كَسر الكلمة -24- أحد الشعانين

كَسر الكلمة -24- أحد الشعانين

أحد الشعانين
 (يوحنّا 12: 12-22)
12. وفي الغَد، لَمَّا سَمِعَ ألـجَمْعُ الكَثِير، الَّذي أَتَى إِلى العِيد، أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلى أُورَشَليم،
13. حَمَلُوا سَعَفَ النَّخْلِ، وخَرَجُوا إِلى مُلاقَاتِهِ وهُمْ يَصرُخُون: "هُوشَعْنا! مبَاركٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبّ، مَلِكُ إِسرائِيل".
14. ووَجَدَ يَسُوعُ جَحْشًا فَرَكِبَ عَلَيْه، كَمَا هُوَ مَكْتُوب:
15. "لا تَخَافِي، يَا ابْنٌةَ صِهْيُون، هوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي رَاكـبًا على جَحْشٍ ابْنِ أَتَان".
16. ومَا فَهِمَ تَلامِيذُهُ ذلِكَ، أَوَّلَ الأَمْر، ولـكِنَّهُم تَذَكَّرُوا، حِينَ مُجِّدَ يَسُوعؙ، أَنَّ ذلِكَ كُتِبَ عَنْهُ، وأَنَّهُم صَنَعَوهُ لَهُ.
17. والـجَمْعُ الَّذي كَانَ مَعَ يَسُوع، حِينَ دَعَا لَعَازَر مِنَ القَبْرِ وأَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، كَانَ يَشْهَدُ لَهُ.
18. مِنْ أَجْلِ هـذَا أَيْضًا لاقَاهُ الـجَمْع، لأَنَّهُم سَمِعُوا أنَّهُ صَنَعَ تِلْكَ الآيَة.
19. فَقَالَ الفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُم لِبَعْض: "أُنْظُرُوا: إِنَّكُم لا تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هَا هُوَ العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ ورَاءَهُ!".
20. وكَانَ بَينَ الصَّاعِدِينَ لِيَسْجُدُوا في العِيد، بَعْضُ اليُونَانِيِّين.
21. فَدَنَا هـؤُلاءِ مِنْ فِيلِبُّسَ الَّذي مِنْ بَيْتَ صَيْدَا الـجَلِيل، وسَأَلُوهُ قَائِلين:"يَا سَيِّد، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوع".
22. فَجَاءَ فِيلِبُّسُ وقَالَ لأَنْدرَاوُس، وجَاءَ أَنْدرَاوُسُ وفِيلِبُّسُ وقَالا لِيَسُوع.

مقدّمة
يُخبرُنا يوحنّا الإنجيليُّ عن أربعِ مناسباتٍ بحسبِ الطّقسِ اليهوديِّ وكأنّها خبرٌ واحدٌ، لا لأنّه يجهلُ العاداتِ اليهوديّةَ، بل لأنّه رأى في هذه الوحدةِ رسالةً خلاصيّةً استنتجَها من حياةِ يسوعَ. أمّا المناسباتُ الأربعةُ فهي: 1. عيد المظالُّ وقد انتقلَ فيه يسوعُ إلى أورشليمَ (يو 10: 40) وهناك أحيا إلعازرَ (يو 10: 45)، 2. عيدُ التَّطهيرِ (يو 10: 55)، 3. عيدُ التَّجديدِ وفيه دخلَ يسوعُ أورشليمَ على ظهرِ ابنِ أتان (يو 12: 12)، وأخيرًا، 4. عيدُ الفصحِ والَّذي فيه صُلِبَ يسوعُ.

شرح الآيات
12. وفي الغَد، لَمَّا سَمِعَ ألـجَمْعُ الكَثِير، الَّذي أَتَى إِلى العِيد، أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلى أُورَشَليم،
13. حَمَلُوا سَعَفَ النَّخْلِ، وخَرَجُوا إِلى مُلاقَاتِهِ وهُمْ يَصرُخُون: "هُوشَعْنا! مبَاركٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبّ، مَلِكُ إِسرائِيل".
14. ووَجَدَ يَسُوعُ جَحْشًا فَرَكِبَ عَلَيْه، كَمَا هُوَ مَكْتُوب:
15. "لا تَخَافِي، يَا ابْنٌةَ صِهْيُون، هوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي رَاكـبًا على جَحْشٍ ابْنِ أَتَان".
16. ومَا فَهِمَ تَلامِيذُهُ ذلِكَ، أَوَّلَ الأَمْر، ولـكِنَّهُم تَذَكَّرُوا، حِينَ مُجِّدَ يَسُوعؙ، أَنَّ ذلِكَ كُتِبَ عَنْهُ، وأَنَّهُم صَنَعَوهُ لَهُ.

بعدَ إنهاءِ العباداتِ في مملكةِ الشّمالِ وحصرِها في الجنوبِ في هيكلِ أورشليمَ، صارَ واجبًا على اليهوديِّ أنْ يقومَ بزيارةِ هيكلِ أورشليمَ في عيدِ المظالِّ وعيد الفصح، فتُنصَبُ المظالُّ حولَ الهيكلِ، ويُقدَّمُ من ثمارِ الأرضِ. أمّا عيدُ المظالِّ هذا يُدعى عيدُ الفرحِ، فيحملون سُعُفَ النّخيلِ (علامةُ الانتصارِ) وأغصانَ الزَّيتونِ (علامةُ السَّلامِ)، ويَنْزَلُ أهلُ أورشليمَ فيستقبِلون الحجَّاجَ بالغناءِ والهتافِ، ويتذكّرون فيه سُكنى الرَّبِّ معهم وفي وسَطِهم في الصَّحراءِ، لذلك هم يصرخون ويهتفون في هذا العيدِ "هوشعنا" (الله يخلِّصُنا). في حينِ يغلِبُ على عيدِ الفصحِ طابَعُ الحزنِ والألمِ (الأكلُ وقوفًا، وتذكّرُ الخروجِ).
أمّا لاهوتُ هذه الأعيادِ اليهوديّةِ، فمرتبطٌ بأمانةِ الرَّبِّ لكلمتِه. خلقَ اللهُ الإنسانَ، وعندما عصاه، بقيَ أمينًا لكلمتِهِ وأكمَلَ معه المسيرةَ محاولاً حثّه على العودةِ. وفي الطُّوفان، لم يمحُ البشريّةَ بل أكملَ مع نوحَ. ومعَ التَّجسّدِ لم يُلغِ الشّريعةَ بل أكملَها بشريعةِ المحبّةِ. بالتّالي هو لم يُلغِ الأعيادَ والطُّقوسَ اليهوديّةَ، بل أوصلَها إلى كمالِ معناها: هو لم يُلغِ عيدَ المظالِّ بل أعطاه معناه الحقيقيَّ، فصارَ هو الله في وسَطِ شعبِه (عمّانوئيل إلهُنا معنا). لم يُلغِ الهوشعنا، بل أعطاها معناها الحقيقيَّ، إنّه اللهُ الآتي ليخلِّصَ شعبَه.
"هوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي رَاكـبًا على جَحْشٍ  ابْنِ أَتَان". هي تتميمٌ لنبوءةِ زكريا: ها هو ملِكُكِ يأتيكِ راكبًا على أتانٍ، وجحشٍ ابنِ أتان، وبحسبِ تفسيرِ "المدراش" كان الأتانُ يعني الشّعبَ اليهوديَّ حاملَ ألواحِ الوصايا، وابنِ الأتانِ الذي لم يستعملْ بعدُ كان يعني الأممَ الّتي لم تحمِلِ الوصايا.  المسيحُ سيملِكُ على الكلِّ، وسيحرِّرُ الجميعَ.
 وبحسبِ تفسيرِ السِّنهدرين، كانَ راكبُ الأتانِ رمزًا للشَّخصِ المُسالمِ، بينما الحصانُ هو رمزُ الحربِ، إنّ المسيحَ يأتي ملكًا للسَّلامِ.

17. والـجَمْعُ الَّذي كَانَ مَعَ يَسُوع، حِينَ دَعَا لَعَازَر مِنَ القَبْرِ وأَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، كَانَ يَشْهَدُ لَهُ.
18. مِنْ أَجْلِ هـذَا أَيْضًا لاقَاهُ الـجَمْع، لأَنَّهُم سَمِعُوا أنَّهُ صَنَعَ تِلْكَ الآيَة.
يبدو أنّ الحجّاجَ الّذين أتوا من بيتِ عنيا، أخبروا عن يسوعَ وكيفَ أحيا إليعازر، وأنّه آتٍ إلى أورشليمَ. فكانَ من البديهيِّ أنْ ينزلَ مَنْ سمِعَ بالخبرِ ليستقبَلَه ويرى مَنْ هو الّذي يُعيدُ الموتى إلى الحياةِ. بخاصّةٍ وأنّ اجتراحَ المعجزاتِ بحسبِ الذِّهنيّةِ اليهوديّةِ، هي دليلُ المسيحانيّةِ، أي تحقيقُ النّبوءاتِ الخلاصيّةِ. فلنتذكَّر نبوءةَ آشعيا الشّهيرةَ: "العميُ يبصرون والعرجُ يمشون، والموتى يقومون". أمّا أيَّ مسيحٍ ينتظرون؟ بالتّأكيدِ ليسَ ذاك المتألّمَ، بل مسيحًا سياسيًّا يخلّصُهم من ظلمِ الاحتلالِ الرُّوماني. 

19. فَقَالَ الفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُم لِبَعْض: "أُنْظُرُوا: إِنَّكُم لا تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هَا هُوَ العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ ورَاءَهُ!".
20. وكَانَ بَينَ الصَّاعِدِينَ لِيَسْجُدُوا في العِيد، بَعْضُ اليُونَانِيِّين.
21. فَدَنَا هـؤُلاءِ مِنْ فِيلِبُّسَ الَّذي مِنْ بَيْتَ صَيْدَا الـجَلِيل، وسَأَلُوهُ قَائِلين:"يَا سَيِّد، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوع".
22. فَجَاءَ فِيلِبُّسُ وقَالَ لأَنْدرَاوُس، وجَاءَ أَنْدرَاوُسُ وفِيلِبُّسُ وقَالا لِيَسُوع.

عيدُ المظالِّ وعيدُ التّجديدِ، يعودان بنا إلى العلاقةِ المهمّةِ بين الشَّعبِ والرَّبِّ.
فعيدُ المظالّ، يتذكّرُ فيه الشَّعبُ اليهوديُّ يومَ خروجِه من مصرَ وكيفَ رافقَه الرَّبُّ وسكنَ معه في الخيامِ في الصّحراءِ. فكانَ يرافقُهم في النَّهارِ في عمودٍ من غمامٍ وفي اللّيلِ في عمودٍ من نارِ. ويسكُنُ في خيمةٍ يسمّونَها خيمةَ الحضورِ (فيها يكونُ الرَّبُّ حاضرًا مع الَّشعبِ وفي وسَطِهِ). يسوعُ إذًا هو عمّانوئيل (اللهُ معنا) يسكُنُ وسّطَ شعبِه ومعهُم، وهو المخلِّصُ "هوشعنا" الآتي ليحرّرَ شعبَه ويخلِّصُهُم من عبوديّةِ الخطيئةِ.
أمّا عيدُ التجديد، يتذكّرُ فيه الشّعبُ اليهوديُّ يومَ عودتِه من السّبي (ويسمّونه: الخروجُ الثَّاني) وعودتُهم إلى أورشليم ليعيدوا تكريسَ الهيكلِ للهِ من جديدٍ بعدَما تدنَّسَ بسببٍ من الوثنيّين. والهيكلُ هذا يرمزُ إلى سُكنى اللهِ مع شعبِهِ وفي وسَطِهِم. وفي هذا العيدِ كانَ الشَّعبُ يتذكّرُ سؤالَ الملكِ سليمان: "ولكن هل سيسكُنُ اللهُ على الأرضِ؟" (1 مل 8: 27). أمّا الجوابُ فقد أتاهم بدخولِ المسيحِ إلى أورشليم. هذا ما أرادَ يوحنّا أن يوصِلَهُ بوضوحٍ: يسوعُ هو المسيحُ المخلّصُ الآتي إلى هيكلِه مكانَ سكناهُ مع شعبِهِ وفي وسَطِهمِ.
من دونِ أن نفهمَ معنى عيدَي المظالِّ والتّجديدِ في التقاليدِ والعاداتِ اليهوديّةِ، لا معنى لدخولِ المسيحِ إلى أورشليمَ، ولن نُدْرِكَ تمامًا ما ابتغاه يوحنّا من هذا الخبرِ.

خلاصة روحيّة
دخلَ يسوعُ أورشليمَ، وبدخولِه تمّمَ النُّبوءاتِ كما رأينا، وهو عارفٌ أنّ ذلك سيقودُه حتمًا إلى الموتِ، لكنّه أبى إلاّ أنْ يكونَ شاهدًا للحقيقة لأنّه هو "الحقُّ". دخلَ إلى هيكلِه، ليَسْكُنَ وَسَطَ شعبِهِ، ومعهم، لأنّه عمّانوئيلُ، إلهُنا معنا. فاستقبلَه الجمْعُ هاتفًا "هوشعنا" (الرَّبُّ يخلِّصُنا).
محطّاتٌ ثلاثٌ، مِنَ هذا الدُّخولِ الاحتفاليِّ إلى أورشليمَ، تستوقِفُنا وتدفَعُنا للتَّفكيرِ بصحّةِ التزامِنا كمؤمنين: فهلْ نحنُ بعدُ شهودٌ للحقيقةِ في حياتِنا؟ أم أنّنا تَنَصَّلْنا منها خوفًا على مركزٍ أو طمعًا بهِ، أمْ حمايةً لصورتِنا وبحثًا عن راحِتنا الشَّخصيّةِ. هل الرَّبُّ ساكنٌ بعدُ في وسَطِنا؟ أموجودٌ بعدُ معنا؟ في عائلاتِنا، وأماكنِ عملِنا، في مدارسِنا وجامعاتِنا…؟. ما هي طبيعةُ العلاقةِ التي تربِطُنا به؟ هل هو بعدُ المُخلِّصُ، أمْ صِرْنا نبْحثُ عن خلاصٍ في مالٍ، ومركزٍ، وثقافةٍ ومخدّراتٍ وجنسٍ...؟
الأطفالُ في هذا العيدِ (لا بل نعتَبِره عيدَهم مُنْذُ القرونِ الأولى للمسيحيّةِ)، هم مثالٌ حيٌّ أمامَنا. بثيابِهم البيضاءِ الجميلةِ، يحثّونَنا على ضرورةِ تنقيةِ ثوبِ معموديّتِنا من جديدٍ، بعدَما لطَّخَتْه الخطيئةُ، علّنا نستحقُّ كالأطفالِ أنْ نُعْلِنَ يسوعَ مخلّصًا وملكًا أوحدًا في حياتِنا وعليها.


تحميل المنشور