كَسر الكلمة -47- الأحد الخامس عشر من زمن العنصرة

كَسر الكلمة -47- الأحد الخامس عشر من زمن العنصرة

الأحد الخامس عشر من زمن العنصرة
توبة المراة الخاطئة
(لوقا 7/ 36-50)
36. وسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الفَرِّيسيِّينَ أَنْ يَتَناوَلَ الطَّعَامَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ الفَرِّيسيِّ واتَّكَأ.
37. وإِذا امرَأَةٌ، وَهِي الَّتِي كانَتْ في الـمَدينَةِ خَاطِئَة، عَلِمَتْ أَنَّ يَسوعَ مُتَّكِئٌ في بَيْتِ الفَرِّيسيّ، فَجَاءَتْ تَحْمِلُ قَارُورَةَ طِيب.
38. وَوَقَفَتْ بَاكِيةً وَراءَ يَسُوع، عِنْدَ قَدَمَيْه، وَبَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيهِ بِالدُّمُوع، وتُنَشِّفُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وتُقبِّلُ قَدَمَيْه، وَتَدْهُنُهُمَا بِالطِّيب.
39. وَرأَى الفَرِّيسِيّ، الَّذي دَعَا يَسُوع، مَا جَرَى، فَقَالَ في نَفْسِهِ: "لَوْ كانَ هـذَا نَبِيًّا لَعَلِمَ أَيَّ امرَأَةٍ هِيَ تِلْكَ الَّتي تَلْمُسُهُ! إِنَّهَا خَاطِئَة".
40. فَأَجَابَ يَسوعُ وَقَالَ لَهُ: "يا سِمْعَان، عِنْدِي شَيءٌ  أَقُولُهُ لَكَ". قالَ الفَرِّيسِيّ: "قُلْ، يَا مُعَلِّم".
41. قالَ يَسُوع: "كانَ  لِدَائِنٍ مَدْيُونَان، أَحَدُهُمَا مَدْيُونٌ بِخَمْسِمِئَةِ دِينَار، والآخَرُ بِخَمْسِين.
42. وإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ما يُوفِيَان، سَامَحَهُمَا كِلَيْهِمَا. فأَيُّهُما يَكُونُ أَكْثَرَ حُبًّا لَهُ؟".
43. أَجَابَ سِمْعَانُ وَقَال: "أَظُنُّ، ذَاكَ الَّذِي سَامَحَهُ بِالأَكْثَر". فَقَال لَهُ يَسُوع: "حَكَمْتَ بِالصَّوَاب".
44. ثُمَّ التَفَتَ إِلى الـمَرْأَةِ وَقالَ لِسِمْعَان: "هَلْ تَرَى هـذِهِ الْمَرْأَة؟ أَنَا دَخَلْتُ بَيْتَكَ فَمَا سَكَبْتَ عَلى قَدَمَيَّ مَاء، أَمَّا هِيَ فَقَدْ بَلَّتْ قَدَمَيَّ بِالدُّمُوع، وَنشَّفَتْهُما بِشَعْرِها.
45. أَنْتَ لَمْ تُقَبِّلْنِي، أَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ قَدَمَيَّ.
46. أَنْتَ مَا دَهَنْتَ رَأْسِي بِزَيْت، أَمَّا هِيَ فَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ قَدَمَيَّ.
47. لِذـلِكَ أَقُولُ لَكَ: خَطايَاهَا الكَثيرةُ مَغْفُورَةٌ لَهَا، لأَنَّها أَحَبَّتْ كَثيرًا. أَمَّا الَّذي يُغْفَرُ لَهُ قَليلٌ فَيُحِبُّ قَلِيلاً".
48. ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَة: "مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطايَاكِ!".
49. فَبَدَأَ الـمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ في أَنْفُسِهِم: "مَنْ هُوَ هـذَا الَّذي يَغْفِرُ الـخَطايَا أَيْضًا؟".
50. فَقالَ يَسُوعُ لِلْمَرْأَة: "إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام!".

مقدّمة
في الفصلِ السَّابعِ من إنجيلِه، يشدّدُ لوقا على ماهيّةِ الإيمانِ وكيفَ يقبلُه المؤمنُ كنعمةٍ من اللهِ. فنراه يمدَحُ في كفرناحوم إيمانَ الرَّجُلِ الغريبِ عن إسرائيلَ (7: 1-10)، وأرملةَ نائين الّتي أقامَ يسوعُ ابنَها من الموتِ بسببِ إيمانِها (7: 11-17)، ثمّ إرسالَ يوحنا اثنين من تلاميذِه إلى يسوعَ يسألانَه إنْ كان هو المسيحَ ليؤمنوا (7: 18-30)، ومن ثمّ ينتقدُ يسوعُ عدمَ ثباتِ البعضِ بإيمانِهم فيشبّهُهُم بمن يرقصون في الشّوارعِ (7: 31-35)، ختامًا لهذا الفصل، يخبرُنا عن المرأةِ الخاطئةِ الّتي أعلَنَتْ إيمانِها في بيتِ سمعانِ الفرّيسيِّ (7: 36-50).

سياق النصّ التاريخي 
عرفَ الشَّرقُ الأوسَطُ القديمُ تهميشًا للمرأةِ في مجتمعاتِه، فحَرَمَها من حقوقِها الطَّبيعيّةِ. فكانَ ممنوعٌ عليها أنْ تشارِكَ في الحياةِ الرُّوحيّةِ، ومحرومةً من التَّبشيرِ بكلمةِ اللهِ. فنرى يسوعَ يغفِرُ لها، ويعيدُها إلى جماعةِ شعبِ اللهِ، ومِنْ خلالِها كلِّ النِّساءِ من أبناءِ زمنِها. بناءً عليه، نرى الإنجيليَّ لوقا، يذكُرُ بعْدَ هذا النَّصِّ مباشرةً النِّساءَ اللّواتي شاركْنَ في خدمةِ البِشارةِ ونَشْرِ الكَلِمَةِ.
أمّا الأرملةُ، إذا لم تكنْ من الطَّبَقةِ الميسورةِ، فمحكومٌ عليها أنْ تبيعَ جسدَها، وإلاّ تموتُ جوعًا هي وأطفالُها. من هنا شدّدَ أنبياءُ العهدِ القديمِ على ضرورةِ إعانةِ الأرملةِ واليتيمِ. وقد تكونُ هذه الخاطئةُ واحدةً منهنّ، وقد باعَتْ شرفَها لتُعِيْلَ أولادَها.
في المقابلِ، نجدُ سمعانَ صاحبَ البيتِ، وهو فرّيسيٌّ، يمثّلُ الشَّريعةَ ويتمسّكُ بها ساعيًا أن يطبِّقَها. لذا، فهو يحتقرُ هذه الزانيةَ ويخافُ من نجاستِها.

شرح الآيات
36. وسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الفَرِّيسيِّينَ أَنْ يَتَناوَلَ الطَّعَامَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ الفَرِّيسيِّ واتَّكَأ.
37. وإِذا امرَأَةٌ، وَهِي الَّتِي كانَتْ في الـمَدينَةِ خَاطِئَة، عَلِمَتْ أَنَّ يَسوعَ مُتَّكِئٌ في بَيْتِ الفَرِّيسيّ، فَجَاءَتْ تَحْمِلُ قَارُورَةَ طِيب.
38. وَوَقَفَتْ بَاكِيةً وَراءَ يَسُوع، عِنْدَ قَدَمَيْه، وَبَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيهِ بِالدُّمُوع، وتُنَشِّفُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وتُقبِّلُ قَدَمَيْه، وَتَدْهُنُهُمَا بِالطِّيب.
39. وَرأَى الفَرِّيسِيّ، الَّذي دَعَا يَسُوع، مَا جَرَى، فَقَالَ في نَفْسِهِ: "لَوْ كانَ هـذَا نَبِيًّا لَعَلِمَ أَيَّ امرَأَةٍ هِيَ تِلْكَ الَّتي تَلْمُسُهُ! إِنَّهَا خَاطِئَة".

يتفرّدُ لوقا فيبيّنُ لنا على ثلاثِ دفعاتٍ يسوعَ مدعوًّا عندَ الفرِّيسيّين. لم يأتِ يسوعُ من أجلِ طبقةٍ إجتماعيّةٍ واحدةٍ، بلْ منْ أجلِ فئةٍ مِنَ النَّاسِ هم الخطأةُ، أي الَّذين يُقِرّونَ بعجزِهِم عن أن يخلّصوا أنفسَهم وينتظِرون خلاصَهم مِنْ عنْدِ اللهِ، سواءَ أكانوا أغنياءً أم فقراءً، فرَّيسيّين كانوا أم عشّارين...
لا يقولُ النَّصُّ شيئًا عن هويّةِ هذه الخاطئةِ. لا نستطيعُ أنْ نقولَ، رغمَ ما قالَتْ بعضُ التّقاليدِ، إنّها مَريمُ المجدليّةُ أو مريمُ بيتَ عنيا. أخفى لوقا اسمَها فلماذا نريدُ أن نعلِنَه نحنُ؟ هو لا يقدِّمُ لنا سيرةَ شخصٍ من الأشخاصِ، بل تعليمًا من تعاليمِ يسوعَ. لقد عرَفَتِ المدينةُ هذه المرأةَ بأنّها خاطئةٌ. وها هي قد جاءَتْ إلى بيتِ سمعانِ الفرِّيسيّ، إنسانٌ يحاوِلُ أنْ ينفصِلَ عن الخطأةِ. ولماذا جاءَتْ؟ بعدَ أنْ أحسَّتْ بنظراتِ الاحتقارِ ثقيلةً عليها. فهي لم تلتقِ، شأنَها شأنَ الشَّابِّ الغنيِّ، نِظْرةَ حبٍّ لا نِظْرةَ احتقارٍ أو شهوةٍ.
وصَلَتْ إلى بيتِ سمعانَ، إنحَنَتْ من وراءِ يسوعَ تُقَبِّلَ قدميه وتغمرُهُما بدموعِها. خافَتْ من جرأتِها ووقاحتِها، فقامَتْ بفعلةٍ غيرِ لائقةٍ: حلَّتْ شعْرَها ومَسَحَتْ به قدمَي يسوعَ. إنّ الحُبَّ يقومُ بأعمالٍ لا تَهْتَمُّ باللّياقاتِ. هي هنا وكلُّ الأنظارِ موجّهةٌ إليها.
أمّا ردّةُ فعلِ الفرِّيسيّ فكانَتْ داخليّةً "قالَ في نفسِه". وكأنَّ في قولِهِ توبيخًا ليسوعَ: "لو كانَ هذا نبيًّا لعَلِمَ أيَّ امرأةٍ هي تلكَ الّتي تلمُسُه". أمّا يسوعُ فقد أظهرَ حنانَه فجعلَ النَّظراتِ العاتبةَ تتحوّلُ عن المرأةِ إليه. لم تكنِ المرأةُ لِتَتَحمّلَها، لهذا أخَذَ يروي خبرًا يجْذِبُ اهتمامَ الحاضرين.

40. فَأَجَابَ يَسوعُ وَقَالَ لَهُ: "يا سِمْعَان، عِنْدِي شَيءٌ  أَقُولُهُ لَكَ". قالَ الفَرِّيسِيّ: "قُلْ، يَا مُعَلِّم".
41. قالَ يَسُوع: "كانَ  لِدَائِنٍ مَدْيُونَان، أَحَدُهُمَا مَدْيُونٌ بِخَمْسِمِئَةِ دِينَار، والآخَرُ بِخَمْسِين.
42. وإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ما يُوفِيَان، سَامَحَهُمَا كِلَيْهِمَا. فأَيُّهُما يَكُونُ أَكْثَرَ حُبًّا لَهُ؟".
43. أَجَابَ سِمْعَانُ وَقَال: "أَظُنُّ، ذَاكَ الَّذِي سَامَحَهُ بِالأَكْثَر". فَقَال لَهُ يَسُوع: "حَكَمْتَ بِالصَّوَاب".

"فأجابَ يسوعُ وقالَ له". حينَ نقابلُ هذا الخبرَ مع خبرِ المخلّعِ نلاحِظُ تبدّلاً واضحًا في ترتيبِ الخبرِ. هناك يجيبُ يسوعُ على سؤالٍ سرّيٍّ طرَحَهُ الفريسيون "مَنْ هو هذا؟" فيُورِدُ برهانًا خارجيًّا، يقدِّمُ معجزةَ الشِّفاءِ. هنا كلِّ شيءٍ داخليٍّ. كلُّنا نَعلمُ أنّ هدفَ المثلِ أنْ يجعلَ الشَّخْصَ يفكِّرُ بوضعٍ يعيشُه ولا يُعْيِهِ. كم يصعَبُ علينا أنْ نكونَ موضوعيِّين حين نَنَظُرُ إلى نفوسِنا. إذن يقدِّمُ المثَلُ لنا خبرًا عن حياتِنا ولكنّ الرَّاوي يرويه وكأنَّه يفكِّرُ بآخَرٍ. نُؤْخَذُ بمعقوليَّةِ الخَبَرِ فنَحْكِمُ حكمًا موضوعيًّا، هو في الواقعِ حُكْمٌ على نفوسِنا. وكأنّ يسوعَ بَعْدَ حوارِه مع سمعانَ أرادَ أنْ يقولَ له: حَكَمْتَ حُكْمًا صائبًا على نَفْسِكَ.

44. ثُمَّ التَفَتَ إِلى الـمَرْأَةِ وَقالَ لِسِمْعَان: "هَلْ تَرَى هـذِهِ الْمَرْأَة؟ أَنَا دَخَلْتُ بَيْتَكَ فَمَا سَكَبْتَ عَلى قَدَمَيَّ مَاء، أَمَّا هِيَ فَقَدْ بَلَّتْ قَدَمَيَّ بِالدُّمُوع، وَنشَّفَتْهُما بِشَعْرِها.
45. أَنْتَ لَمْ تُقَبِّلْنِي، أَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ قَدَمَيَّ.
46. أَنْتَ مَا دَهَنْتَ رَأْسِي بِزَيْت، أَمَّا هِيَ فَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ قَدَمَيَّ.
47. لِذـلِكَ أَقُولُ لَكَ: خَطايَاهَا الكَثيرةُ مَغْفُورَةٌ لَهَا، لأَنَّها أَحَبَّتْ كَثيرًا. أَمَّا الَّذي يُغْفَرُ لَهُ قَليلٌ فَيُحِبُّ قَلِيلاً".
48. ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَة: "مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطايَاكِ!".
49. فَبَدَأَ الـمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ في أَنْفُسِهِم: "مَنْ هُوَ هـذَا الَّذي يَغْفِرُ الـخَطايَا أَيْضًا؟".

يشْعُرُ القارئُ أنّه الآنَ معنيٌّ بالخَبَرِ. هو يعْرِفُ أنّ ما أمامَه هو مغامرتُه الرُّوحيَّةُ الشَّخصيّةُ. لهذا يستطيعُ يسوعُ أن يُعيدَ إلى المرأةِ نظرةَ الحاضرين الَّتي تجدَّدَتْ: لن يحكموا عليها بعدَ الآنَ، بل يتأمّلون عملَ اللهِ فيها: "هل ترى هذه المرأةَ؟". وأفهمَ يسوعُ سمعانَ أنّه أظهرَ له حبًّا قليلاً. لا شَكَّ في أنّه لم يتجاوزْ حدودَ التَّهذيبِ تُجاهَ ضيفِهِ، ولكنَّه لم يقدِّمْ له العلاماتِ الّتي تُوجَّهُ إلى الضُّيوفِ الكبارِ. أمّا الخاطئةُ فغمرتْه بالإكرامِ العميقِ مدفوعةً بحبِّها.
وأعلنَ يسوعُ: "لِذـلِكَ أَقُولُ لَكَ: خَطايَاهَا الكَثيرةُ مَغْفُورَةٌ لَهَا، لأَنَّها أَحَبَّتْ كَثيرًا". الحبُّ هو نتيجةُ الغفرانِ وعلامتِه. وهكذا يصْبِحُ الخبرُ امتدادًا لتعليمِ الأنبياءِ. مثلاً يرى حزقيالُ الميثاقَ الجديدَ فيعلنَ بفمِ اللهِ: "أجْمَعَكم منْ كلّ البلدانِ... أحوِّلُ قلبَ الحجرِ إلى قلبٍ من لحمٍ. أضعُ روحي فيكم فتكونون لي شعبًا وأكونُ لكم إلهًا. حينئذٍ تتذكّرون سلوكَكُم الشِّرّيرِ" (حز 36: 25-31).
ويتوجَّهُ الخَبَرُ إلى الاستنتاجِ: "مَنْ هُوَ هـذَا الَّذي يَغْفِرُ الـخَطايَا أَيْضًا؟" وهكذا يعودُ بنا الإنجيليّون دومًا إلى السُّؤالِ الأساسيّش. ويهتمُّ لوقا بأنْ يركّزَ نظرَنا على شخصِ يسوعَ: فالتَّعلُّقُ بيسوعَ المسيحِ لا يستَنِدُ إلى أعمالِه ومعجزاتِه، بل إلى شخصِهِ. والسُّؤالُ المطروحُ "من هو هذا؟" يُطرَحُ علينا وإن كنّا نقولُ منْذُ الفِصْحِ: هو إبنُ اللهِ. فَسِرُّه غنيٌّ جدًّا بحيْثُ يطرَحُ علينا دومًا أسئلةً جديدةً حتّى ينمّيَنا في معرفتِنا له.
إنّ هذا الخَبَرَ الغنيَّ يوجِّهُنا إلى قلبِ سرِّ اللِّقاءِ معَ يسوعَ المسيحِ. ولهذا لم يتردَّدْ لوقا في أن يوسِّعَه، فزادَ الجُمْلَةَ الأخيرةَ الَّتي تشكِّلُ خاتِمَتَه الحاليّةَ.

50. فَقالَ يَسُوعُ لِلْمَرْأَة: "إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام!".
"إيمانكِ خلّصكِ" أوردَ الإزائيّون الثَّلاثةُ قولَ يسوعَ هذا حين شفى نازفةَ الدَّمِ (مر 5: 34) ونجدُه عند لوقا في نصّين آخرَين خاصّين بهِ: خبرُ الخاطئةِ (7: 50) وخبَرُ شفاءِ البُرْصِ العشَرةِ (17: 19).
كان لوقا تلميذَ بولسَ فتعرَّفَ إلى الحربِ الّتي قامَ بها معلِّمُه في خطِّ الهلِّينييِّن لكي تعترِفَ الكنيسةُ في مجمعِ أورشليمَ بالمبدإ القائلِ: نحنُ لا نَخْلُصُ بما نقومُ به من أعمالٍ (فل 3: 9) بل بما يقومُ اللهُ فينا من أعمالٍ. الإيمانُ هو تَعَرُّفٌ على الخلاصِ الَّذي يعطينا اللهُ إيّاه في المسيحِ وشكرانٌ على هذا الخلاصِ.
حينَ أضافَ لوقا هذه الجملةَ جَعَلَ من موقِفِ هذه المرأةِ رمزًا للموقِفِ المسيحيِّ. ونحنُ نستطيعُ أنْ نقابلَ هذا المَوقِفَ مع مَوقِفِ مريمَ العذراءِ. قدَّمَ لنا لوقا مريمَ كإبنةِ صهيونَ الملبيّةِ كلِّ التَّلبيةِ لنداءِ اللهِ. فصارَتْ على مثالِ إبراهيمَ، أمَّ المؤمنين. ولكن هذا النَّموذجُ قد يُثْبِطُ عزيمتَنا لأنَّ مريمَ هي بلا خطيئةٍ، هي الاستعدادُ الدَّائمُ. وقدَّمَ لنا لوقا في فمِ هذه الخاطئةِ كلمةَ الاستعدادِ للانطلاقِ في حياةِ جديدةٍ نالَتْ الخلاصَ. بيَّنَ لنا ما يستطيعُ اللهُ أنْ يفعلَهُ في بَتُوٍل تَسْتَسْلِمُ إليه بكليَّتِها في الإيمانِ. وأرانا هنا ما يَقْدِرُ اللهُ أن يفعلَه في قلبِ خاطئٍ ينفتِحُ كلَّ الانفتاحِ على حبِّهِ.
غيرَ أنّ هذا الخلاَص ليْسَ شيئًا فرديًّا وجامدًا. فالخلاصُ الَّذي يمْنَحُه اللهُ يدفعُنا إلى الانطلاقِ. فكما قالَ يسوعُ لنازفةِ الدَّمِّ الَّتي شُفِيَتْ وللسَّامريِّ الّذي طَهُرَ من بَرَصِهِ، ها هو يقولُ للخاطئةِ "إذهبي". الفعلُ الّذي استعمَلَه لوقا هنا عميقٌ جدًّا، فهو يدلُّ على صعودِ يسوعَ إلى أورشليمَ، إلى السِّرِّ الفصحيِّ وهو يتَوزّعُ على كلِّ القِسْمِ الأخيرِ من إنجيلِه. الإيمانُ هو في نَظَرِهِ دفعٌ وزخمٌ. يجعلُنا ننطَلِقُ مع المسيحِ إلى الصَّليبِ والمجدِ، وقبولِ مشروعِهِ بكلِّ ما فيه من موتٍ وقيامةٍ.

خلاصة روحيّة
يقدّمُ لنا لوقا خبرًا مرتّبًا لا نستطيعُ أن نقرأَه دونَ أنْ نَحُسُّ أنّه يتوجَّهُ إلينا ويطلبُ منّا جوابًا: هذه هي مغامرتُنا الرُّوحيَّةُ نقرأُها في الفرِّيسيِّ والخاطئةِ. كلُّ واحدٍ منّا يعرِفُ أنّه أمامَ يسوعَ، خاطئُ نَعِمَ بالغُفرْانِ، ولقَدْ حصَلْنا على جوابٍ للسَّؤالِ الّذي طرَحَه الفرِّيسيُّ: "لو كانَ هذا الرَّجُلُ نبيًّا لَعَرَفَ مَنْ هي هذه المرأةُ الّتي تلْمُسُه: إنَّها خاطئةٌ". أجلْ يسوعُ يعرِفُنا، يعرِفُ أنّنا خطأةٌ ولهذا يأتي إلينا لأنّه صديقُ الخطأةِ. ولكنّنا نعرِفُ أيضًا أنّنا لا نقْدِرُ أن نأتيَ إليه إنْ لم نَتُبْ، إن لم يحْدُثْ فينا انقلابٌ، إنْ لمْ نَرْغَبَ بالبُعْدِ عن الخطيئةِ. فحبُّه كحبِّ الدَّائنِ، بل يتعدّاه بصورةٍ لا محدودةٍ. حبُّه يعيْدُ إلى من يتقبّلُهُ نقاوةَ القلبِ. والحبُّ الّذي نُظْهِرُه له هو عُرْفانُ جميلٍ لحبِّهِ لنا قَبْلَ أن نُحِبَّهُ.


تحميل المنشور