العبادة القربانيّة

العبادة القربانيّة

المقدّمة
في رتبة السيامة الكهنوتيّة، يُحمِّل الأسقفُ المحتفلُ الكاهنَ الجديد على رأسه كأسًا موضوعًا فيه الجسد المغمّس بالدمّ المقدّس، مغطّى بالنافور الكبير، يمسكه الكاهن الجديد بكلتي يديه. ويقود الكاهنَ الجديد عرّابٌ في زيّاح في الكنيسة وسط الشعب. هذه الحركة الطقسيّة تشير إلى الدور الَّذي سيضطّلع به الكاهن الجديد والمرتبط بسرّ القربان الأقدس: على الكاهن أن ينحني أمام سرّ الأسرار، أن يحمله على رأسه وفي قلبه، لأنّه محور حياته كلّها، وأن ينشر سرّ محبّته بين المؤمنين المدعويّن إلى التقدّم من المناولة بالكمال والنقاوة والقداسة.
فما هو موقع العبادة القربانيّة اليوم في حياتنا الشخصيّة والرعويّة ككهنة ومؤمنين؟
إنّ الكلام على العبادة القربانيّة يقودنا إلى التوقّف عند السجود والزيّاح.

أوّلاً- السجود والتقوى تجاه القربان
1- العلاقة الجوهريّة بين الاحتفال الإفخارستيّ والسجود
أ- ما هو السجود؟

لا يحقّ لنا السجود إلاّ لمن أوجدنا من العدم، كما هو مكتوب: "للربِّ إلَهِكَ تسجُد، وإيّاهُ وحده تعبد" (متّى 4: 10). يدلّ السجود على ضعف طبيعتنا البشريّة والكرامة الواجبة علينا لله الخالق، كما يدلّ على الاعتراف بالسقوط في الخطيئة، والتوبة الحقيقيّة. والسجود والعبادة متلازمان. "تأتي ساعة وهي الآن، فيها الساجدون الحقيقيّون يسجدون للآب بالروح والحقّ، فعلى مثال هؤلاء يريد الآب الساجدين له" (يو 4: 23).

ب- أنواع السجود:
السجود كحركة جسديّة ثلاثة أنواع:
• نكس الرأس وطيّ الصدر ويُدعى "انحناءً"، ويُمارَس في القدّاس وأيّام الآحاد والأعياد.
• إلصاق الرُكَب بالأرض ويُدعى "ركوعًا"، ويُمارَس بنوع خاصّ في رتب التوبة.
• إلصاق الرُكَب والرأس بالأرض ويُدعى "مطانيّة"، ويُمارَس في أسبوع الآلام، وفيه يصير المؤمن على شكل جنين يستعدّ للخروج من عنق الرحم بعد مخاضٍ أليم.

ج- متى يُمارَس السجود في القدّاس في الكنيسة المارونيّة؟
بعد الصلاة الربّيّة الَّتي هي مدخل إلى رتبة التوبة في القدّاس، يدعو الشمّاس الشعب إلى حني الرؤوس: "إحنوا رؤوسكم أمام الله الرؤوف ..." بعدها، يستمدّ المحتفل البركة من الكأس والصينيّة ومن المذبح الغافر، كما في السيامات، ويبسط يمينه فوق الشعب، ثمّ يرسم إشارة الصليب عند قوله: "نعمة الثالوث الأقدس ..."
تُبرز الصلوات الَّتي ترافق بسط يمين المحتفل فوق الشعب، بوضوح، حركة السجود وإحناء الرؤوس والأعناق. على سبيل المثال لا الحصر:
- أمامك أيًّها الربّ الإله، وأمام مذبحِك الغافر، وأمامَ جَسَدِ ابنِكَ ربّنا يسوع المسيح ودمِهِ، نحني رؤوسنا وأعناقنا ونسجد للثالوث الممجّد ...(نافور شرَر).
- أيُّها الربّ الإله الصالح ومحبّ البشر، أنظر إلى الَّذين حنوا رؤوسهم أمام عظمتك (نافور مار يوحنّا فم الذهب).
- بارِك يا ربّ الساجدين لك المنحنين أمامك، الضارعين إليك ... (نافور مار بطرس).
في إرشاده الرسوليّ "سرّ المحبّة" يقول البابا بنديكتوس السادس عشر:
"إنّ الاحتفال الإفخارستيّ هو في ذاته أعظم عمل سجود في الكنيسة. قبولُنا للإفخارستيّا يعني أن نأخذ موقف العبادة نحو من نقبله. هكذا، وهكذا فقط، نُصبح واحدًا معه ونتذوّق، نوعًا ما، جمال الليتورجيّا السماويّة" (عدد 66).
السجود في القدّاس يتمّ قبل المناولة وليس بعدها، وهو يحضّرنا لها. فبعد المناولة نحمل "الزاد والبركات الَّتي نلناها من مذبح الربّ الغافر" إلى بيوتنا، وإلى من نقصدهم في زياراتنا وخدمتنا وكرازتنا، تمامًا كما فعلت مريم الَّتي، بعد أن قبلت الكلمة في أحشائها وأصبحت أوّل بيت قربان، قامت مسرعة إلى الجبل، إلى مدينة في يهوذا، ودخلت بيت زكريّا وسلّمت على إليصابات (لو 1: 39-40). وكما فعل أشعيا النبيّ الَّذي، ما أن مسّت الجمرة شفتيه، حتّى قال للربّ " هاءنذا أرسلني" (أش 6: 8).
إذا كان السجود يعبّر عنه في القدّاس بحني الرأس، فالنوعان الآخران من السجود نمارسهما في العبادة الإفخارستيّة خارج القدّاس.

2- كيف يُمارَس السجود خارج إطار الاحتفال الإفخارستيّ؟
يؤكّد البابا بنديكتوس السادس عشر على أنّ هناك فائدة كبرى لكرازة ملائمة تشرح للمؤمنين أهميّة فعل العبادة الَّذي يسمح بعيش الاحتفال الليتورجيّ ذاته بعمق أكبر وثمار أغزر. وبحسب الإمكانيّات، وخاصّة في المناطق المكتظّة بالناس، يَحسُن أن يُحافظ على السجود الدائم في بعض الكنائس والمصلّيات. كما ينصح أن يُنشَّئ الأولاد، خاصّة في زمن الإعداد للقربانة الأولى، في التربية الكرازيّة، على معنى وجمال وجودهم برفقة يسوع وذلك بتربيتهم على الإعجاب بحضوره الإفخارستيّ:
"أودّ هنا التعبير عن إعجابي ودعمي لمؤسّسات الحياة المكرّسة الَّتي يكرّس أعضاؤها جزءًا مهمًّا من وقتهم للسجود للقربان. وهكذا يعطون الجميع مَثَل أشخاص تركوا ذواتهم تتحوّل بفضل حضور الربّ الحقيقيّ. كما أودّ تشجيع جمعيّات المؤمنين والأخويّات الَّذين يمارسون هذه العبادة كواجب خاصّ فيصبحون هكذا خميرة تأمّل لكلّ الكنيسة وتذكيرًا بمكانة المسيح المركزيّة لحياة الأشخاص والجماعات". (سرّ المحبّة، عدد 67).
كما يدعو البابا بنديكتوس كلّ مؤمن إلى أن يجد وقتًا يقضيه بالصلاة أمام سرّ المذبح، ويُلفت نظر الرعايا وباقي الفرق الكنسيّة لكي يكرّسوا أوقات عبادة جماعيّة، وإقامة الزيّاحات القربانيّة وبخاصّة في الزيّاح التقليديّ يوم خميس الجسد، ويحثّهم على الممارسة التقليديّة للأربعين ساعة. (سرّ المحبّة، عدد 68).

ثانيًا- زيّاح القربان 
إنّ لفظة "زَيَّحَ"، تعني "تَحَرَّكَ"، وهنا تعني نقل القربان من مكان إلى مكان. تحتفل الكنيسة بزيّاح القربان خلال الاحتفال الإفخارستيّ أو بعده.
1- زيّاح القربان في القدّاس 
عند المناولة، تعرف الكنيسة المارونيّة ثلاثة زيّاحات متتالية:
أ- البركة والزيّاح قبل المناولة
إنّ النشيد التقليديّ الَّذي يرافق "الزيّاح: "إنُا إنُا لَحمُا دَحيِا إِمَر مُرَن..." أي "قال الربّ إنّي أنا الخبز ُ المُحيي..." إنّما هو مطابق تمامًا لحركة النقل. قبل مناولة الشعب، كان الكاهن يزيّح الصينيّة بيديه بشكل صليب من شمال المذبح قائلاً: "قديش قديش..." ويزيّح الكأس بشكل صليب من جنوب المذبح قائلاً: "قودشُخ نِهوِا..."
وبعدها يدعو الكاهن المؤمنين إلى المناولة: " أَحَي قَبِل فَغرِه دَبرُا قُعيُا عيتُا"، يحمل الكاهن الصينيّة، والشمّاس الكأس، فيتقدّم المؤمنون من المناولة من الخبز أوّلاً ثمّ من الكأس، آتين بصفّ واحد.
إنّ زيّاح نزول القربان نحو الشعب هو علامة لنزول خبز الحياة من السماء إلى العالم. وها هو الربّ يقدّم نفسه للشعب مأكلاً حقيقيًّا ومشربًا حقيقيًّا.

ب- الزيّاح عند المناولة وبعدها
الأبيات السريانيّة الَّتي ينشدها الكاهن والشعب بعد المناولة وقبل دورة الكأس هي أناشيد تعود كلّها للموتى. وينشد الشعب نشيدًا موآتيًا: "قَبِل مُرَن بَحنُنُخ ..." أي "إقبل ربّنا الحنّان..." يعود الكاهن إلى المذبح، منشدًا: "مَلكُا شمَيُنُا قَبِل قُوربُنُا دعَبدَيَخ..." أي "مَليكَ السماء إقبَل قربان الأبناء..."
إذا كان زيّاح النزول من المذبح هو لأجل الأحياء، فإنّ زيّاح العودة إلى المذبح هو لأجل الموتى حتّى يوصلهم الله إلى الشركة معه في المجد.

ج- الدورة والمباركة بالأسرار
بعد المناولة، يحمل الكاهن الصينيّة فوق الكأس ويبارك الشعب بالأسرار قائلاً: " أيضًا وأيضًا بك يا ربّ نعترف..."، راسمًا عليهم إشارة الصليب من أعلى إلى أسفل، ومن أقصى يساره إلى أقصى يمينه. عندما كانت وجهة الكاهن نحو المذبح، أي نحو الشرق، كان يدور بالأسرار من الشرق إلى الشمال فإلى الغرب والجنوب. بهذا الزيّاح تُختتم المناولة، وهو يرمُز إلى اكتمال تدبير الرَّبّ وصعوده إلى السَّماء، وإلى أنَّ هذه الإفخارستيّا شائع أمرها في أربعة آفاق العالم، وتشير هذه الدورة إلى تثبيت بيعة الله والغفران العام الذي يُعطى لها من جسد الرَّبّ ودمه.
تتوافق هذه الزيّاحات مع الحركة الَّتي يقوم بها الكاهن المحتفل عند الكسر، إذ يكسر القربان إلى نصفين: النصف الأيمن يتناوله قبل مناولة الشعب عن الأحياء، ويكسر جزءًا صغيرًا من طرف النصف الأيسر ويضعه في الكأس بعد أن ينضح به الجزءين: يرمز هذا الجزء الصغير إلى الطوباويّين الَّذين دخلوا إلى فرح سيّدهم. أمّا الجزء الأيسر، فيتناوله المحتفل بعد مناولة الشعب عن الموتى.

2- زيّاحات القربان خارج القدّاس
• بما أنّ القدّاس هو قمّة العبادة الإفخارستيّة فلا حاجة في تساعيّة الميلاد، إذا استتبعت صلاة المساء بالقدّاس، إلى زيّاح القربان في الشعاع في ختام القدّاس، لأنّ عناصر الزيّاح الأساسيّة نجدها كاملة في الاحتفال الإفخارستيّ.
• يوم خميس الأسرار، يحمل المحتفل ما تبقّى من قربان في حقّة على رأسه، كما في يوم سيامته الكهنوتيّة، وينقله من المذبح الكبير الَّذي يرمز إلى مائدة العشاء السرّي في العلّيّة إلى جهة الجنوب دلالة على خروج يسوع من القدس إلى جبل الزيتون، أو إلى مكان آخر معدّ له يرمز إلى بستان الزيتون. في هذه النقلة لا يُتلى زيّاح القربان كما هو وارد في الكتب.
• أمّا عن زيّاح القربان يوم خميس الجسد، ومع أنّ العيد غربيّ المصدر، إلاّ أنّه دخل إلى كنيستنا الشرقيّة مع الآباء المُرسَلين في القرن السادس عشر. يُطاف في القربان خارج الكنيسة قبل العودة به إلى المذبح. هذا الزيّاح بحدّ ذاته ليس بغريب عن تقليدنا المارونيّ العريق، إذ يخبرنا كتاب الهدى، في القرن الحادي عشر، أنّه في زمن الحروب والأوبئة والمجاعات والأخطار، كان يُحمل تابوت الأسرار الَّذي يحتوي على جسد الربّ وزيت الميرون وزيت العماد وماء الدنح، والمحفوظ في خزانة الأسرار، ويُطاف به في أرجاء القرية أو البلدة لحمايتها من كلّ ضرر.
ملاحظة: ضرورة ارتداء اللباس الليتورجيّ الكامل عند الاحتفال بزيّاح القربان.

ثالثًا- احترام سرّ القربان
يقول الشمَّاس: "لينظر كُلُّ واحدٍ منّا إلى الله بتهيُّبِ وخشوع، وليسأله الرحمة والحنان".
فكيف على الكاهن والمؤمنين على السواء التقدّم من هذا السرّ بمهابة ومخافة وخشوع؟
1- يشكّل الاحتفال بالقدّاس محور العبادة المسيحيّة، فهو الاحتفال بسرّ التدبير الخلاصيّ، الذي حقّقه ربّنا يسوع المسيح؛ إنّه سرّ موته وقيامته وإعطائه كنيسته جسده ودمه. والسيّد المسيح هو حاضر في كنيسته عبر كلمته المحيية وعبر المائدة الإفخارستيّة حيث يمثّل أعلى درجات الحضور بفعل الروح القدس، وعليه، يُقسم الاحتفال بالقدّاس إلى قسمين أساسيين متكاملين: كلمة الله وجسد الربّ ودمه.
2- تُعتمد رتبة القدّاس التي أقرّها مجمع الأساقفة برئاسة السيّد البطريرك والتي تصدر بموجب مرسوم بطريركيّ دون سواها.كما يعتمد كتابا قراءات الرسائل والإنجيل وكتاب الألحان الطقسيّة وكتاب الإرشادات الطقسيّة، التي صدرت بموجب مرسوم بطريركيّ، دون سواها. والارتجال في الاحتفال الطقسيّ غير جائزٍ أبدًا.
3- يحتفل "بالقدّاس" على المذبح الرئيس في الكنيسة الرعويّة أو في كنيسة الدير.ويحبّذ القدّاس المشترك برئاسة محتفل ومعاونة كهنة آخرين، تفاديًا للاحتفال بالقداديس الإفراديّة التي لا تتناسب وطبيعة الليتورجيّا ولاسيّما روحيّة الطقوس الشرقيّة.
4- يحتفل بالقدّاس بكامل اللّباس الكهنوتيّ المنصوص عليه في التقليد المارونيّ العريق. ويلبس الكهنة المعاونون البطرشيل فوق الجبّة، ولا يُسمح بوضع البطرشيل بغير هذه الحالة. كذلك الأمر بالنسبة إلى المؤمنين، فهم مُلزمون بارتداء "ثياب العرس" اللائقة، لأنّهم مدعوّون إلى وليمة، وإلى لقاء حيّ مع ملك الملوك. لباس المذبح يختلف عن لباس المسبح.
5- تضاء، على الأقلّ، شمعتان عسليّتان، في القدّاس؛ وفي القدّاس الحبريّ، تُضاف إليهما اثنتان أخريان أو أكثر.
6- تُحبّذ المناولة من القربان المقدّس المبارك عليه في القدّاس ذاته، كما يسمح عند الحاجة بالمناولة من القربان المحفوظ في بيت القربان. وليحرص من يعدّ القرابين على عدم وضع الفتات في الحُقّة، لئلاّ تتناثر أينما كان.
7- تعطى المناولة لجماعة المؤمنين المشتركين في احتفال القدّاس، ويجب الانتباه إلى غير المعمّدين الذين يشاركون أحيانًا في القداديس، فلا تعطى لهم المناولة. كما، يحبّذ عدم دعوة غير المسيحيّين إلى المشاركة في القداديس، ويُستعاض عنها بدعوتهم إلى المشاركة في رتب دينيّة خاصّة بالمناسبات ذات الطابعَ الوطنيّ.
8- يناط توزيع المناولة بالأسقف والكاهن والشمّاس الإنجيليّ؛ وإذا اقتضى الأمر، يُسمح للشدياق أو لصاحب درجة كهنوتيّة صغرى بمساعدة الكاهن المحتفل؛ وعند الحاجة القصوى، وبإذنٍ خاصّ من المطران المكانيّ، يمنح هذا الإنعام للمؤمنين الملتزمين المعروفين بالخدّام غير الاعتياديّين الخاضعين لتثقيف ملائم بشأن العقيدة الإفخارستيّة وطبيعة خدمة السرّ، والعادات المحافظ عليها إكرامًا لهذا السرّ العظيم.
9- يُحافَظ على الصوم الإفخارستيّ أقلّه مدّة ساعة واحدة قبل المناولة، من قبل الكهنة والمؤمنين.
10- تعطى المناولة تحت شكلي الخبز والخمر المقدّسين. ويجب أن يسبق تناول جسد المسيح ودمه الإعداد الصادق الجِدّيّ والروحيّ، والمشاركة في قسم الكلمة. ويكون الاستعداد للقدّاس بالتوبة والصلاة والتأمّل والاشتراك فيه اشتراكًا فعليًّا وفعّالاً.
11- في الاحتفالات الإفخارستيّة اليوميّة، يُحافَظ على الصمت التأمّليّ أقلّه بعد تلاوة الإنجيل، وبعد المناولة عند الشكر.

رابعًا- المناولة أو الشوتفة
مع انتشار جائحة كورونا، اتّخذت الكنيسة تدابير وقائيّة أبرزها المناولة في اليد. واعترض المعترضون بحجّة أنّ اليد مدنّسة، مع أنّ "ما يخرج من الفم من القلب يصدر، وهو ما ينجّس الإنسان" (متّى 15: 11 و19)، "والأَكلُ بأيدٍ غير مغسولة لا ينجّس الإنسان" (متّى 15: 20).
طريقة المناولة في اليد ليست ابتكارًا جديدًا في تاريخ الكنيسة. فالآباء القدّيسون يتحدّثون عنها، وأبرزهم مار كيرلُّس الأورشليميّ الَّذي يقول: "عندما تقترب، لا تتقدّم باسط اليدين والأصابع منفردة، ولكن اجعل من يدك اليُسرى عرشًا ليدك اليُمنى لأنّ هذه ستتقبّل الملك. وفي راحة يدك تقبّل جسد المسيح قائلاً: "آمين". وبعد ان تلمس بعينيك هذا الجسد المقدّس لتقديسهما، تناول. واحرص على ألاّ يسقط جزء منه على الأرض... (العظة الخامسة، عدد 21).
من جهته: يقول ثيودورس أسقف المصّيصة ومفسّر الكتب الإلهيّة، وهو من آباء الكنيسة السريانيّة:
"حينئذٍ يقترب كلّ واحد منّا ونظره منخفض ويداه منبسطتان". ففي انخفاض نظره يَفي بالسجود بعض الدَين المتوجّب عليه. وبفعله هذا يقرّب فعل إيمان بأنّه يقبل جسد الملك، جسد الَّذي صار ربّ الكلّ باتّحاده بالطبيعة الإلهيّة، وله تسجد في الوقت ذاته كلّ الخليقة لأنّه الربّ. وبيدَيه المبسوطتَين يعترف حقًّا بعظمة الموهبة الَّتي سيقبلها. يبسط المؤمن يده اليمنى ليقبل فيها القربان المعطى له ويضع تحتها اليسرى، وهذا يدلّ بذلك على احترام عظيم. فإذا انبسطت اليمنى وكان لها دور أسمى فما ذلك إلاّ لتقبل جسد الملك. حين تستند اليسرى أختها ورفيقتها وتقودها، فلا تظنّ أنّها محتقرة لأنّها تلعب دور خادمة لتلك الَّتي تساويها بالكرامة، وكلّ هذا بسبب الجسد الملكيّ الَّذي تحمله.
يعطي يالكاهن القربان وهو يقول: "جسد المسيح". فيعلّمك بهذه الكلمة أن لا تنظر إلى ما يُرى بل أن تتصوَّر في قلبك ما صار إليه هذا الَّذي وُضع على المذبح والَّذي صار جسد المسيح بحلول الروح القدس. لهذا يجب عليك أن تقترب بخوف كثير ومحبّة شديدة نظرًا إلى عظمة ما يوهَب لنا. فهو يستحقّ المخافة لأجل عظمة كرامته، والمحبّة من أجل النعمة الَّتي يولينا إيَّاها. ولهذا تقول أيضًا بعده: "آمين". فبجوابك تثبت كلمة الكاهن وتصدِّق كلمة الَّذي يعطي. ونعمل الشيء عينه لنأخذ الكأس.
أمّا أنت فحين تقبل الجسد في يديك تسجد له فتعترف بسلطان مَن هو في يديك وتتذكّر الكلمة الَّتي قالها لتلاميذه ربُّنا القائم من بين الأموات: "أعطي لي السلطان في السماء والأرض" (متّى 28: 18). وبمحبّة فائقة تضعه على عينيك وتقبّله، وتقدّم صلواتك إلى ربّنا المسيح القريب منك منذ الآن، لأنّ ما كنت تنتظره من دالّة عظمى صار حقيقة. وحين تقترب منه وتمسكه تكون قد مارست هذه الدالّة. وتصلّي مُقرًّا بضعفك وبكثرة خطاياك وتعترف بأنّك حقير جدًّا بالنسبة إلى عطيَّة كهذه. وتمجِّد كما يجب ذلك الَّذي أعطى مثل هذه العطايا لشخص مثلك، وأهّلك أن تقبل العون حتّى تستحقّ أن تأخذ القربان وقد تحرّرت من كلّ شرّ لتعمل كلّ ما يرضيه". (حول القدّاس، العظة الثانية، عدد 27 و28).
وفي نشيد الشكر في القدّاس المارونيّ، نجد أثرًا لهذا التقليد: قد أكلت جسدك المقدّس لا تأكلني النار وعيناي الَّتي مُسّت به رحمتك تُبصر ...
كما نجده أيضًا في صلوات الختام في نافور شرَر: "أيّتها النَارُ الآكلةُ الّتي حَمَلَتْها أَصابعُنا، أيَّتُها الجَمْرَةُ الحيّةُ الّتي قبَّلَتها شِفاهُنا؛ لم يَستَطِعِ السَرافُ حملَها بِيَدِه، أمّا النَبيُّ فقد حَمَلها وتبرّرَ بها. طَهِّر يا ربُّ الأفواهَ والشفاهَ والأيدِيَ الّتي حَمَلت جَسَدَك؛ قَدِّسِ الأجسادَ والضَمائرَ والعقولَ والقلوبَ الّتي قَبِلَت دَمَكَ الزَكيّ؛ واختُمْها بصليبِك وَحِلَّ فيها بِقوَّتِك الخفيّة، لَكَ المَجدُ إلى الأَبد".
حبّذا لو نكرّس وقتًا إضافيًّا قبل المناولة، نوجّه فيه المؤمنين على طريقة المناولة باحترام:
- عند الوصول أمام الكاهن، نزع الكمّامة عن الفم.
- وضع اليد اليُسرى تحت اليُمنى بشكل صليب.
- تقبّل جسد المسيح في الكفّ اليُمنى، مع إمكانيّة لمس العينين لمن يريد.
- تناول الجسد مباشرة من الكفّ أمام الكاهن، من دون التقاطه بالأصابع.
هذه الطريقة المتّبعة تقلّل من خطر وقوع الجسد على الأرض، أو أخذه إلى أماكننا، أو التقليل من احترامه...

وحتّى صدور تدبير آخر عن السلطة الكنسيّة، نلتزم بالطاعة الَّتي هي المدخل الأساسيّ لقداستنا.