إبتعد إلى العمق

إبتعد إلى العمق

ما هذه الدعوة، للابتعاد إلى العُمق ؟ (لوقا 5: 1- 11)

كلمتان تشيران إلى موقعين اثنين، تلخّصان دعوة يسوع: ابتعد؛ أي اذهب إلى البعيد، ويحدّد يسوع الموقع: إلى العمق. 

وما هي شروط تلبية هذه الدعوة ؟ 

من يريد الغوص في البحر، يخلع ثيابه… ويتحرّر من كلّ حمل يضاعف وزنه ويعرّضه للغرق. كذلك من يبتغي التحليق، لا يستطيع حمل ما زاد عن الوزن المسموح به. وهذا ما اشترطه يسوع على أتباعه الذين أطلقهم ليحملوا رسالته إلى العالم؛ "لا تقتنوا ذهبًا ولا فضّةً ولا نحاسًا في مناطقكم. ولا مزودًا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا…" (متى 10: 9- 10). فمن أراد تلبية نداء المسيح، يقوم بما قام به تلاميذه الأوّلون: " تركوا كلّ شيء، وتبعوا يسوع " (لو 5: 11). 

العمق: هو داخل القلب. 

والترك: هو التحرّر من قيود ما يُحيط بنا، من أمور غير ثابتة، زائلة، ولا نستطيع الركون إليها. فهي لا تستطيع إعطاء ضمانات ثابتة ودائمة؛ كالشكل الخارجي، والصحة، والمال، والمقتنيات، والعمر، والرفقة، والأقارب الأحياء… 

فمن يضع رجاءه بما هو زائل، يعيش في أوهام مُضلِّلة. 


دعوة المسيح هي للتجرّد عن هذه الأمور التي تعمل على سطح الحياة، لا في عمقها. 

والترك الذي يشترطه يسوع، هو التجرّد، التحرّر، الفقر الاختياري، والغوص في العمق، في القلب، كما عبّر الآباء، خاصة الشرقيون منهم؛ كإسحق السرياني، ويوحنا الدلياتي، وأفرهات الحكيم الفارسي… عندما تعلّمت، في صغري، العوم والغوص، نُصحت ألّا أقف بوجه الموجة القادمة، التي بتكسّرها قبيل الشاطئ تفقدني توازني. أمّا الحلّ فيكمن في الغوص فيها، حيث لا تماوج ولا تغيّر… فالإنسان العميق، هو من لا يتأثّر، لا بالمظاهر البرّاقة، ولا بالمظلمة التي، في كلّ الحالات، تبقى على سطح الحياة. كما لا تنبع مواقفه من ردّات فعل على أحداث طارئة، مفرحة كانت أو محزنة… لا على نجاح، ولا على فشل. فلا يتغيّر بتغيّر ما حوله؛ بل هو الذي، انطلاقًا من العمق، يغيّر في محيطه، ويترك في الحياة بصمتَه. وما نلتقطه على السطح، ما تستطيع أيدينا أن تلمسه، وأعيننا أن تراه، وآذاننا أن تسمعه؛ يفلت من بين أيدينا ويضيع، وكأننا نقبض على سراب… وعندما همّت مريم المجدلية أن تقبض بيديها على يسوع، كانت وكأنّـها بين يديها، تريد احتجاز أشعّة الشمس. امتدح يسوع هذا الواقع، بقوله: " طوبى للفقراء بالروح، فإنّ لهم ملكوت السماوات " (متى 5: 3). ومكان الملكوت هذا، ليس هنا أو هناك، بحسب تعبيره، بل هو في الداخل، في العمق (لو 17: 21). إنّه الهيكل الحقيقي، حيث يقيم الله. فكلّ شيء يتبدّل… " أنت، يا ربّ، في البدء أسّستَ الأرض، والسماوات صنع يديك. تطوي الكون طيّ الرداء، وأنت أنت لا تتغيّر. هي تزول وأنت تبقى وكلّها كالثوب تبلى، وتطويها كالرداء، وكالثوب تتبدّل، وأنت أنت وسنوك لا تفنى " (عب 1: 10- 12).

أمّا العُمق الآخَر، الذي هو في البُعد، فيتخطّى الشاطىء، بمغامرة طموحة وخطرة، في عباب البحر الواسع، الذي هو العالم. والخائف، الذي يلازم الشاطئ، ولا يتجرّأ على المغامرة، فلن يحصل على صيد وفير. والذين يتبعون المسيح، يعبرون إلى أبعد من اللون، والدين، والطائفة، والجنس، والاختلاف الثقافي، والقومي… هناك يلقون الشباك، لاصطياد جميع أنواع السمك. هذا العُمق، البعيد، لا يُدرَك، إلّا بالتحرّر من قيود ما يحيط بنا، والخروج إلى الآخَر، ولقاؤه، رغم المسافات والاختلافات.


لهذا، فالمسيحية هي طريق الخلاص؛ والمسيح يسوع، هو المخلّص: ونحن على أبواب الصوم الكبير، تتوجّه إلينا الدعوة؛ 

1- للتحرّر من قيود سطحية، والغوص في عمق القلب، حيث يقيم الله. 

2- والتحرّر من الارتباطات الدنيوية المحدودة، والسفر عبر بحار العالم، نحو الآخَر، حيث يقيم الله أيضًا. تلبية لنداء يتصاعد من عمقنا، لأنّنا فيه وإليه جُبلنا، لنصل إلى ملئه، فيرتوي ظمؤنا الذي لم تستطع أن ترويه كلّ مباهج الأرض.