة قيامة يسوع وكلّ ما تنطوي عليه. في الواقع، بما أنَّ "المسيح قام من بين الأموات"، فقد صار "باكورة الرَّاقدين". مرَّةً أخرى، يتكلَّم بولس على الرقاد كاستعارةٍ للموت. استند بولس إلى جذور العهد القديم في شرح مفهومه. كان على الشَّعب تقديم باكورة ثمار الأرض لله كعمل تسبيحٍ شعائريّ (راجع تث 26: 1-2). كانت باكورة الثّمار بمثابة بشائرَ بمجيء المزيد في المستقبل؛ بل وكانت أيضًا بدايات الحصاد. استخدم بولس في مكانٍ آخر كلمة "باكورة" كنايةً عن منح الله الرُّوح السَّاكن في المؤمنين، إذ هم ينتظرون بلهفةٍ "التبنّي، أي افتداء أجسادهم" (روم 8: 23).
أظهرت القيامة قوَّة الله بأنّه قادرٌ على إقامة الموتى. قيامة يسوع هي أكثر من مجرَّد حدثٍ تاريخيٍّ من الماضي؛ كان هو باكورة الحصاد مشيرًا إلى أنَّ الحصاد قد بدأ. فإنَّ قيامته من الأموات أدَّت إلى أكثر من إيمانٍ راسخٍ بقوَّة الله والقبر الفارغ، أصبح يسوع "البداية الحقيقيَّة للحصاد"؛ في يسوع دخلت القيامة الأبديَّة بالفعل في تاريخ البشريَّة. 

21 فَبِمَا أَنَّ الـمَوْتَ كَانَ بِوَاسِطَةِ إِنْسَان، فَبِوَاسِطَةِ إِنْسَانٍ أَيْضًا تَكُونُ قِيَامَةُ الأَمْوَات.
أكَّد بولس على الآثار الأبديَّة البعيدة المدى للتجسُّد، وقد فعل ذلك بمقارنة يسوع مع آدم. أكَّد بولس على أنَّ العالم قد تأثَّر  تأثُّرًا قويًّا من خلال خطيئة آدم وحوَّاء. ولكن تمَّت الغلبة على هذا التأثير من خلال مجيء المسيح. كما جاءت الخطيئة والموت من خلال آدم، هكذا جاء الغفران والرجاء (قيامة الأموات) من خلال يسوع، الإله الكامل والانسان الكامل. بالنسبة إلى منطق بولس، يجب أن يقبل الانسان الشهادة بأنَّه كما "كان الموت بواسطة إنسان (آدم)، فبواسطة إنسانٍ (يسوع) أيضًا تكون قيامة الأموات". بقيامة المسيح سيُقام الجميع مخلَّصين ليحيوا إلى الأبد. 

22 فَكَمَا أَنَّهُ في آدَمَ يَمُوتُ الـجمِيع، كَذلِكَ في الـمَسِيحِ سيَحْيَا الـجَمِيع،
استخدم بولس مِثَال آدم لمساعدة أهل قورنتس على فهم عمل الله في المسيح، مع أنَّ أوجه التشابه بين الاثنين غير حقيقيَّة. أظهر الانسان الأوَّل قوَّة الخطيئة للإغراء. كان عصيان آدم تصرُّف إنسانٍ، كما يتصرَّف الانسان: اختار هو ونسله الخطيئة. وبهذه الخطيئة الَّتي تجلَّت لأوَّل مرَّةٍ في آدم، "يموت الجميع". باتّباع نمط آدم وحوَّاء، يُثبت البشر أنَّهم في عداوةٍ مع الله. أمَّا المسيح فقد أظهر حقيقة حياة البشر: يمكن للنَّاس أن يتَّخذوا خياراتهم في الخير كما في الشرّ. لكن "في المسيح سيحيا الجميع" ليجدوا فيه الفداء والمصالحة مع الله.
فإذا كانت عواقب سلوك آدم والمسيح موازية، فإنَّ الموت الجامع الَّذي بدأ مع آدم سيتبعه خلاصٌ جامع في المسيح. غير أنَّ بولس كان يعرف أنَّ البعض لا يقبلون المسيح. لقد قدَّم المسيح تقدمة جامعة وخيارًا جامعًا. يمكن لكلٍّ من اليهود والأمم أن يرجعوا إلى المسيح، الَّذي ليس عنده محاباة. بالنسبة إلى الَّذين يختارونه "سيحيون فيه".

23 كُلُّ وَاحِدٍ في رُتْبَتِه: الـمَسِيحُ أَوَّلاً، لأَنَّهُ البَاكُورَة، ثُمَّ الَّذِينَ هُمْ لِلمَسِيح، عِنْدَ مَجِيئِهِ.
واصل بولس كلامه على موضوع قيامة الموتى بقوله إنَّ "المسيح (أُقِيم) أوَّلًا". عندما يظهر للمرَّة الثَّانية "عند مجيئه"، سيقوم جميع "الَّذين هم للمسيح". أكَّد بولس أنَّ "كلّ واحدٍ" سيقوم "في رتبته" الخاصَّة به. وقد استخدم كلمة "مجيئه" (parousía باللغة اليونانيَّة)، أي "ظهوره"، بمعنى المجيء الثَّاني للرَّبّ عند نهاية الزمن، وكيفيَّة عيش المسيحيّن في الزمان ما بين المجيء الأوَّل للمسيح ومجيئه الثَّاني.
قبل المجيء الثَّاني، حتَّى في الوقت الحالي، المسيح هو "باكورة" القيامة. لقد بدأت فيه قيامة الأموات. ومع ذلك، هناك شيءٌ مستقبليٌّ. لقد قام يسوع من بين الأموات، ولكنَّ أتباعه لن يعرفوا القيامة حتَّى يأتي الرَّبُّ مرَّةً أخرى. 

24 وَبَعْدَ ذـلِكَ  تَكُونُ النِّهَايَة، حِيْنَ يُسَلِّمُ الـمَسِيحُ الـمُلْكَ إِلى اللهِ الآب، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبْطَلَ كُلَّ رِئَاسَةٍ وكُلَّ سُلْطَانٍ وَقُوَّة،
مجيء الرَّبّ، و"النهاية" سيحدثان في آنٍ واحد. وبمفهومٍ ما، بدأ حكم يسوع عند صعوده وسيستمرّ حتَّى يأتي مرَّةً أخرى ديَّانًا وربًّا. يرتبط المجيء الأوَّل بالمجيء الثَّاني ارتباطًا وثيقًا، بحيث يستحيل الكلام على أحدهما من دون الآخر. يُصوّر بولس المسيح دائمًا على أنَّه "يملك عن يمين الله" (راجع روم 8: 34؛ أف 1: 20؛ قول 3: 1).
عند المجيء الثَّاني للرَّبّ، لن تقتصر الكنيسة على المملكة الأرضيَّة، إذ يكون عمل المسيح الفدائيُّ قد اكتمل، والله سيكون "الكلَّ في الكلّ" (1 قور 15: 28). "سيسلّم المسيح الملك إلى الله الآب بعد أن يكون قد أبطل كلَّ رئاسةٍ وكلَّ سلطانٍ وقوَّة". فمهما كانت القوَّات المتعارضة الموجودة في السماويَّات (راجع قول 1: 16)، أو الَّتي تتحدَّى ملك المسيح في الدهر الحاضر، فستخضع تحت سلطانه. لم يكن بولس يشير هنا إلى أنَّ المسيح لن يكون مستحقًّا بعد "كلَّ رئاسةٍ وكلَّ سلطان وقوَّة"، بل كان يؤكّد أنَّ تصميم الله الكامل لفداء البشر سيكتمل. 

25 لأَنَّهُ لا بُدَّ لِلمَسِيحِ أَنْ يَمْلِك، إِلى أَنْ يَجْعَلَ اللهُ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ تَحْتَ قَدَمَيه.
"لا بدَّ للمسيح أن يملك" على كنيسته. أكَّد بولس في الآية السَّابقة أنَّ المسيح "سيُبطل كلَّ رئاسةٍ وسلطان"، ولكن، ما يعود إليه الضَّمير في العبارة "إلى أن يجعل الله جميع أعدائه تحت قدميه" يطرح السؤال: هل هو الله الَّذي يضع كلَّ شيءٍ تحت قدَمَي المسيح، أم المسيح نفسه هو الَّذي يُخضع كلَّ قوَّةٍ أخرى؟  تربط كلمة "لأنَّه" ما ورد هنا بالآية السَّابقة الَّتي تتكلَّم على المسيح. لكنَّ الله هو بكلّ وضوح الفاعل في المزمور الَّذي اقتبسه بولس هنا (مز 8: 6). على ما يبدو، إنَّ الله هو أيضًا الفاعل في هذه الآية: الله هو الفاعل ومصدر القوَّة، والمسيح هو الَّذي يُخضع كلَّ شيء.
المسيح المتجسّد، الَّذي خلَّص البشر من الخطيئة، يملك في الفترة الفاصلة بين صعوده إلى السماء وظهوره في نهاية الدّهر. وأيًّا يكن التمييز الَّذي تجب الإشارة إليه بين مُلك الآب ومُلك الابن فهو محجوبٌ في سرّ الثَّالوث الأقدس.

26 وآخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الـمَوْت.
الموت من الناحية الماديَّة يعني وقف النَّفَس، نهاية الوعي والحركة، لكن في أوَّل إشارةٍ للموت (راجع تك 2: 17) في الكتاب المقدَّس، أشار الله إلى أنَّ له بُعدًا يتخطَّى المادَّة. سواء تمَّ تجسيده كـ"حاصد الأرواح" أو "آخر عدوّ"، فإنَّ الموت هو نقيض الحياة. لكنَّ يسوع سلب الموت شوكته (راجع 1 قور 15: 55-56)، وقد جاء لكي تكون للناس حياةٌ أفضل (راجع يو 5: 24؛ 10: 10). ليس فقط لأنَّ القيامة مضمونة للمؤمنين بقيامة يسوع، الَّذي هو الباكورة، بل أيضًا لأنّ قيامة يسوع تضمن انتصاره النهائيّ على جميع الأعداء، حتَّى "الموت" نفسه. إلى أن يأتي المسيح مرَّةً أخرى، تكون للخطيئة والموت قوَّةٌ في عالم البشر. لكن في النهاية سيُبطَل هذا أيضًا. 

27 لَقَدْ أَخْضَعَ اللهُ كُلَّ شَيءٍ تَحْتَ قَدَمَيْه. وَحِينَ يَقُولُ الكِتَاب: "أُخْضِعَ لَهُ كُلُّ شَيء"، فَمِنَ الوَاضِحِ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي اللهَ الَّذي أَخْضَعَ لَهُ كُلَّ شَيء.
عبارة: "وحين يقول الكتاب"، قد تعني: "حين يقول الكتاب المقدَّس"، أو "حين يقول الله"، أو "حين يقول الله في الكتاب المقدَّس". هذا ما أراد بولس توضيحه. قال بولس: "فمن الواضح أنَّه يستثني الله الَّذي أخضع له كلَّ شيء". إنَّ الله الآب لم يُخضَع للابن، بينما لا يمكن الفصل بين الآب والابن من حيث الـمُلك والمجد، إلَّا أنَّ بولس لم يتردَّد في التشديد على أولويَّة الآب. والكتاب المقدَّس لا يتحدَّث أبدًا عن الآب بأنَّه يخضع للابن. أعطى الآب مهمَّةً للابن (راجع يو 5: 36)، وعمل الابن مشيئة الآب (راجع يو 4: 34).
شدَّد بولس على أنَّ العمل الفريد، الَّذي قام به يسوع في تجسُّده، قد أهَّله ليملك على مملكته (راجع أف 1: 22-23)، ولكنَّ مُلكَه يتوافق مع سيادة الله الآب.

28 ومَتَى أُخْضِعَ لِلابْنِ كُلُّ شَيء، فَحِينَئِذٍ يَخْضَعُ الاِبْنُ نَفْسُهُ لِلَّذي أَخْضَعَ لَهُ كُلَّ شَيْء، حَتَّى يَكُونَ اللهُ الكُلَّ في الكُلّ.
في هذه الآية، وفي بداية الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس (1 قور 1: 9)، أشار بولس إلى يسوع على أنَّه "ابن" الله. لم يُشِر بولس إلى الآب والابن، كما لو كانا يتنافسان بعضهما مع بعض من أجل السيادة. فللآب والابن فكرٌ واحدٌ، وكيانٌ واحدٌ مع الروح القدس (راجع 1 قور 6: 19؛ 12: 3)، وهم إلهٌ واحد. التمييز، الَّذي أشار إليه بولس، له علاقةٌ بدور يسوع كمخلّص شعبه ورئيسه. عند مجيئه الثَّاني للدينونة وقيامة الموتى، "يخضع الابن نفسه للَّذي أخضع له كلَّ شيء، حتَّى يكون الله الكلَّ في الكلّ". أي إنَّه بين صعود الابن إلى السماء وظهوره في نهاية الدهر (راجع 1 قور 15: 24)، يوجد للابن قدرٌ من الـمُلكِ والسلطان اللَّذين يرافقان حياته وموته في عالم البشر. حتَّى في وقتنا الحاضر، فإنَّ سلطان الابن ليس على حساب مجد الآب أو سيادته، لأنَّه أعطى الابن مهمَّةً على أساس تجسُّده، والاثنان متَّحدان تمامًا في التدبير الخلاصيّ لفداء الانسان.
ما أراد بولس قوله هنا هو أنَّ قيامة الموتى، هي ما يربط الإيمان بالمعلّم الإلهيّ، يسوع المسيح، لعيش حياةٍ جذريَّة. فإن لم يكن هناك احتمالٌ للحياة في الدهر الآتي، يكُنْ الجاهل فقط هو الَّذي يُخضع نفسه للخطر، والمعاناة، والموت، ليكون من تلاميذ يسوع. لذا، لا تُعتبر قيامة الجسد مُلحقًا للإيمان المسيحيّ، بل في لُبّه.

29 وإِلاَّ فَمَاذَا يَفْعَلُ الَّذِينَ يَتَعَمَّدُونَ مِنْ أَجْلِ الأَمْوَات؟ إِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لا يَقُومُونَ أَبَدًا، فَلِمَاذَا يَتَعَمَّدُونَ مِنْ أَجْلِهِم؟
حاول المفسّرون شرح هذه الآية، فقال بعضهم إنَّ أهل قورنتس كانوا يمارسون نوعًا من المعموديَّة بالإنابة عن الَّذين سبقوهم وماتوا. فإن كانت هذه هي الحال، يكُنْ هذا الذّكر الوحيد لذلك في كلّ العهد الجديد. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ هذا التفسير يعرِضُ صعوبةً كبيرة، في ضوء الطريقة العرضيَّة، الَّتي ذكر بها بولس هذا الموضوع، ثمَّ أكمل كلامه. إذا كان المسيحيُّون يتعمَّدون نيابةً عن أقربائهم غير المؤمنين الَّذين ماتوا، فلا يمكن التصوُّر بأنَّ بولس قد يذكُر هذه الممارسة من دون محاولةٍ منه لشرحها أو تصحيحها. لم يكن بولس يخجل من مواجهة التعاليم المنحرفة، وفي كلّ حالةٍ تحدَّث فيها بولس عن المعموديَّة (راجع روم 6: 3-7؛ 1 قور 6: 11؛ غل 3: 27؛ قول 2: 12؛ طي 3: 5)، كان يتحدَّث عن استجابة الإيمان من جانب الشخص الَّذي يتمُّ تعميده.
على الرغم من وجود الصعوبات في الفكرة، بأنَّ أهل قورنتس كانوا يمارسون المعموديَّة بالإنابة، إلَّا أنَّ مفسّرين آخرين، يعتبرون أنَّ بولس كان قد رأى أنّ هذه الممارسة غير ضارَّة، حتَّى إن كان يعرف أنَّها بلا فائدة. ربَّما كلام بولس القائل: "إن كان الأموات لا يقومون أبدًا، فلماذا يتعمَّدون من أجلهم؟" يدلُّ على عدم موافقته على هذه الممارسة. قد يتوقَّع القارئ، من بولس، رفضًا أكثر وضوحًا لهذا التعليم، حتَّى وإن كان هذا الأخير يدعم تعليمه بشأن القيامة. غير أنَّه يبدو أنَّ بولس ابتعد عن هذه الممارسة، لأنَّه قال: "فماذا يفعل الَّذين يتعمَّدون من أجل الأموات؟"، وليس "فماذا نفعل نحن...؟". يبدو أنَّ معنى هذا السؤال هو "ما فائدة المعموديَّة من أجل الموتى، إذا كانت قيامة الأموات لن تحدث؟".
احتمالٌ آخر، هو أنَّه ربَّما كان بولس يُشير إلى فهم الشخص لقيمة المعموديَّة بعد التفكير بالَّذين ماتوا. فمن آمن بالمسيح، قد يرغب في المعموديَّة، بعدما أدرك أنَّه كما مات آخرون، هكذا هو أيضًا سيموت، ويواجه الرَّبَّ عند البوق الأخير.
احتمالٌ آخر أيضًا، هو أنَّ بولس كان يقصد معموديَّة المؤمنين كشهادةٍ لإيمان الشخص الَّذي مات فجأةً وبغير توقُّع. في تلك الحالة، قد يتعمَّد المؤمن التقيّ، لكي يُعبّر عن إيمان الشخص الَّذي مات. ربَّما يقوم بمثل هذا الفعل كمناشدةٍ يائسة من أجل رحمة الله ونعمته. مثل هذا الوضع، قد يكون السبب في أنَّ بولس لم يقل أكثر ممَّا قال. ربَّما كان يشير إلى حزن الَّذين تمَّ تعميدهم من أجل الموتى.
لا يوجد تفسيرٌ مرضيٌّ تمامًا. لكنَّ المفسّرين توصَّلوا إلى خلاصةٍ من هذه الآية: من دون وجود تعليمٍ آخر، في العهد الجديد، عن المعموديَّة من أجل الأموات، فقد نتغاضى عن فكرة أنَّ هناك أيَّةَ منفعةٍ في معموديَّة شخصٍ ما لغسل خطايا شخصٍ آخر. فالمعموديَّة الَّتي تُخلّص، هي استجابةُ الإيمان من جانب المؤمن التائب الَّذي يُجرى تعميده.

30 ونَحْنُ، فَلِمَاذَا نُعَرِّضُ أَنْفُسَنَا كُلَّ سَاعَةٍ لِلخَطَر؟
حوَّل بولس الانتباه من أهل قورنتس إلى نفسه، متسائلًا: "لماذا نعرّض أنفسنا كلَّ ساعةٍ للخطر؟"، إذا لم تكن هناك قيامةٌ للأموات. إذا كان احتمال الحياة بعد الموت، من دون قيامة الجسد، فإنه لا صحَّة لمِثل هذه الآخرة.
بالنسبة إلى المفكّرين الإغريق، كانت الفكرة القائلة بأنَّ الجسد المادّي سيحيا بعد الموت، هي قمَّة الجهل. ففي أثينا، على سبيل المثال، يبدو أنَّ بولس تلقَّى فرصةً إيجابيَّةً ليتحدَّث عن قيامة الأموات (راجع أعمال 17: 32). ربَّما كان بعضٌ من خصوم بولس يشكُّون في سلطانه الرسوليّ، لأنَّه لم يكن بليغًا في الكلام (راجع 2 قور 10: 10). كانوا يقولون إنَّه لا يتمتَّع بعبقريَّةٍ فلسفيَّة (راجع 1 قور 2: 6). وكان ردُّ بولس على منتقديه أنَّه مهما كان يفتقر إلى الذكاء في الكلام، إلَّا أنَّه راسخٌ في الإيمان. لا بل كان مستعدًّا للموت من أجل ما يؤمن به، بينما الفلاسفة لم يكونوا كذلك.
لم يتردَّد بولس في دحض منتقديه. فإن كان يفتقر إلى الحكمة، فتلك هي الحكمة الأرضيَّة؛ لأنَّه عرف، من خلال ضعفه، أنّ عمل الله هو علامةٌ لمجد الله. لم يدَّعِ بأيّ تعليمٍ فلسفيّ، فمواجهته المستمرَّة للأخطار، دليلٌ على اعتماده على العناية الإلهيَّة. 

31 أُقْسِمُ، أَيُّهَا الإِخْوَة، بِمَا لي مِنْ فَخْرٍ بِكُم في الـمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا، أَنِّي أُوَاجِهُ الـمَوْتَ كُلَّ يَوْم.
عندما قال بولس: "إنّي أواجه الموت كلَّ يوم"، كان يقصد أنَّه يعيش في خطرٍ دائم. كان يواجه السجن، أو الموت الـمُحتَمَلَين في أيَّة لحظة. كان له أعداءٌ حيثما ذهب، لكنَّه كان مستعدًّا للمخاطرة بحياته من أجل إضرام الإيمان في أهل قورنتس لمجد الله، ولخلاص النفوس.
الكلمة اليونانيَّة nê، الـمُترجَمة بــ"أُقسِم"، تُستخدم عادةً لأداء القسم، وقد وردت هنا فقط في كلّ العهد الجديد؛ بها "يُقسم" بولس رسميًّا، ويشهد بقوَّةٍ على صحَّة ما كتبه.

32 إِنْ كُنْتُ صَارَعْتُ الوُحُوشَ في أَفَسُس، لِغَايَةٍ بَشَرِيَّة، فأَيُّ نَفْعٍ لي؟ وإِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لا يَقُومُون، فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَب، لأَنَّنَا غَدًا سَنَمُوت!
إذ تكلَّم بولس على القيامة ورجاء الحياة الأبديَّة، كان يُدرك أنَّ البعض سيرون دوافع خفيَّة وراء استعداده للمخاطرة بحياته. قد يقول البعض إنَّ بولس تصرَّف "لغايةٍ بشريَّة" (kata anthrôpon). نفى بولس أن تكون "الدوافع البشريَّة" هي السبب في تحمُّله ما كان يتعرَّض له. كانت حياته في خطرٍ في قورنتس (راجع أعمال 18: 12)؛ وقد "صارع الوحوش في أفسس".
تشهد مِحَن بولس على أنَّه لا يكون هناك سببٌ لإخضاع نفسه لمثل هذه المِحَن الشديدة، إذا لم تكن هناك قيامةٌ من الأموات. فمن دون رجاءٍ في حياة الدهر الآتي، لا يكون لمِثل هذه المحَن أيَّة منفعة. بل بدلًا من ذلك، يكون السَّبيل المناسب اتّخاذه هو سبيل السَّعي وراء المتعة: "فلنأكل ونشرب، لأنَّنا غدًا سنموت!" (أش 22: 13).

33 لا تَضِلُّوا! إِنَّ الـمُعَاشَرَاتِ السَّيِّئَةَ تُفْسِدُ الأَخْلاقَ السَّلِيمَة!
أراد بولس أن يتجنَّب أهل قورنتس ضلال الَّذين يُنكرون قيامة الأجساد للمخلَّصين في نهاية هذا الدهر. على ما يبدو، إنَّ البعض من أهل قورنتس كانوا قد نفوا قيامة الأجساد بسهولةٍ. بمزيجٍ من سوء الفهم والتَّشويه الـمُعتَمَد، ربَّما كانوا يدَّعون بأنَّ بولس يعلّم أنَّ التعميد يؤدّي إلى القيامة لحياةٍ جديدة (راجع روم 6: 4). بما أنَّهم كانوا يعتقدون بأنَّهم قد قاموا وجلسوا مع المسيح، فلم يكن لهم خوفٌ من الفجور أو الخطيئة. دحض بولس هذه الفكرة بإعادة صياغة مبدأٍ هام؛ أوضح أنَّ الاعترافات، الَّتي يُدلي بها المسيحيُّون، لا يُمكن فصلُها عن الآداب الَّتي يُمارسونها.
لقد وصل المثل القائل: "إنَّ المعاشرات السيّئة تُفسد الأخلاق السَّليمة" إلى العصر الحديث من عدَّة أماكن في الأدب القديم. غالبًا ما يُنسَب التعبير الَّذي اقتبسه بولس هنا إلى ميناندر الأثينيّ (سنة 300 ق.م.). "المعاشرات الرديئة"، قيد النَّظر هنا، تتعلَّق برفاق الانسان وما يترتَّب على ذلك من المعتقدات الَّتي يتبنَّاها الانسان. لكنَّ الموضوع الَّذي يتحدَّث عنه بولس أكثر شمولًا من الكلمات المنطوقة. فكلمة "سليمة"، هي ترجمة للكلمة اليونانيَّة chrêstos، وهي صفة تتبع هنا كلمة "الأخلاق". وهذه الكلمة تعني عادةً "مفيدة"، ولكن في هذا السياق، يتعلَّق المعنى بأن يكون الانسان "صالحًا وكريمًا أخلاقيًّا". لذا، فإنّ مُزاملة الشخص للشرّ وموافقته له – حتَّى الموافقة اللَّفظيَّة الَّتي يتضمَّنها كلام بولس – هي بمثابة المشاركة في الشرّ. 

34 أَيْقِظُوا قُلُوبَكُم بِالتَّقْوَى، ولا تَخْطَأُوا، فَإِنَّ بَعْضًا مِنْكُم يَجْهَلُونَ الله! أَقُولُ هـذَا لإِخْجَالِكُم!
ناشد بولس أهل قورنتس من أجل التخلّي عن رفضهم السَّخيف لقيامة الأجساد عند مجيء الرَّبّ الثَّاني. استخدم بولس، في اللغة اليونانيَّة، فعل الأمر وفعل المضارع بصيغة النّهي "أيقظوا...ولا تخطأوا" (eknêpsate…mê hamartánete)، ليُشير إلى أنَّه طالما أنَّهم يتسامحون مع التَّعليم الكاذب، فإنَّ علاقتهم مع المسيح هي في خطر. لأنَّ الخطيئة لا تقتصر على جرائم كالسَّرقة والكذب. فقد تكون المعتقدات خاطئة، كما قد يكون قبولها إنكارًا للتعاليم الإيمانيَّة الأساسيَّة. 

خلاصة روحيَّة
في هذا المقطع من الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس (1 قور 15: 19-34)، يرفض بولس منطق العالم الشائع بأن يعيش الانسان حياته ويتمتَّع بها قبل أن يموت. لذا يتساءل بحكمته المعهودة عن صوابيَّة تعرُّضه كلَّ ساعةٍ للخطر، و"مصارعته الوحوش في أفسس" (1 قور 15: 32). فإن كان يواجه كلَّ هذا لغاياتٍ بشريَّة بحتة، فأيُّ نفعٍ يكون له؟ لا بل كان يجدر به أن "يأكل ويشرب" كالآخرين، "لأنَّه غدًا سيموت" (1 قور 15: 32). غير أنَّ القدّيس بولس كان يرجو المسيح، ليس في هذه الحياة وحسب، بل وفي الحياة الأبديَّة، لأنَّ المسيح قام من بين الأموات، وبه سيحيا الجميع (راجع 1 قور 15: 19-20). هذا يعني أنَّ الموت فَقَد كلَّ هيمَنةٍ على الانسان، وما عاد تلك المعضلة الغامضة والـمُخيفة، بل أصبح مدخلًا إلى الحياة الأبديَّة الَّتي دُعينا إليها جميعُنا.
باختصار، يدعونا هذا المقطع من الرسالة إلى التطلُّع نحو حياتنا ما بعد الموت الجسديّ، ويذكّرنا القدّيس بولس بأنَّنا زوَّارٌ في العالم الَّذي نعيش فيه، ولكنَّنا لسنا منه. ويوم تنتهي زيارتنا، سيكون مسكننا بانتظارنا مع الله "الكلّ في الكلّ" (1 قور 15: 28). حينئذٍ، طوبى لمن يكون قلبه يقظًا بالتقوى، ومتجنّبًا "المعاشرات السيّئة الَّتي تُفسدُ الأخلاق السَّليمة" (1 قور 15: 33).


تحميل المنشور