كَسر الكلمة - الرسائل -30- أحد القيامة

كَسر الكلمة - الرسائل -30- أحد القيامة

أحد القيامة (الصباح)
(1 قور 15: 12-26)
12 يا إخوَتِي، إِنْ كَانَ المــَسِيحُ يُبَشَّرُ بِهِ أَنَّهُ قَام مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، فَكَيْفَ يَقُولُ بَعْضٌ مِنْكُم أَنْ لا قِيَامَةَ لِلأَمْوَات؟
13 فَإِنْ كَانَ لا قِيَامَةَ لِلأَمْوَات، فَٱلمـَسِيحُ أَيْضًا لَمْ يَقُمْ!
14 وَإِنْ كَانَ ٱلمــَسِيحُ لَمْ يَقُمْ، فبَاطِلٌ تَبْشِيرُنا وبَاطِلٌ إِيْمَانُكم،
15 ونَكُونُ نَحْنُ شُهُودَ زُورٍ على الله، لأَنَّنَا شَهِدْنَا على اللهِ أَنَّهُ أَقَامَ المسيح، وهُوَ مَا أَقَامَهُ، إِنْ صَحَّ أَنَّ الأَمْوَاتَ لا يَقُومُون.
16 فَإِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لا يَقُومُون، فَالمسيحُ أَيْضًا لَمْ يَقُمْ!
17 وَإِنْ كَانَ المسيحُ لَمْ يَقُمْ، فَبَاطِلٌ إِيْمَانُكم، وتَكُونُونَ بَعْدُ في خَطَايَاكُم.
18 إِذًا فَالَّذينَ رَقَدُوا في المسيحِ قَدْ هَلَكُوا.
19 إِنْ كُنَّا نَرْجُو المَسِيحَ في هذِهِ الحَيَاةِ وحَسْبُ، فَنَحْنُ أَشْقَى النَّاسِ أَجْمَعِين!
20 وَالحَالُ أَنَّ المسيحَ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، وهُوَ بَاكُورَةُ الرَّاقِدِين.
21 فَبِمَا أَنَّ الموْتَ كَانَ بِوَاسِطَةِ إِنْسَان، فَبِوَاسِطَةِ إِنْسَانٍ أَيْضًا تَكُونُ قِيَامَةُ الأَمْوَات.
22 فَكَمَا أَنَّهُ في آدَمَ يَمُوتُ الجمِيع، كَذَلِكَ في المسيحِ سيَحْيَا الجَمِيع،
23 كُلُّ وَاحِدٍ في رُتْبَتِه: المسيحُ أَوَّلاً، لأَنَّهُ البَاكُورَة، ثُمَّ الَّذِينَ هُمْ لِلمَسِيح، عِنْدَ مَجِيئِهِ.
24 وَبَعْدَ ذلِكَ تَكُونُ النِّهَايَة، حِيْنَ يُسَلِّمُ المسيحُ الملكَ إِلى اللهِ الآب، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبْطَلَ كُلَّ رِئَاسَةٍ وكُلَّ سُلْطَانٍ وَقُوَّة،
25 لأَنَّهُ لا بُدَّ لِلمَسِيحِ أَنْ يَمْلِك، إِلى أَنْ يَجْعَلَ اللهُ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ تَحْتَ قَدَمَيه.
26 وآخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ المـَوْت.

مقدّمة
إنَّه أحد القيامة الكبير ومعه ندخل إلى زمن التأمُّل بمفاعيل قيامة الرَّبّ يسوع في حياتنا. يشدّد مار بولس في نهاية رسالته الأولى إلى أهل قورنتس (15: 12-26) على موضوع القيامة، ويعتبرها أساس إيماننا وتبشيرنا. لذا يركّز بشكلٍ خاصّ على مدى فهمنا حياتنا المسيحيَّة كشهادةٍ للرَّبّ يسوع ولما صنعه لأجلنا "ومن أجل خلاصنا" (قانون الإيمان).
قدَّم القدّيس بولس لأهل قورنتس ثلاث نقاط هامَّة عن القيامة: (1) كانت الرسالة الَّتي بشَّر بها بولس والرُّسل هي موت يسوع وقيامته؛ (2) لم تكن القيامة مُلحقًا للإنجيل، بل جوهره؛ (3) إنكار قيامة يسوع، كان بمثابة إنكار أنَّ الله قد كشف عن نفسه كمخلّص "للراقدين في سبات الموت" (سدرو صلاة الغفران في خدمة قدَّاس أحد القيامة المجيدة). من دون قيامة يسوع (قيامة جسديَّة)، يكون المسيحيُّون أناسًا تعساء يحاولون التشبُّث بإيمانٍ بعيد المنال.

شرح الآيات
12 يا إخوَتِي، إِنْ كَانَ المــَسِيحُ يُبَشَّرُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، فَكَيْفَ يَقُولُ بَعْضٌ مِنْكُم أَنْ لا قِيَامَةَ لِلأَمْوَات؟
بعدما قدَّم بولس أساسيَّات الإنجيل، قدَّم تطبيقًا محدَّدًا. بما أنَّ قيامة يسوع هي من بين الإثباتات الأولى للإيمان المسيحيّ، الأمر الَّذي كان يؤمن به الرسل والإخوة في قورنتس، فكيف يمكن أنَّ البعض من بينهم كانوا يقولون: "أن لا قيامة للأموات؟". يتمسَّك بعض المفكّرين اليونانيّين بأنَّ روح الشَّخص وجسده يعتمدان على بعضهما البعض من أجل البقاء. وكانوا يعتقدون بأنَّه عندما يموت الجسد، لا يبقى هناك شيءٌ. ولكن على ما يبدو أنَّ أهل قورنتس، لم يمضوا إلى حدّ إنكار حياة الآخرة. مهما كان يفعل النَّاس عندما "يتعمَّدون من أجل الأموات" (1 قور 15: 29)، فإنَّ تلك الممارسة تشير إلى اعتقادهم بأنَّ شيئًا ما يبقى على قيد الحياة بعد الموت.
كان أهل قورنتس يشكُّون في قيامة الجسد، لأنَّ الفكر اليونانيّ من وقت أفلاطون فصاعدًا، غالبًا ما يرسم خطًّا واضحًا بين الجسد والرُّوح. وكان يُعتَقد بأنَّ الرُّوح أصبحت محبوسة في الجسد، وعند الموت، يُفترض أن يُطلَق سراحها من الجسد الماديّ الضَّعيف والفساد، لتطير في طريقها إلى عالم السماويَّات، ويتمُّ استيعابها في نوعٍ من روحٍ جامعة. لم يستطع المفكّرون اليونانيُّون رؤية أيّ توافقٍ بين الجسد المادّيّ والرُّوح الطَّاهرة. وخلافًا لذلك، كان فهم بولس للجسد والرُّوح متجذّرًا في وحي العهد القديم. فمن دون أن يضطرّ لوصف الاعتقادات اليونانيَّة المنتشرة على نطاقٍ واسع حول الشرّ المتأصّل في الماديَّات ودحضها، استعان بولس بقيامة المسيح يسوع من القبر جسدًا وروحًا. تشهد قيامة يسوع على وحدة الجسد والرُّوح. لذا، يجب عدم النَّظر إلى الجسد على أنَّه شرٌّ أو ضعيف لكونه مادَّة. فالحياة في الدَّهر هي اختبارٌ جسديٌّ وروحيٌّ معًا. ولا يمكن تصوُّر وجود روح من دون نوعٍ ما من التقييد المادّيّ. علاوةً على ذلك، كانت قيامة يسوع الجسديَّة شهادةً واضحة ومحدَّدة بأنَّ الَّذين يقبلونه كمسيح، سيُشاركون في هذا النَّوع نفسه من القيامة. بعدما اعترف بولس بأنَّ يسوع أُقيمَ من بين الأموات، أراد أن يعرف لماذا يُجادل بعض أهل قورنتس ويقولون "أن لا قيامة للأموات"، لأنَّ قيامة يسوع كانت كافية لتُجيب على كلّ أسئلتهم.

13 فَإِنْ كَانَ لا قِيَامَةَ لِلأَمْوَات، فَٱلمـَسِيحُ أَيْضًا لَمْ يَقُمْ!
عندما يقبل الانسان شهادة الرسل بأنَّ يسوع قام جسديًّا من الأموات، لا يبقى هناك مجالٌ للشكّ في أن تكون للمخلَّصين بيسوع المسيح في السماء حياةٌ جسديَّة جديدة. على عكس ذلك، لو لم يكن ممكنًا أن يعيش البشر جسديًّا، بعد الموت الجسديّ، لما كان يسوع قد قام. كان منطق الَّذين يُنكرون أنَّ يسوع قد قام جسديًّا أمرًا لا مفرَّ منه. كانت الفرضيَّة الأساسيَّة بالنسبة إليهم أنَّه لا يبقى شيءٌ ماديٌّ من الانسان بعد موت جسده. لكنَّهم لا يستطيعون أن ينكروا أنَّ جسد يسوع مات. فلو كانوا على صواب، لما كان هناك شيءٌ ماديٌّ يخرج من القبر؛ خاصَّةً وأنَّ بولس قد سبق فقدَّم أدلَّةً لا يمكن إنكارها أنَّه قد قام.
من الواضح في كلام بولس أنَّ يسوع شارك تمامًا في حياة البشر، وكان له جسدٌ. لو لم تكن هناك حياةٌ جسديَّة بعد الموت، لما كان جسد يسوع قد قام من الأموات. كان على الَّذين يُنكرون قيامة الموتى أن يواجهوا الَّذين رأوا يسوع ولمسوه وتكلَّموا معه بعد موته ودفنه وقيامته، ثمَّ شهدوا لما رأوا. 

14 وَإِنْ كَانَ ٱلمــَسِيحُ لَمْ يَقُمْ، فبَاطِلٌ تَبْشِيرُنا وبَاطِلٌ إِيْمَانُكم،
أكَّد بولس على كلامه من نتيجةٍ إلى أخرى، باستخدام سلسلة من الجمل الشرطيَّة. فإنَّ قيامة المخلَّصِين في المسيح، وقيامة المسيح نفسه مرتبطتان معًا. "إن كان لا قيامة للأموات، فالمسيح أيضًا لم يَقُم" (1 قور 15: 13). وإن "كان المسيح لم يقم" (1 قور 15: 14)، فباطلةٌ كانت كرازة بولس، ولكان كلّ ما آمن به أهل قورنتس، مجرَّد كذبة. ناشد بولس من أجل الثَّبات على مبدأ. وشدَّد على أنَّه إذا أراد أحدٌ أن يُنكر قيامة الموتى، فيكون ملزمًا بأن يتبع قناعته هذه إلى النهاية المريرة. فشهادة المسيحيّن بأنَّ يسوع قام جسديًّا من القبر، وثقتهم اللَّاحقة بأنَّ جميع المخلَّصين سيُشاركون في قيامةٍ جسديَّة، هو أمرٌ أساسيٌّ للمناداة بالإنجيل. لأنَّه لو "كان المسيح لم يَقُم"، لكان المسار الطَّويل لأعمال الله الخلاصيَّة لخلاص شعبه، قد انتهى في طريقٍ مسدودٍ، أي في القبر.

15 ونَكُونُ نَحْنُ شُهُودَ زُورٍ على الله، لأَنَّنَا شَهِدْنَا على اللهِ أَنَّهُ أَقَامَ المَسِيح، وهُوَ مَا أَقَامَهُ، إِنْ صَحَّ أَنَّ الأَمْوَاتَ لا يَقُومُون.
إن لم تكن هناك قيامة، لكان بولس والرُّسل الآخرون "شهود زورٍ لله". في مثل هذه الحالة، علينا إمَّا أن نقول إنَّهم انخدعوا وكانوا جهّالاً، أو علينا أن نحكم عليهم بأنَّ تبشيرهم كذبة. كان هناك الكثير جدًّا من ظهورات المسيح بعد قيامته من بين الأموات وشهادات كثيرة جدًّا لذلك، بحيث لا يمكن الاستخلاص بأنَّها غير صحيحة. الخدعة تتطلَّب تنسيقًا دقيقًا. كانت شهادة بولس والرُّسل الآخرين أنَّ يسوع قد قام من بين الأموات. وكان على أهل قورنتس أن يقرّروا مَن يصدّقون. كان ما يُقال: ليست هناك قيامة جسديَّة للموتى، لكنَّ يسوع ظهر في الجسد قائمًا من بين الأموات. قال بولس بصوابٍ إنَّ هذين التصريحين لا يمكن التوفيق بينهما. هل كان أهل قورنتس يعتقدون حقًّا أنَّ بولس وغيره من النَّاس الموثوق بهم قد كذبوا عليهم؟ فلماذا كانوا يخاطرون بكلِّ شيءٍ لأجل ما كانوا يعرفون أنَّه كذبة؟ قيامة يسوع كانت حقيقةً تاريخيَّة، وما أعلنه بولس والرُّسل كان حقيقة لا خدعة. وعلى هذا الأساس، كان بولس مستعدًّا للمخاطرة بكلّ شيءٍ على أساس ثقته بحقيقة الإنجيل الَّذي كان ينادي به.

16 فَإِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لا يَقُومُون، فَالمَسِيحُ أَيْضًا لَمْ يَقُمْ!
لا يمكن للمسيحيّين الَّذين في قورنتس أن يكونوا في كلا الحالَتَين. أكَّد بولس قائلًا إن كان أولئك المسيحيّون لن يعيشوا جسديًّا بعد موتهم "فالمسيح أيضًا لم يَقُم". كان عليهم، إمّا التخلّي عن القول بأنَّه لن تكون هناك قيامة، أو كان عليهم عدم قبول الشهادة بأنَّ يسوع قد قام من بين الأموات. لم يكن بولس يناقش ببساطة لإثبات الحياة بعد الموت، بل كان يؤكّد حقيقة القيامة، أو وجود في هيئة جسميَّة بعد الموت. كما خرج يسوع من قبره، كذلك "الأموات في المسيح سيقومون" (1 تس 4: 16). فرجاء إيمان العهد الجديد هو قيامة الجسد، وليس بقاء الرُّوح على قيد الحياة.

17 وَإِنْ كَانَ المَسِيحُ لَمْ يَقُمْ، فَبَاطِلٌ إِيْمَانُكم، وتَكُونُونَ بَعْدُ في خَطَايَاكُم.
كان على أهل قورنتس أن يقرّروا، ولكن أراد بولس أن يعرفوا التضمينات إذا ما اختاروا عدم قبول الشهادة الرسوليَّة عن الرَّبّ القائم من بين الأموات. لو "كان المسيح لم يقُم" لكان كلُّ جزءٍ من رسالة الإنجيل الَّذي كرز به بولس غير صحيح، ولكان عليهم أن يواجهوا النتيجة: "فباطلٌ إيمانكم". إضافةً إلى ذلك، قال بولس: "تكونون بعد في خطاياكم". يمكن فهم العبارة الأخيرة بطريقَتَين: لو لم تكن هناك قيامة الرَّبّ، لكان مشروع الصَّليب بكامله موضعَ شكٍّ. من ناحيةٍ أخرى، لَمَا كانت لأهل قورنتس القوَّة لأن يعيشوا فوق الخطيئة من دون مساعدةٍ فعَّالة من الرَّبّ القائم. في الواقع، كان المسيحيُّون في قورنتس قد رأوا المسيح حيًّا ويعمل في حياتهم. كانوا هم أنفسهم بمثابة شهاداتٍ حيَّة أنَّ يسوع قد قام من بين الأموات، كونهم رجعوا عن الخطيئة. ومن دون قيامة، سنكون أمام كلٍّ من هاتَين النتيجَتَين السلبيَّتين (الأيمان الباطل والعيش في الخطيئة).

18 إِذًا فَالَّذينَ رَقَدُوا في المَسِيحِ قَدْ هَلَكُوا.
استمرَّ بولس في تأكيده على العواقب الَّتي كانت ستتبع نتيجة إنكار القيامة الجسديَّة للمسيح. فمن دون القيامة يكون أنَّ " الَّذين رقدوا في المسيح قد هلكوا". إنَّ إنكار قيامة الموتى هو في الواقع التخلّي عن الرجاء؛ فالحياة الأبديَّة هي النتيجة الأساسيَّة للفداء. استخدام بولس المجازيّ لفعل "رقدوا"، يخفّف من فكرة الموت. كانت وجهة النَّظر التشاؤميَّة للفلاسفة من طائِفَتَي أفلاطون وزينون قد استقرَّت على جزءٍ كبيرٍ من العالم الإغريقيّ الرومانيّ حيث عاش بولس. كانت الكؤوس تُصنع في شكل الجماجم. وكان الإجهاض والعهر ممارسات شائعة. وكان يُكتب على الكثير من القبور: "لم أكن، فكنتُ، ولن أكون، ولا يهمُّني". وفقًا لفلسفة اللَّامبالاة هذه، كان الانسان يُدركُ أنَّه لا يوجد شيءٌ باستطاعته أن يفعله ليتجنَّب ما سيكون مصيره. لكنّ قيامة المسيح كسرت  قبضة هذا الموقف الفلسفيّ في قورنتس. 

19 إِنْ كُنَّا نَرْجُو المَسِيحَ في هذِهِ الحَيَاةِ وحَسْبُ، فَنَحْنُ أَشْقَى النَّاسِ أَجْمَعِين!
الَّذين لا يؤمنون بالقيامة ويعتقدون بأنَّ الَّذين ماتوا قد هلكوا إلى الأبد، قد تخلَّوا عن الرجاء. كان بولس يعرف أنَّه لا يمكن أن تكون هناك رسالة رجاءٍ للبشريَّة سوى رسالة القيامة الجسديَّة للمسيح. تُبنَى رسالة الإنجيل على أنَّ يسوع قام من الأموات. ولو كانت هذه الرسالة كاذبة، لكان ذلك يعني أنَّه لا يوجد رجاء. وفي هذه الحالة، يكون المسيحيُّون "أشقى النَّاس أجمعين".
لم يفسّر بولس ما يحدث بين الوقت الَّذي يرقد فيه الانسان وبين اللَّحظة الَّتي يأتي فيها الرَّبُّ ثانيةً ليقيم الموتى. فهل تبدأ الحياة في جسم القيامة عند الموت، أم عندما يأتي الرَّبُّ ثانيةً؟ لم يَقُل بولس شيئًا عن هذا. إنَّما الشيءُ المؤكَّد هو أنَّ الحياة الأبديَّة ستكون في هيئةٍ جسديَّة ممجَّدة. لا الجسد الماديّ، ولا الأشياء الماديَّة شرٌّ بطبيعتها. الشرُّ والخطيئة هما نتيجةٌ للخيارات الأخلاقيَّة الَّتي يتَّخذها النَّاس، وليس الأشياء الَّتي تَكوَّن منها الجسد.

20 وَالحَالُ أَنَّ المَسِيحَ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، وهُوَ بَاكُورَةُ الرَّاقِدِين.
بعد أن صورَّ بولس عتمة المشهد من دون رجاء القيامة (راجع 1 قور 15: 13-19)، أكَّد حقيقة قيامة يسوع وكلّ ما تنطوي عليه. في الواقع، بما أنَّ "المسيح قام من بين الأموات"، فقد صار "باكورة الرَّاقدين". مرَّةً أخرى، يتكلَّم بولس على الرقاد كاستعارةٍ للموت. استند بولس إلى جذور العهد القديم في شرح مفهومه. كان على الشَّعب تقديم باكورة ثمار الأرض لله كعمل تسبيحٍ شعائريّ (راجع تث 26: 1-2). كانت باكورة الثّمار بمثابة بشائرَ بمجيء المزيد في المستقبل؛ بل وكانت أيضًا بدايات الحصاد. استخدم بولس في مكانٍ آخر كلمة "باكورة" كنايةً عن منح الله الرُّوح السَّاكن في المؤمنين، إذ هم ينتظرون بلهفةٍ "التبنّي، أي افتداء أجسادهم" (روم 8: 23).
أظهرت القيامة قوَّة الله بأنّه قادرٌ على إقامة الموتى. قيامة يسوع هي أكثر من مجرَّد حدثٍ تاريخيٍّ من الماضي؛ كان هو باكورة الحصاد مشيرًا إلى أنَّ الحصاد قد بدأ. فإنَّ قيامته من الأموات أدَّت إلى أكثر من إيمانٍ راسخٍ بقوَّة الله والقبر الفارغ، أصبح يسوع "البداية الحقيقيَّة للحصاد"؛ في يسوع دخلت القيامة الأبديَّة بالفعل في تاريخ البشريَّة. 

21 فَبِمَا أَنَّ المَوْتَ كَانَ بِوَاسِطَةِ إِنْسَان، فَبِوَاسِطَةِ إِنْسَانٍ أَيْضًا تَكُونُ قِيَامَةُ الأَمْوَات.
أكَّد بولس على الآثار الأبديَّة البعيدة المدى للتجسُّد، وقد فعل ذلك بمقارنة يسوع مع آدم. أكَّد بولس على أنَّ العالم قد تأثَّر  تأثُّرًا قويًّا من خلال خطيئة آدم وحوَّاء. ولكن تمَّت الغلبة على هذا التأثير من خلال مجيء المسيح. كما جاءت الخطيئة والموت من خلال آدم، هكذا جاء الغفران والرجاء (قيامة الأموات) من خلال يسوع، الإله الكامل والانسان الكامل. بالنسبة إلى منطق بولس، يجب أن يقبل الانسان الشهادة بأنَّه كما "كان الموت بواسطة إنسان (آدم)، فبواسطة إنسانٍ (يسوع) أيضًا تكون قيامة الأموات". بقيامة المسيح سيُقام الجميع مخلَّصين ليحيوا إلى الأبد. 

22 فَكَمَا أَنَّهُ في آدَمَ يَمُوتُ الجمِيع، كَذَلِكَ في المَسِيحِ سيَحْيَا الجَمِيع،
استخدم بولس مِثَال آدم لمساعدة أهل قورنتس على فهم عمل الله في المسيح، مع أنَّ أوجه التشابه بين الاثنين غير حقيقيَّة. أظهر الانسان الأوَّل قوَّة الخطيئة للإغراء. كان عصيان آدم تصرُّف إنسانٍ، كما يتصرَّف الانسان: اختار هو ونسله الخطيئة. وبهذه الخطيئة الَّتي تجلَّت لأوَّل مرَّةٍ في آدم، "يموت الجميع". باتّباع نمط آدم وحوَّاء، يُثبت البشر أنَّهم في عداوةٍ مع الله. أمَّا المسيح فقد أظهر حقيقة حياة البشر: يمكن للنَّاس أن يتَّخذوا خياراتهم في الخير كما في الشرّ. لكن "في المسيح سيحيا الجميع" ليجدوا فيه الفداء والمصالحة مع الله.
فإذا كانت عواقب سلوك آدم والمسيح موازية، فإنَّ الموت الجامع الَّذي بدأ مع آدم سيتبعه خلاصٌ جامع في المسيح. غير أنَّ بولس كان يعرف أنَّ البعض لا يقبلون المسيح. لقد قدَّم المسيح تقدمة جامعة وخيارًا جامعًا. يمكن لكلٍّ من اليهود والأمم أن يرجعوا إلى المسيح، الَّذي ليس عنده محاباة. بالنسبة إلى الَّذين يختارونه "سيحيون فيه".

23 كُلُّ وَاحِدٍ في رُتْبَتِه: المَسِيحُ أَوَّلاً، لأَنَّهُ البَاكُورَة، ثُمَّ الَّذِينَ هُمْ لِلمَسِيح، عِنْدَ مَجِيئِهِ.
واصل بولس كلامه على موضوع قيامة الموتى بقوله إنَّ "المسيح (أُقِيم) أوَّلًا". عندما يظهر للمرَّة الثَّانية "عند مجيئه"، سيقوم جميع "الَّذين هم للمسيح". أكَّد بولس أنَّ "كلّ واحدٍ" سيقوم "في رتبته" الخاصَّة به. وقد استخدم كلمة "مجيئه" (parousía باللغة اليونانيَّة)، أي "ظهوره"، بمعنى المجيء الثَّاني للرَّبّ عند نهاية الزمن، وكيفيَّة عيش المسيحيّن في الزمان ما بين المجيء الأوَّل للمسيح ومجيئه الثَّاني.
قبل المجيء الثَّاني، حتَّى في الوقت الحالي، المسيح هو "باكورة" القيامة. لقد بدأت فيه قيامة الأموات. ومع ذلك، هناك شيءٌ مستقبليٌّ. لقد قام يسوع من بين الأموات، ولكنَّ أتباعه لن يعرفوا القيامة حتَّى يأتي الرَّبُّ مرَّةً أخرى. 

24 وَبَعْدَ ذلِكَ تَكُونُ النِّهَايَة، حِيْنَ يُسَلِّمُ المَسِيحُ المُلْكَ إِلى اللهِ الآب، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبْطَلَ كُلَّ رِئَاسَةٍ وكُلَّ سُلْطَانٍ وَقُوَّة،
مجيء الرَّبّ، و"النهاية" سيحدثان في آنٍ واحد. وبمفهومٍ ما، بدأ حكم يسوع عند صعوده وسيستمرّ حتَّى يأتي مرَّةً أخرى ديَّانًا وربًّا. يرتبط المجيء الأوَّل بالمجيء الثَّاني ارتباطًا وثيقًا، بحيث يستحيل الكلام على أحدهما من دون الآخر. يُصوّر بولس المسيح دائمًا على أنَّه "يملك عن يمين الله" (راجع روم 8: 34؛ أف 1: 20؛ قول 3: 1).
عند المجيء الثَّاني للرَّبّ، لن تقتصر الكنيسة على المملكة الأرضيَّة، إذ يكون عمل المسيح الفدائيُّ قد اكتمل، والله سيكون "الكلَّ في الكلّ" (1 قور 15: 28). "سيسلّم المسيح الملك إلى الله الآب بعد أن يكون قد أبطل كلَّ رئاسةٍ وكلَّ سلطانٍ وقوَّة". فمهما كانت القوَّات المتعارضة الموجودة في السماويَّات (راجع قول 1: 16)، أو الَّتي تتحدَّى ملك المسيح في الدهر الحاضر، فستخضع تحت سلطانه. لم يكن بولس يشير هنا إلى أنَّ المسيح لن يكون مستحقًّا بعد "كلَّ رئاسةٍ وكلَّ سلطان وقوَّة"، بل كان يؤكّد أنَّ تصميم الله الكامل لفداء البشر سيكتمل. 

25 لأَنَّهُ لا بُدَّ لِلمَسِيحِ أَنْ يَمْلِك، إِلى أَنْ يَجْعَلَ اللهُ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ تَحْتَ قَدَمَيه.
"لا بدَّ للمسيح أن يملك" على كنيسته. أكَّد بولس في الآية السَّابقة أنَّ المسيح "سيُبطل كلَّ رئاسةٍ وسلطان"، ولكن، ما يعود إليه الضَّمير في العبارة "إلى أن يجعل الله جميع أعدائه تحت قدميه" يطرح السؤال: هل هو الله الَّذي يضع كلَّ شيءٍ تحت قدَمَي المسيح، أم المسيح نفسه هو الَّذي يُخضع كلَّ قوَّةٍ أخرى؟  تربط كلمة "لأنَّه" ما ورد هنا بالآية السَّابقة الَّتي تتكلَّم على المسيح. لكنَّ الله هو بكلّ وضوح الفاعل في المزمور الَّذي اقتبسه بولس هنا (مز 8: 6). على ما يبدو، إنَّ الله هو أيضًا الفاعل في هذه الآية: الله هو الفاعل ومصدر القوَّة، والمسيح هو الَّذي يُخضع كلَّ شيء.
المسيح المتجسّد، الَّذي خلَّص البشر من الخطيئة، يملك في الفترة الفاصلة بين صعوده إلى السماء وظهوره في نهاية الدّهر. وأيًّا يكن التمييز الَّذي يجب الإشارة إليه بين مُلك الآب ومُلك الابن فهو محجوبٌ في سرّ الثَّالوث الأقدس.

26 وآخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ المـَوْت.
الموت من الناحية الماديَّة يعني وقف النَّفَس، نهاية الوعي والحركة، لكن في أوَّل إشارةٍ للموت (راجع تك 2: 17) في الكتاب المقدَّس، أشار الله إلى أنَّ له بُعدًا يتخطَّى المادَّة. سواء تمَّ تجسيده كـ"حاصد الأرواح" أو "آخر عدوّ"، فإنَّ الموت هو نقيض الحياة. لكنَّ يسوع سلب الموت شوكته (راجع 1 قور 15: 55-56)، وقد جاء لكي تكون للناس حياةً أفضل (راجع يو 5: 24؛ 10: 10). ليس فقط لأنَّ القيامة مضمونة للمؤمنين بقيامة يسوع، الَّذي هو الباكورة، بل أيضًا لأنّ قيامة يسوع تضمن انتصاره النهائيّ على جميع الأعداء، حتَّى "الموت" نفسه. إلى أن يأتي المسيح مرَّةً أخرى، تكون للخطيئة والموت قوَّةٌ في عالم البشر. لكن في النهاية سيُبطَل هذا أيضًا. 

خلاصة روحيَّة
يدعونا القدّيس بولس في رسالته اليوم إلى قرارٍ جذريّ: إمَّا أن "نهرع ونبشّر مع النساء المسيح قام حقًّا قام" (نشيد الدخول في خدمة قدَّاس أحد القيامة المجيدة)، أو أن نبقى مثل بعض الأشخاص في قورنتس الَّذين بشرَّوا: "المسيح مات حقًّا مات". لا شكَّ بأنَّنا نُجاهر، كلَّما تلَونَا قانون الإيمان بأنَّ المسيح "تألَّم، ومات، وقُبر، وقام في اليوم الثَّالث" (قانون الإيمان). لكن سؤالنا اليوم لا ينطلق من إيماننا ككنيسة بالقيامة، بل بمفاعيلها الخلاصيَّة في حياتنا.
"اليوم الدنيا تطرب بالمجد قد قام الرَّبّ" (لحن البخور في خدمة قدَّاس أحد القيامة المجيدة)، ونحن نؤمن بذلك؛ نؤمن أنَّ موت الرَّبّ وقيامته هما أساس حياتنا الجديدة. في عالمٍ يُبشّر بالموت والخوف، نحن نؤمن بأنَّ المسيح "داس عمق القبور" (نشيد الدخول في خدمة قدَّاس أحد القيامة المجيدة) و"فجَّر القبر وقام ونوَّر الدنيا" (لحن البخور في خدمة قدَّاس أحد القيامة المجيدة) منتصرًا على الموت، ليقول لنا بأنَّ الحياة أقوى من الموت. لذلك، نحن المسيحيّين نعيش حياتنا على ضوء هذا الانتصار: فلا نخاف الموت، ولا نخاف أن نحبَّ حتَّى الموت، لأنَّ معلّمنا فعل ذلك. هذا ما يحدونا لنعلن أمام العالم، من خلال أسلوب عيشنا، أنَّ الألم والتَّعب حبًّا لله وللإخوة، يَكسبَان القيمة الأساسيَّة من خلال موت يسوع وقيامته؛ ونحن لا نخاف التَّعب والألم والموت، لا بل هذه كلُّها تجعلنا، مثل معلّمنا أقوياء حازمي الرأي على مواصلة المسيرة، ومستعدّين "للدفاع تجاه كلِّ من يسألنا عن سبب الرَّجاء الَّذي فينا" (1 بط 3: 15). 


تحميل المنشور