كَسر الكلمة - الرسائل -19- عيد مار مارون

كَسر الكلمة - الرسائل -19- عيد مار مارون

عيد مار مارون
(2 طيم 3: 10-17)
10 أَمَّا أَنْتَ، وقَد تَبِعْتَ تَعْلِيمي، وسِيرَتي، وقَصْدي، وإِيْمَاني، وأَنَاتي، ومَحَبَّتي، وثَباتي،
11 واضْطِهَادَاتي، وآلامي، كَالَّتي أَصَابَتْنِي في أَنطَاكِيَةَ وإِيقُونِيَةَ ولِسْترَة، وأَيَّ اضْطِهَاداتٍ احْتَمَلْتُ! ومِنْ جَميعِهَا نَجَّاني الرَّبّ!
12 فَجَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْيَوا بِالتَّقْوَى في الْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُون.
13 أَمَّا النَّاسُ الأَشْرَارُ والـمُشَعْوِذُونَ فَإِنَّهُم يَتَمَادَوْنَ في الشَّرّ، مُضَلِّلِينَ الآخَرِينَ وهُم أَنْفُسُهُم مُضَلَّلُون.
14 أَمَّا أَنْتَ فَاثْبُتْ على مَا تَعَلَّمْتَهُ وأَيْقَنْتَهُ، عَارِفًا مِمَّنْ تَعَلَّمْتَهُ،
15 وأَنَّكَ مُنذُ الطُّفُولَةِ تَعْرِفُ الكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ القادِرَةَ أَنْ تُصَيِّرَكَ حَكِيمًا في سَبيلِ الـخَلاصِ بِالإِيْمَانِ في الْمَسِيحِ يَسُوع.
16 فَالكِتَابُ كُلُّهُ إِنَّمَا اللهُ أَلْهَمَهُ، وهُوَ مُفِيدٌ لِلتَّعْلِيم، والتَّوْبِيخ، والتَّقْوِيم، والتَّأْدِيبِ في البِرّ،
17 لِيَكُونَ رَجُلُ اللهِ كامِلاً، مُعَدًّا لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِح.

مقدّمة
في الرسالة الثانية إلى طيموتاوس، يناشد بولس تلميذه ليبقى مستقيمًا حتَّى في وقت المِحَن (2 طيم 1)، ويحثُّه على مشاركة ما تعلَّمه من معلّمين أوفياء ومتابعة النموذج الَّذي وضعه بولس له (2 طيم 2). بعد ذلك يحذّر طيموتاوس داعيًا إيّاه إلى الاحتراسِ من الأشرارِ (2 طيم 3: 1-9)، وأن يصون نفسه من خلالِ مثالِ بولسِ، ومن تمرُّسه الجيّد ومن خلال الأسفار المقدَّسة (2 طيم 3: 1-17).
في هذا القسم الأخير من الرسالة (2 طيم 3: 1-17) الَّذي اختارته كنيستنا المارونيَّة لعيد أبينا القدّيس مارون (2 طيم 3: 10-17)، يضع القدّيس بولس قائمةً بأنواع الفساد الَّتي يجب الحذر منها. إنَّه من الواضح أنَّ طيموتاوس لم يستطعْ الهروبَ من المعارضةِ، ولا نحنُ اليوم نستطيع ذلك. لذا يناشد بولس تلميذه طيموتاوس للتيقُّظ، عالمـًا بأنَّه "في الأيَّام الأخيرة ستأتي أزمنةً صعبةٌ... وأمَّا أنتَ فاثبُت على ما تعلَّمتَ وأيقنتَ عارفًا ممَّن تعلَّمت" (2 طيم 3: 1، 14).

شرح الآيات
10 أَمَّا أَنْتَ، وقَد تَبِعْتَ تَعْلِيمي، وسِيرَتي، وقَصْدي، وإِيْمَاني، وأَنَاتي، ومَحَبَّتي، وثَباتي،
تَبِع بولس وطيموتاوس النموذج نفسه. قال بولس: "أمَّا أنتَ، وقد تبعتَ تعليمي، وسيرتي، وقصدي، وإيماني، وأناتي، ومحبَّتي، وثباتي، واضطهاداتي، وآلامي كالَّتي أصابتني في أنطاكية وإيقونية ولسترة" (2 طيم 3: 10-11أ). ما يحتاج طيموتاوس أن يتبعه، وقد جمعَه بولسُ كلَّه بكلمةِ "تعليمي". ما علَّمه بولسُ خضعَ للاختبارِ (راجع 1 طيم2: 7؛ 4: 16)، وهذا واضحٌ من سيرتِهِ حيث لم يعلّم فقط، بل عَمل وطبَّق أيضًا. علَّم بولس وعاش كما فعل لأنَّه كان لحياته "هدفٌ" أكَّده مرارًا في حياته، وهو أن يعمل مشيئة الله الَّتي كُلّف بها (راجع 2 قور 5: 7-11؛ غل 1: 10-12). هذا الهدف أنجزه من خلال المميّزات التالية: الإيمان: الَّذي مكَّنه من "إيقانِ الأمورِ المرجوَّة ويبرهن الأمور غير المرئيَّة" (عب 11: 1)؛ الأناة: الَّتي لم تسمحْ له بالتخلّي عن إخوتِه ولا للصُّعوباتِ أن تُبعده عن الخدمةِ؛ المحبَّة: الَّتي "تحتملُ كلَّ شيء، وتصدّق كلَّ شيء، وترجو كلَّ شيء، وتصبرُ على كلّ شيء، ولا تسقطُ أبدًا" (1 قور 13: 7-8أ)؛ الثبات: ميزة النموّ الطبيعيّ في الإيمان، والأناة، والمحبَّة. 

11 واضْطِهَادَاتي، وآلامي، كَالَّتي أَصَابَتْنِي في أَنطَاكِيَةَ وإِيقُونِيَةَ ولِسْترَة، وأَيَّ اضْطِهَاداتٍ احْتَمَلْتُ! ومِنْ جَميعِهَا نَجَّاني الرَّبّ!
تحمَّل بولس الكثير من الاضطهادات والآلام لأجل المسيح، ويعلم طيموتاوس بالمعاناة الَّتي واجهها بولس في مناطق جغرافيَّة معيَّنة "أنطاكية وإيقونية ولسترة" (2 طيم 3: 11؛ راجع أيضًا أعمال 14: 19-21؛ 16: 1-3). لا يمكن لطيموتاوس أن يُهمِلَ أنموذجَ بولس في المعاناةِ. لم يعانِ بولس فقط، ولكنَّه "احتمل" أيضًا "الاضطهادات". وهنا لا يُترَك قارئَ الرسالةِ كي يخمّنَ كيف أنَّ بولسَ استطاعَ أن يحتملَ ما تعرَّضَ له. لذا يكشفُ لنا بولس الطَّريقة الَّتي عَمِلَ بها، وهي الثقة بالرَّب الَّذي "نجَّاه من جميعها".

12 فَجَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْيَوا بِالتَّقْوَى في الْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُون.
كلمات بولس السابقة تحتوي على تأكيدٍ لهذا الوعد بأنَّ "جميع الَّذين يريدون أن يحيوا بالتَّقوى في المسيح يسوع يُضطهدُون" (2 طيم 3: 12؛ راجع أيضًا متَّى 5: 10-11؛ 24: 9-14؛ أعمال 7: 25).  تشير كلمة "جميع" إلى الَّذين يعيشون أتقياء بعلامةٍ فاصلة عن الَّذين يتمسَّكون بمظهر التقوى، وينكرون قوَّتها" (2 طيم 3: 5).
الأتقياء الَّذين سيعانون هم "يحيون في التقوى". إنّ فعلَ "يحيون" هنا لا يعني فقط الوجود في مكانٍ ما في الحياة، فهو فعلٌ مأخوذٌ من الكلمة اليونانيَّة záw الَّتي تعني الحيويَّة والنشاط. لذلك، أسلوب الحياة هذا هو ملحُ المجتمع ونورٌ لتبديد الظلام؛ لأنَّه أسلوبٌ يكشف الغطاء عن الأخطاء بأخذه موقف البرّ.

13 أَمَّا النَّاسُ الأَشْرَارُ والـمُشَعْوِذُونَ فَإِنَّهُم يَتَمَادَوْنَ في الشَّرّ، مُضَلِّلِينَ الآخَرِينَ وهُم أَنْفُسُهُم مُضَلَّلُون.
يضيف بولس هنا إلى الأشرار صفةَ "المشعوذين" الَّذين ينتقلون من سيّءٍ إلى أسوأ، أي إنَّهم يسيرون في الطَّريق السَّريع الَّذي اختاروه، ولكنَّهم يسيرون في الطريق الخطأ، لا بل "يتمادون في الشرّ". أولئك النَّاس "يُضِلُّون الآخرين، وهم أنفسهم مضلَّلون"، وهذا حصادٌ لما يزرعه الانسان (راجع غل 6: 7-8). اسم الفاعل اليونانيّ (planôntes) للكلمة العربيَّة "مضلّلين"، يبيّن أنَّهم قاموا بالتضليل، واسم المفعول (planómenoi) للكلمة العربيَّة "مُضلَّلون"، يبيّن أنَّهم خُدِعوا، وذلك بأخذهم جرعةً من دوائهم الخاصّ! والنتيجة سيّئة بطريقةٍ مُضاعفة، لأنَّ الجميع خُدعوا. 

14 أَمَّا أَنْتَ فَاثْبُتْ على مَا تَعَلَّمْتَهُ وأَيْقَنْتَهُ، عَارِفًا مِمَّنْ تَعَلَّمْتَهُ،
15 وأَنَّكَ مُنذُ الطُّفُولَةِ تَعْرِفُ الكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ القادِرَةَ أَنْ تُصَيِّرَكَ حَكِيمًا في سَبيلِ الـخَلاصِ بِالإِيْمَانِ في الْمَسِيحِ يَسُوع.

عبارة "أمَّا أنت" (2 طيم 3: 14) تقدّم مقارنةً واضحة لطيموتاوس. إنَّه ليس شرّيرًا أو منجّمًا، ولا ينتقل من سيّءٍ إلى أسوأ ليَخدّعَ أو لينخدع. فعلى نقيض النماذج الشرّيرة، شجَّع بولس طيموتاوس على أن "يثبت" في عمل الأشياء الَّتي تعلّمها واقتنع بها، وهذا يشمل الأشياء الَّتي تعلَّمها "منذ الطفولة" (2 طيم 3: 15) من أمّه وجدَّته (راجع 2 طيم 1: 5)، وبعد ذلك من بولس شخصيًّا (راجع 2 طيم 1: 6؛ 2: 1-2).
تطوَّرت معرفة طيموتاوس من اختبار التحدّي والتطبيق في الوقت نفسه. لكنَّ الثمار الجيَّدة تأتي من معرفة "الكتب المقدَّسة الَّتي تعطي الحكمة الَّتي تقود إلى الخلاص" (2 طيم 3: 15).

16 فَالكِتَابُ كُلُّهُ إِنَّمَا اللهُ أَلْهَمَهُ، وهُوَ مُفِيدٌ لِلتَّعْلِيم، والتَّوْبِيخ، والتَّقْوِيم، والتَّأْدِيبِ في البِرّ،
الكتاب المقدَّس "كلُّه إنَّما الله ألهمه"، وهو وليس مغامرةً بشريَّة أو استنتاجًا قانونيًّا، لذا حقيقته ستبقى (راجع 2طيم 2: 19) عندما تزول السماء والأرض (راجع أش 44:8-11؛ متَّى 24: 35؛ يو 12: 48). كلمة الله هي هبة ثمينة لأنَّها "مفيدة" وتعود فائدتها على الانسان بأربع طرائق فريدة:
(1) التعليم: تعطي التوجيه الصحيح. لا يعرف الانسان كيف يوجّه خطواته (راجع إر 10: 23). توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة، ولكن عاقبتها الموت (أم 13: 12). لذا يحتاج الانسان إلى كلمة الله لتعلّمه وتوجّهه.
(2) التّوبيخ: الأخطاء يجبُ أن تُصحَّحَ. الكتاب المقدَّس هو الأداة لكشف أخطائنا ولإقناعنا للتحوُّل عن طريق الشرّ (راجع روم 7: 7؛ طي 1: 9-10؛ عب 4: 12).
(3) التقويم: يدلُّنا الكتابُ المقدَّسُ على الدلائل لكسبِ التقوى. يؤدّب الرَّبُّ الانسانَ وكلمته هي الميزان (راجع عا 7: 7-8)، أو المعيار لاستقرار أيّ هدف.
(4) التأديب في البرّ: التأديب يفترِضُ التدريبَ الَّذي يشملُ عمليَّةَ تشكيلِ الشَّخصِ لينضجَ؛ والنُّضوجُ في هذه الحالةِ هو "البرّ".

17 لِيَكُونَ رَجُلُ اللهِ كامِلاً، مُعَدًّا لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِح.
هدف الكتاب المقدَّس أن يكون "رجل الله كاملًا، معدًّا لكلّ عملٍ صالحٍ" (2 طيم 3: 17). ونعمة الله هي الَّتي تجعله ينمو ويستمرّ في بشارته، ليكون مستعدًّا لكلّ عملٍ صالحٍ. أليس ذلك هو الاستنتاجُ نفسُه الَّذي أعطاه بولس لطيموتاوس في رسالته الأولى (1 طيم 4: 16)؟

خلاصة روحيَّة
"الكتاب المقدَّس كلُّه إنَّما الله ألهمه وهو مفيدٌ...لكي يكونَ رجلُ اللهِ كاملًا"، أيًّا كان، وفي أيَّة فرصة. المبادئ الَّتي طبَّقها القدّيس بولس على تلميذه طيموتاوس تُطبَّق على كلّ من يسعى لتحقيقِ الهدفِ الَّذي وضعَه أمامه؛ إذ عليه أن يتعلَّم الأسفار المقدَّسة جيّدًا كي لا يطيع الفلسفات الخاطئة على حساب التعليم الصحيح. عندئذٍ سيكون "مُعدًّا لكلّ عملٍ صالح" (2 طيم 2: 21).
في أيَّام بولس، كما في أيَّام مار مارون، هناك الصراعُ والشَّرُّ في أنطاكية، وفي أيَّامِنا، نحن الَّذين ننتمي إلى كنيسةِ أنطاكية، هناك أيضًا صراعاتٌ تحيطُ بنا من كلّ جانبٍ. طلبَ بولسُ من طيموتاوس الثباتَ في الإيمانِ لأنَّ الهرطقاتِ كانتْ تضربُ الكنيسةَ، من الخارجِ ومن الدَّاخلِ. وأيَّامَ مار مارون لم تكن مُغايرةً، فقد كانت الهرطقات تُشرذم الكنيسة، بينما كان مارون في البريَّة يُحافظُ على إيمانِه التقيّ بثباتٍ.
من بولس الرَّسول، إلى تلميذه طيموتاوس، إلى مارون الَّذين تتلمذوا للرَّبّ يسوع من خلال الكتب المقدَّسة، إلينا نحن المدعوِّين لنكون تلاميذَ على مثالهم، تكمن مسيرةٌ طويلةٌ. لِنَعُدْ إلى ذواتنا في هذا العيد المبارك، لندرِكَ أنَّنا لسنا جماعةً تنافِسُ الآخرين، بل جماعةً مبنيَّةً على الكلمةِ المحييةِ، جماعةً تعملُ على بناءِ الجسورِ بين النَّاسِ، لتشهدَ للحقِّ أمامَ الجميعِ.


تحميل المنشور