الاحتفال بالقدّاس في زمن الصّوم الكبير

الاحتفال بالقدّاس في زمن الصّوم الكبير

أسئلة نطرحها على ذواتنا في مطلع كلّ سنة وقد أطلّ علينا الصّوم المبارك: هل المناولة تفسخ الصّوم؟ هل تدعمه؟ هل نبدأ صومنا اليوميّ بالقدّاس، أم نختمه به؟
وتكثر التّحليلات والاجتهادات الروحيّة الّتي تبقى سطحيّة ما لم تستند إلى دراسات موثّقة.

بالعودة إلى المصادر التاريخيّة، وبالتّحديد إلى القوانين الرسوليّة والرحّالة إيجيريا، يتبيّن لنا أنّ الاحتفال بالقدّاس أيّام أسابيع الصّوم كان يصير بعد الصّلاة التاسعة، أي الثالثة بعد الظّهر، ما عدا يومي السبت والأحد، فيكون الاحتفال بالذّبيحة الإلهيّة صباحًا، لأنّ الكنيسة لا تصوم في هذَين اليومَين.
ومن عادات الكنائس الشرقيّة، أنّ الإفطار في أيّام الأربعينية كان عند الغروب، ما عدا السّبوت والآحاد فلا يُصام فيها. وقبل الإفطار، كان ميعاد الاجتماع لسماع قراءات الكتاب المقدّس وتناول الافخارستيّا من بعد الرّتبة المعروفة برسم الكاس. وقد صرّح القانون الثاني والخمسون من قوانين مجمع القسطنطينيّة بأن تُقضى الرتبة المنوّه بها في كلّ أيّام الصّوم الأربعينيّ ما عدا أيّام السبت والأحد، حيث يُحتفل بليتورجيّا القدّاس صباحًا.
ويصف لنا كتاب الهُدى (القرن الحادي عشر) الّذي نظّم حياة الموارنة قبل المجامع المارونيّة الّتي عقدت بتأثير من السلطة الكنسيّة الرومانيّة، أنّ المارونيّ يبدأ صومه عند منتصف اللّيل، ويقطعه عند العصر أي عندما يبدأ النهار أن يولّي. يقصد المارونيّ الصّائم يوميًّا البيعة عند العصر لكي يتقرّب (يتناول جسد الربّ) ويكسر صومه. وإذا كان لا يستطيع الذهاب إلى الكنيسة، يقيم المارونيّ الصّائم عند العصر صلوات ويتلو مزامير ثمّ يكسر صومه بما يتيسَّر.

مع الوقت، خفّفت الكنيسة فترة الصّوم اليوميّة، ويُوضح المجمع اللبنانيّ (١٧٣٦) أنّ فترة الصّوم اليوميّة تمتدّ من منتصف اللّيل إلى منتصف النهار على الأقلّ (الباب الرّابع، عدد ٣). ومع تخفيف فترة الصّوم، من العصر إلى منتصف النّهار، لأنّ الكنيسة هي أمّ حانية على أبنائها وبناتها وتفرض الحدّ الأدنى الّذي يمكن للجميع اتّباعه، لم تغيّر الكنيسة في النّصوص مبدأ اختتام الفترة الصّيامية بالمناولة. ولكنّ الممارسة الحاليّة تُظهر العكس. فما هو سبب التّغيير؟
تُجيز الكنيسة اللاتينيّة للمؤمن، في تدبيرها حول الصّوم، أن يتناول شيئًا قليلًا من الطّعام في الصّباح وفي المساء على أن تكون الكمّية أقلّ من المعتاد. وبالتّالي، أصبح بالإمكان أن يحتفل الكاهن اللّاتينيّ بالقدّاس صباحًا، ويتقدّم المؤمنون من المناولة، ليس لأنّ "القربان لا يفسخ الصّوم"، بل لأنّهم سيتناولون الفطور بعد المناولة السرّية.

باختصار، المنطق اللّيتورجيّ والعمليّ والرعويّ في الكنيسة يفرض الصّوم قبل المناولة، وليس العكس. والشّرع القانونيّ يفرض على من يتقدّم من سرّ القربان أن يحترم الصّوم الإفخارستّي، أقلّه ساعة قبل القدّاس.
ومع احترامنا لتقليد الكنيسة الغربيّة حول الصّوم والمناولة، إلّا أنّنا لا نستطيع اقتطاع ما يناسبنا من عندهم وإدخاله إلى تقليدنا الشرقيّ الّذي يوصي بالصّوم حتّى منتصف النّهار.
لذا، وانسجامًا مع تقاليدنا الشّرقية، حبّذا لو يُصار إلى الاحتفال بالقدّاس أيّام الصّوم (ما عدا السّبوت والآحاد والأعياد) بعد الظّهر أو المساء، وليس صباحًا. وعلى سبيل المثال، يوم إثنين الرّماد، نحتفل برتبة التّبريك صباحًا، وبالقدّاس عند المساء.
وإذا كان الصّوم هو زمن العودة إلى الذّات، فكم بالأحرى هو زمن العودة إلى هويّتنا وجذورنا، ننطلق منها في مسيرة الإصلاح والتطوّر.

صوم مبارك!