السيّد الصغير، الناسك الرسول

السيّد الصغير، الناسك الرسول

410-2018، ستّة عشرة قرون مرّت ونحن نعيّد لأب الكنيسة المارونية ومؤسس روحانيّتها. من جبال قورش، ضفاف العاصي من بيت مارون إلى أصقاع المسكونة كافّةً.

 "الصدّيق كالنخل يزهر، وكأرز لبنان ينمو"، من بلاد الأرز حيث يشرق الشموخ أنواره إلى العالم بأسره. من لبنان بلد الحرف، إلى كلّ اللّغات. لطالما ارتبط إسم لبنان بموارنيّته. كلّ ما اتّسعت بقعة الروحانيّة المارونيّة، كلّما زاد حدود الوطن. على سبيل المثال لا الحصر: إنتقال لبنان من متصرّفيّة جبل لبنان إلى دولة لبنان الكبير، كيف لا وعرّاب هذه الأنجاز هو البطريرك الماروني "الياس الحويّك"، وهو ليس البطريرك الوحيد الذي كان حافظ الوديعة، فأسلافه وخلفاؤه كانوا الوكلاء الأمينين لهذه الوزنة، فاستحقّ كلّ جالس على كرسي أنطاكية عبارة "مجد لبنان أعطي له".

 كان مارون ناسكًا على جبل قورش، لكنّه جمع الرسول بالناسك في آن معًا عبر الإرشاد والنشر الروحانيّة، ومن المسترشدين القدّيس يوحنّا فمّ الذهب. نقل إليه كلّ العالم وكان المبشّر الذي ما برح صومعته. حتّى حذا حذوه حوالي 350 شابّ فكانت ولادة بيت مارون والنواة لهذه الجماعة الواعدة. رهبان عاشوا في العراء ليكسوا عري هذا العالم.

عندما ضاق بهم ذاك الجبل، بدأوا بالتوسع والإنتقال من منطقةٍ إلى أخرى، من كلّ نحوٍ وصوب، هنا وهناك، في التلّ وفي الواد... واليوم، كنيسة مارونية حيثما ذهبت، البلدان المجاورة والبلاد البعيدة. كلّما سافر لبناني أو هاجر إلى مكانٍ ما حمل معه مارونيّته وتراتيلها الجميلة وليتورجيّتها زادًا له، وعرضها على البلد المضيف كالتاجر الذي يبسط أثمن بضاعته أمام الجميع وهو على ثقة تامّة بجودة ما يمتلك. فليس مستغربًا اليوم مثلًا أن نرى رهبنة مارونيّة سريانيّة أميركيّة، ونرى تمثالًا للقديس مارون في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان، أو تمثال القديس مارون وذخائر من هامته في كنيسة فولينيو في إيطاليا، أو الكثير من الرعايا والأديرة والإرساليات المارونيّة في بلاد الإغتراب.

 

تاريخٌ تجري في عروقه دماء الشهداء.

ما كانت يومًا حياة الموارنة حياة ترف أو استرخاء، فقد عانوا الإضطهاد لا بلّ أشدّ أنواع الإضطهاد. حياتهم في وادي قنّوبين خير دليل على ما عانوا من أمرّين في حياتهم. لكنّ قوّة الموارنة والمارونية هي العزم والثباة والجهاد الدائم وما من كلمة إستسلام في قاموسهم. فكانوا جدّ مقتنعين أنّ الضربة التي لا تقتلهم ... تقويّهم... ومن كان يعمل واثقًا بمشيئة الله سار بخطىً ثابة، وواثق الخطى يمشي ملكًا.

 حياة الشهادة ما زالت مع الزمن، بل ما زالت في وقتنا هذا. تغيّر المضطَهِد وبقي الإضطهاد، تغيّرت الأساليب وبقيت الحالة. لكنّنا على مثال مارون، وتلاميذ مارون وبطاركة بيت مارون، لا نهاب الإضطهاد، بل نقوى ونعمل على المضي قدمًا لأنّنا وضعنا يدنا يومًا على المحراث، وما ولم ولن نلتفت إلى الوراء بالعيون شاخصة دومًا إلى الأمام : إلى جمعة الصليب فأحد القيامة.

 في تاريخنا، في عصرنا، في يومنا وفي يوميّاتنا، مارون حاضر، قورش موجودة، نهر العاصي يروينا. لا ينقصنا شيئ لأن نكون أبناء مارون وأهل بيته، فالنسك الذي عاشه مارون جذب الكثير الكثير من آبائنا ورهباننا وقدّيسينا وشعبنا أيضًا. والحياة الإرساليّة التي عاشها مارون توارثناها إلى يومنا هذا وشرّعنا أبواب كنائسنا وأديارنا لا بل أكثر من ذلك وسّعنا جدران كنائسنا حتّى بات تغطّي لبنان والعالم العربي وعالم الإنتشار.

 إنّ رسالة الموارنة في هذا الشرق مهمّة جدّا، فإذا قال البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني : إنّ لبنان أكثر من وطن... إنّه رسالة... فحمّلنا المسؤليّة لأن نقول أمناء على وطننا والأمانة على وطننا أمانة على شرقنا أيضًا ومسيحيي شرقنا بصورة خاصّة. علينا اتّخاذ القرار، إمّا المثابرة والجهاد فيقوى شرقنا، إمّا الإستسلام فيضعف ويهوى، لكنّنا أبناء تاريخ مارون، تاريخ طائر الفينيق الذي ما عرف السقوط إنّما التحليق دومًا أعلى وأعلى.