كَسر الكلمة -46- الأحد الرابع عشر من زمن العنصرة

كَسر الكلمة -46- الأحد الرابع عشر من زمن العنصرة

الأحد الرابع عشر من زمن العنصرة
مرتا ومريم
(لوقا 10/ 38-42)
38. وَفيمَا كَانُوا سَائِرين، دَخَلَ يَسُوعُ إِحْدَى القُرَى، فاسْتَقْبَلَتْهُ في بَيتِهَا امْرَأَةٌ اسْمُها مَرْتا.
39. وَكانَ لِمَرْتَا أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَم. فَجَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَي الرَّبِّ تَسْمَعُ كَلامَهُ.
40. أَمَّا مَرْتَا فَكانَتْ مُنْهَمِكَةً بِكَثْرَةِ الـخِدْمَة، فَجَاءَتْ وَقَالَتْ: "يَا رَبّ، أَمَا تُبَالي بِأَنَّ أُخْتِي تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُسَاعِدَنِي!".
41. فَأَجَابَ الرَّبُّ وَقَالَ لَهَا: "مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين!
42. إِنَّمَا الـمَطْلُوبُ وَاحِد! فَمَرْيَمُ اخْتَارَتِ النَّصِيبَ الأَفْضَل، وَلَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا".

مقدّمة
عرَفَتْ زيارةُ يسوعَ إلى مرتا ومريمَ تفاسيرَ متنوّعةً على مرِّ التَّاريخش. إلاّ أنّنا لا نجِدُ دومًا تفاسيرَ إجماليّةً. فالكتّابُ يشدِّدون على هذه الوجهةِ في الخبرِ دونَ أن يعالِجَه معالجةً تامّةً. أمّا عندَ الإنجيليِّ لوقا، نجدُ بين أيدينا معطياتٍ عديدةً تساعدُنا على اكتشافِ فكرِه، بخاصّةٍ السِّياقِ الّذي فيه يتَحدَّدُ موقِعُ خبرَ زيارتِه هذه من جهةِ، وعلاقتِه بما نقرأُ في مؤلَّفِه، أي الإنجيلِ وأعمالِ الرُّسُلِ من جهةٍ ثانيةٍ.

سياق الخبر
في بدايةِ صعودِ يسوعَ إلى أورشليمَ، الّذي جعلَه لوقا محورَ كتابه (لو 9: 51، 19: 27)، ضمّ أوّلاً عناصرَ متعدّدةً حولَ رسالةِ التَّلاميذِ (لو 9: 51-10: 20). بعدَ هذا، قدّمَ لوقا مجموعةَ تعاليمَ تتوجَّهُ إلى التَّلاميذِ حولَ متطلّباتٍ وضعَهُم والنِّعَم الّتي يحصلون عليها (لو 10: 21-11: 13): يُعطى لهم وحيُ الابنِ (10: 21-24)، شريعةُ المحبّةِ الّتي يتوسَّعُ فيها مثلُ السَّامريِّ الصَّالحِ (10: 25-37)، خبرُ مرتا ومريم (10: 38-42)، وأخيرًا مجموعةٌ من العناصرِ حولَ الصَّلاةِ (11: 1-13). ووسَطَ هذه المجموعةِ من العِبَر الرُّوحيّةِ الأساسيّةِ، قد وضعَ لوقا خبرَ مرتا ومريم، فرأى فيه أمثولةً مهمّةً جدًّا بالنِّسبةِ إلى التَّلاميذِ.
إذا أردْنا أنْ نحدّدَ أمثولةَ الخبرِ ننطلِقُ من النَّصِّ: بنيتُه وفنًّه الأدبيُّ. فَمَعَ أنّ هذه الآياتِ الخمسِ تشكّلُ خبرًا متكاملاً، إلاّ أنّ اهتماماتِ لوقا ليسَتْ اهتماماتِ مؤرّخٍ من عالمِنا: فهو لا يذكُرُ مكانَ الحدَثِ ولا زمانَهُ. قد يكونُ لوقا عرَفَ أنّ الحدثَ حصلَ في بيتِ عنيا، لأنّه يبدو مطّلعًا على التقليدِ الَّذي نجدُه في (يو 11-12). ومع ذلك، فهو لا يتحدّث عن المكانِ. لماذا؟ لأنّه ألغى كلَّ التَّفاصيلِ الّتي تؤخِّرُ مسيرةَ الصُّعودِ إلى أورشليمَ. اهتمَّ لوقا بأعمالِ يسوعَ وأقوالِهِ، لا بإعادةِ تكوينِ الإطارِ الزَّمني لهذه الأفعالِ والأقوالِ.
ويُدهشُنا هنا أنّه يورِدُ إسمَ مرتا ومريم. واقعٌ فريدٌ عندَ لوقا كما عند متّى ومَرقس، الّذين لا يذكرون أسماءَ مُحَاوِري يسوعَ إلاّ في حالاتٍ إستثنائيّةٍ. وإذا كانَ لوقا ذكَرَ اسمَ الأختين، فلأنّه يهتمُّ بهما اهتمامًا خاصًّا.
ومجملُ النَّصِّ يحاولُ أنْ يصوِّرَ الطَّريقةَ الّتي بهما استقبلَتْ مرتا ومريمُ يسوعَ. وكلمةُ المعلّمِ النِّهائيّةُ التّي تعارضُ بين موقفين تشكّلُ قِمّةَ الخبرَ وخاتمتَه، تشكّلُ الدَّرسَ الّذي يجعلُنا لوقا نستنتجُه.

شرح الآيات
38. وَفيمَا كَانُوا سَائِرين، دَخَلَ يَسُوعُ إِحْدَى القُرَى، فاسْتَقْبَلَتْهُ في بَيتِهَا امْرَأَةٌ اسْمُها مَرْتا.
39. وَكانَ لِمَرْتَا أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَم. فَجَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَي الرَّبِّ تَسْمَعُ كَلامَهُ.

إنّ مريمَ "جلستْ عندَ قدمَي الرَّبِّ" (آ 39) حينَ أعطى لوقا المسيحُ هذا اللَّقبَ المميّزَ في إنجيلِه (الربّ أي كيريوس) (7: 13 و 19، 10: 1 و 39 و 41) دلَّ على سُلطةِ يسوعَ. وموقفِ مريمَ هو في الحقيقةِ موقفُ التَّلاميذِ أمامَ معلّمِهم (8: 35، أع 22: 3). هي تسمعُ الكلمةَ، وهذا هو الواجبُ الأوّلُ للتِّلميذِ الحقيقيِّ بحسبِ لوقا (6: 47،8: 13 و15 و21).

40. أَمَّا مَرْتَا فَكانَتْ مُنْهَمِكَةً بِكَثْرَةِ الـخِدْمَة، فَجَاءَتْ وَقَالَتْ: "يَا رَبّ، أَمَا تُبَالي بِأَنَّ أُخْتِي تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُسَاعِدَنِي!".
أمّا مرتا فهي منهمكةٌ بأمورِ الضّيافةِ: هي ربّةُ البيتِ وهي تحاوِلُ أنْ تؤمِّنَ ليسوعَ أجملَ خدمةٍ يقدِّمُها فقراءُ فلسطين لضيوفِهم. تكاثرَ الشُّغلُ عليها، فاضطربَتْ وارتَبكتْ. وهذه الغيرةُ تدلُّ على احترامِها للرَّبِّ، وعلى رغبَتِها في أنْ تستقْبِلَه إستقبالاً يليقُ به. غيرَ أنّها لا تفهمُ أختَها الّتي لا تفعلُ شيئًا، الَّتي لا تشارِكُها في العملِ. إنّها تريدُ أن تنتزعَها من سماعِ يسوعَ لتساعدَها في ترتيبِ البيتِ أو إعدادِ الطَّعامِ. وهي واثقةٌ من موقفِها. لهذا دعَتْ يسوعَ بلهجةٍ فيها من الّلومِ حتّى يقاسمَها نظرتَها. هكذا بَدَتِ الأختانِ مثلَ تلميذين يهتمّان باستقبالِ المعلّمِ. لكنَّ مريمَ لا تهتمُّ إلاّ بسماعِ كلمتِهِ. ومرتا بالقيامِ بواجباتِ الضَّيافةِ بسخاءٍ.

41. فَأَجَابَ الرَّبُّ وَقَالَ لَهَا: "مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين!
42. إِنَّمَا الـمَطْلُوبُ وَاحِد! فَمَرْيَمُ اخْتَارَتِ النَّصِيبَ الأَفْضَل، وَلَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا".

وجاءَ جوابُ يسوعَ حُكمًا على موقفِ مرتا ومريمَ. وسمّاه لوقا "الربّ" من جديدٍ فدلَّ على سُلطةِ كلمتِه السَّاميةِ. حينَ يلومُ يسوعُ مرتا بسببِ اضطرابِها واهتمامِها بأمورٍ كثيرةٍ، فهو يستعيدُ موضوعًا طالما تطرّقَ إليه في حديثِه عن الهمومِ: يدعو المُرْسَلين ألاّ يهتمّوا في دفاعِهم أمامَ المحاكمِ الّتي يجلِسُ عليها مضطهدوهم (12: 11). يدعو تلاميذَه ألاّ يقلقوا بسببِ الطَّعامِ واللِّباسِ (12: 22-26). يحذّرُ مؤمنيه من همومِ الحياةِ الّتي تخنقُ بذورَ الكلمةِ (8: 14). في كلِّ هذه النُّصوصِ، نجدُ شجْبًا للهمومِ لأنّها تميلُ بالمؤمنين عن الجوهرِ وهو: الاعترافُ بابنِ الإنسانِ (12: 7-9)، البحثُ عن ملكوتِ اللهِ (12: 31)، تقبّلُ الكلمةَ (8: 11-15)... أمّا في وضْعِ مرتا، فالهمومُ والانهماكاتُ تميلُ بها عن الضَّروريِّ الوحيدِ ألا وهو الإصغاءُ لكلمةِ اللهِ. بكلِّ تأكيدٍ تقبّلَ يسوعُ ضيافةَ مرتا بكلِّ امتنانٍ، لكنْ هناك سُلّمًا للقيمِ بنظرِه. لذا نراه يختُمُ بتهنئةٍ وجّهَها إلى مريمَ، الّتي اختارَتْ الحصّةَ الأفضلَ وهي سماعُ الكلمةِ، بهذا المعنى ردَّدَ صاحبُ المزمورِ، قالَ: "نصيبي، يا ربّ، أنْ أحفظَ كلامك" (مز 119: 57). 

خلاصة روحيّة
فلنتشبّه بمريمَ فنجلِسُ عندَ قدمَي يسوعَ نصغي إلى كلمتِه، لا هربًا مِنَ الخدمَةِ الَّتي اهتمَّتْ بها مرتا، بلْ لتكونَ خدمتُنا انعكاسًا للكلمةِ وتجسيدًا لها. فخبرُ هاتين الأختين يدعونا إلى التّأمّلِ في طريقةِ تقبُّلِ يسوعَ: تقبّلٌ عبّرَتْ عنهُ الأجيالُ في سخاءِ الضّيافةِ. ولكن هذا التقبّلَ لا يتجاوبُ ومجيءَ الربِّ إلاّ إذا انفتَحَ على كلمةِ الرَّبِّ وولجَ في سرِّهِ.


تحميل المنشور