فضيحة الشّرّ في الكتاب المقدّس

فضيحة الشّرّ في الكتاب المقدّس

كيف للشّرّ أن يَنوَجِد في عالمٍ خلقه الله " حسنًا جدًّا "؟
          الشّرّ موضوعٌ شائك ومسألة لا تعني المؤمنين أو المسيحيّين فقط بل كلّ إنسان. فالأدب والفلسفة والفن ... حاولوا ولا يزالون يبحثون عن جوابٍ واضحٍ لهذه المعضلة الكبيرة. والكتاب المقدّس لعب دورًا كبيرًا من خلال بعض الأفكار والنصوص الموجودة فيه الإجابة عن هذا السّؤال الكبير والمتشعّب. ولكن من المُؤَكّد أنّ الشّرّ مرضٌ كبير بل أمراض متنوّعة حيث لا يوجد طريقة واحدة لمعالجته. حتّى إذ عدنا الى الكتاب المقدّس لمعرفة موقفه الحاسم من الشّرّ، لا نجد فيه جوابًا مباشرًا. فهو ليس كتاب فلسفةٍ يحتوي على مصطلحات ومفاهيمَ واضحة، بل محاولات عديدة للإجابة عن هذا الموضوع. فكما نبحث عن موضوع الشّرّ، نغوص أيضًا في مسائلَ أخرى كالحياة والحبّ … والتي بدورها تُحدَّد ولكن لا يمكن تحديدها. لذلك، يبقى الشّرّ مناقضٌ للحياة، فهو يُعيقها ويؤذيها، يضرّ بجميع الأشياء الإيجابيّة لأنّه بدوره سلبيّ منذ تكوينه.
وهنا، ما أصل الشّرّ إذًا؟ ففي الكتاب المقدّس لا نجد أناشيد ومقاطع فلسفيّة حول فكرة الشّرّ وخاصّة في سفر التكوين 1-2-3-4، بل روايات عن بداية الكون، وفي داخل هذه الرواية يستطيع الإنسان أو القارئ أن يبحث عن الشّرّ. ففي سفر التّكوين 1، نرى الشّرّ في الكون أمّا في تكوين 2-3 فهو في حياة الإنسان الذي بدأ بأعمال الخطيئة.
- في سفر التّكوين 1، الشّرّ هو الفوضى (tohou vavohou) والخلق هو الحياة الآتي من الخير، وهذا الأخير يأتي من الواقع. فالله لم يخلق من لا شيء، " فكانت الأرض خاوية خالية، وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يُرِفُّ على وجه المياه " (تك 1: 2)، وهذه الظّلمة الظّاهرة تُثبِتُ وجود الشّرّ. والله من الشّرّ والظّلام أعطى الخير. ولكن فيما بعد تبدأ الحياة بالظّهور (النّور، السّماء، الأرض…) والماء تنسحب شيئًا فشيئًا لتهيئة المكان للحياة في اليوم السّادس. فهل اختفى الظّلام؟ طبعًا لا، ولكنّه تنظّم. فالله، بقوّته وقدرته الإلهيّة، سيطر على الشّرّ ووضع حدًّا له. ولكن، بما أنّ الشّرّ يتمثّلُ بالبحر والبحر بطبيعته هائج، فإنّه سيعود ليبتلع اليابسة. هذا هو الشّرّ الأكبر بالنّسبة الى الكتاب المقدّس: أن يعود الإنسان الى الفوضى حيث اللّاخلق، اللّاحياة، أي الموت على مستوى الإنسان والنّهاية على مستوى الكون.
- في سفر التكوين 2-3، ننتقل للحديث عن الإنسان الّذي نفخه من تراب آية من الجمال، وأعطاه الجنّة وجميع ما فيها ووصّاه بأن يأكل من جميع الأشجار إلّا شجرة معرفة الخير والشّرّ. فالله، بخلقه للإنسان، قد وضع حدودًا له رغم الخيارات الواسعة، وما الشّرّ سوى تخطٍّ للحدود. الإنسان طموح، يطلب دائمًا أن يلتمس وجه الله، أن يكبر حتّى يصل الى مستواه، فيصبح هذا الطّموح هو الّذي يُسيّرنا لأماكنَ معاكسة. فأحيانًا، عندما نميل الى الشّرّ، نصوّره كأنّه خيرٌ لنا ولكنّه من الخارج وبالنسّبة الى الآخرين فهو من الأعمال الشّرّيرة. فمن أين الشّرّ إذًا ؟ يُخبرنا سفر التّكوين عن الحيّة الّتي أغوت حوّاء عصيان وصايا الله. ولكن من الضّروريّ أن لا نصف الحيّة بالشّرّيرة، بل بالذّكاء والفطنة. فمن يميل الى الشّرّ، يميل بالمنطق والفكر. فالحيّة بدورها جعلت حوّاء تفقد الثّقة بالله وبفقدان الثّقة ضاعت الوصيّة حيث بدأ تاريخ الخلاص. لذلك، تعطي الكنيسة أهمّيّة كُبرى للشّرّ كما للخلاص. فالأخير هو من الشّرّ. وهنا لا تدعونا الكنيسة أن نخرج من عالم الشّرّ الى عالم الخير بل أن نتعايش مع الإثنين. فالإنسان عاش في الجنّة وقتًا مُحدّدًا (فصل أو فصلين) أمّا في الفصول المتبقّية، فهو في مواجهة يوميّة مع الشّرّ.

كيف يستطيع الإنسان أن يتعايش مع وجود الشّرّ ويتعامل معه؟
          بعد ارتكاب المعصية من قِبَل آدم وحوّاء وطردهم من الجنّة، نشهد على خطيّة ثانية: قايين قتل أخيه هابيل. فالأوّل لم يتقبّل رفض الله لذبيحته وقربانه وقبول تلك الّتي لأخيه، ممّا دعاه الى الغاء أخيه هابيل، المشكلة الكبيرة بالنّسبة اليه. ولكن في الوقت عينه، لم تكن المشكلة بهابيل، واتّضح هذا الأمر عندما اكتشف قايين أنّه أصبح وحيدًا، لا سند له ولا رفيق، " كل من يجده يقتله " (تك 4: 14). لكنّ الله تدخّل وكلّمه وحماه من أيّ شرّ: " كلُّ من قتل قايين فسبعة أضعافٍ يُؤخذ بثأره منه " (تك 4: 15). فالخطيئة إذًا رابضة عند الباب حيث يستطيع الإنسان أن يبتعد عنها لأنّ الشّرّ بذاته غير محتّم على الإنسان ولكنّه يدخل فيه حتّى يرتكبه بإرادته الحرّة. فإمّا القيام بالشّرّ وإمّا السّيطرة عليه. فالإنسان عليه أن يقاوم الشّرّ ويكتشف حِيَل الشّرّير والعكس يودي به الى المعصية طالما يبقى على موقفه الغاضب.
 بناءً على ما تقدّم، ومن خلال الكتاب المقدّس، الشّرّ موجودٌ ولا يزال في الكون داخلًا في حياة الإنسان من الخارج. لذلك، حمّل الله الإنسان مسؤوليّة الشّرّ ولكنّه لم يتركه وحيدًا، أخرجه من الجنّة وبقيَ يكلّمه ويرافقه (كما فعل مع قايين)، لأنّ الشّرّ الّذي أوجده الإنسان لا يمكن له أن يقف حاجزًا أمام رحمة الله. إضافةً الى ذلك، نلاحظ في سفر التّكوين 6 مسألةً أساسيّة مع نوح. فعندما رأى الله أنّ قلب الإنسان يميل نحو الشّرّ طول أيّام حياته، جاءت فكرة الطّوفان : المحافظة على الخير الموجود داخل الشّرّ وإعادة الكون كما كان قبل الخلق، حيث تغمر المياه الكون، أي العودة الى العدم. ومن هنا، تبدأ الخليقة الجديدة مع نوح ويختفي الشّرّ من العالم. إلّا أنّ الله وفي الفصل الثامن، يندم عمّا فعل لأنّه اكتشف أنّ قلب الإنسان يميل الى الشّرّ منذ طفولته، فلا حاجة الى الطوفان مجدّدًا. فهذه المحاولة تبقى غير ناجحة حيث لا نستطيع يومًا أن نلغي الشّرّ من الحياة ولا يمكن إيجاد حلًّا جذريًّا لهذه المعضلة. ففي مثل الزؤان، يبرز يسوع في تعليمه أنّه لا يمكننا التخلّص كلّيًّا من الزؤان، فمن يريد إزالته عليه أن يزيل القمح أيضًا. وهذا التّعليم ليس إلّا دليلًا واضحًا على وجوب تعايش الشّرّ مع الخير لأنّهما متداخلان. ولكن في سفر الخروج والأحبار، نلاحظ طريقة أخرى لمشكلة الشّرّ وهي إزالته كلّيًّا من وسط الشّعب المقدّس لأنّه لا يسمح بها.
فأمام هاتين الفكرتين المتناقضتين، كيف يمكن لنا أن نتفاعل مع الشّرّ؟ فلهذا السؤال أوجه متعدّدة. فالموقف الأوّل هو العيش الى جانب الأبرار والصّدّيقين: " طوبى لمن لا يسير على مشورة الشّرّيرين، ولا يتوقّف في طريق الخاطئين، ولا يجلس في مجلس السّاخرين، بل في شريعة الرّبّ هواه " (مز 1: 1). فالبار هو الّذي لا يخالط الشّرّير بل يتجنّبه، يتركه ولا يقترب منه. وهذا ما هو مشابه للمدرسة الحكميّة الّتي تمنع التّخالط بالشّرّ، لأنّ الأخير سوف يبتلع نفسه ويقع بالفخّ الّذي نصبه بذاته. أمّا الموقف الثّاني، فهو ما تعلّمه المدرسة النبويّة. فالشّرّ لا يمكن السّكوت عنه إطلاقًا أو المساومة والتجنّب، فالمواجهة ضروريّة وعدم الصّمت أمرٌ لا بُدَّ منه (نذكر أشعيا، يوحنّا المعمدان …). فالنّبيّ لا يتحمّل الشّرّ ويواجهه حتّى النّفس الأخير. الموقف الثّالث هو التّعامل مع الشّرّ كما تعامل معه يسوع المسيح: غلب الموت بالموت. فعلى الإنسان أن يتبنّى فكرة الشّرّ ويأخذه على عاتقه ويضحّي بذاته بفرح كامل للتغلّب عليه. فالمسيح قد حمل الخطيئة على الصّليب ليفدي الإنسان بدمه. فهذا هو منطق الأهل تجاه أولادهم: التضحية اليوميّة في سبيل نجاح العائلة وحمايتها.

هل الله مصدر الشّرّ في الحياة ؟
          أسئلة عديدة يطرحها الإنسان في حياته، هل الشّرّ في حياتنا مصدره غضب الله؟ وهل هذا الغضب هو بالفعل أم فقط بالكلام؟ فإذا عدنا الى الكتاب المقدّس، نلاحظ أنّ الأنبياء جميعهم لا يتكلّمون ويحذّرون الّا من غضب الله. ولكن بقي هذا الغضب على المستوى النبويّ الكتابيّ وتوقّف فقط عند الكلام. فالأنبياء يعلنون غضب الله للشّعب لمنع حدوثه، لأنّ الله لا يريد موت الشّرّير بل خلاصه. ومن لا يصغي لكلمات الله وتحذيرات الأنبياء، يسير بحرّيّته الكاملة نحو الخراب. في المقابل، ومن ناحية أخرى، لا يمكن للشّرّ والله أن يلتقيا، فالله بذاته إله خير ولا يستطيع أن يكون غير ذلك. فالشّرّ ليس من صفة الله، فلو أراد ذلك للإنسان لما خلق الكون. فمن أين الشّرّ إذًا؟ فإذ كان الشّرّ من الله فمشكلة كبيرة، وإن لم يكن منه فهذا يعني أنّ الله ليس كلّيّ القدرة. لذلك، لا يقدّم الكتاب المقدّس حلًّا واضحًا لهذه المسألة، فجُل ما يعلّمه أنّ الله يسيطر على كلّ شيء. وإذا كان الشّرُّ موجودًا، فاختياره يأتي من حرّيّة الإنسان المطلقة في الابتعاد عن الله والسّير وراء الخطيئة. فلو أراد الله يومًا أن يُلغي الشّرّ، يُلغي معه حرّيّة الإنسان وإمكانيّة وجود الحب. وهنا، لا يستطيع الله أن يُحاكي الإنسان ولا يمكن للأخير أن يتواصل معه.
في الختام، الشّرّ لا بدّ منه وما علينا سوى أن نتعايش معه فنكون بذلك حكماء كالحيّات نتجنّب الشّرّ ونعمل الخير بحسب منطق المسيح، أي أن نضحّي في سبيل الخير ونأخذ الشّرّ على عاتقنا.

لمشاهدة الحلقة الحادية عشرة من الموسم الأوّل من برنامج "أرِنا خلاصك" مع الأب جوزف بو رعد الأنطوني يمكنكم الضغط على الرابط التالي:
أرنا خلاصك - الموسم الأوّل - الحلقة الحادية عشرة