كَسر الكلمة -12- عيد الدنح

كَسر الكلمة -12- عيد الدنح

عيد الدنح المجيد
(لو 3/ 15-22)
15. فيما كَانَ الشَّعْبُ يَنْتَظِرُ، وَالْجَمِيعُ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ هو الْمَسِيحُ.
16. أَجَابَ يُوحَنَّا قِائِلاً لهم أجمعين: «أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِالمَاء، ويَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، من لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ رباطَ حِذَائِهِ. هُوَ يُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ والنار.
17. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ الْقَمْحَ إلى مَخْزَنِهِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ».
18. وَبِأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَانَ يَعِظُ الشَّعْبَ وَيُبَشِّرُهُمْ.
19. أَمَّا هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ فَإِذْ تَوَبَّخَ مِنْهُ لِسَبَبِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، 
20. وَلِسَبَبِ جَمِيعِ الشُّرُورِ الَّتِي كَانَ هِيرُودُسُ يَفْعَلُهَا، زَادَ هذَا أَيْضًا عَلَى الْجَمِيعِ أَنَّهُ حَبَسَ يُوحَنَّا فِي السِّجْنِ.
21 . وَلَمَّا اعْتَمَدَ جَمِيعُ الشَّعْبِ اعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ، 
22. وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: «أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ».

مقدّمة
… وانفتحتِ السّماءُ. وانجلى السِّرُّ؛ سرُّ السَّماءِ: سرُّ الثَّالوثِ. إنّها لحظةُ لقاءِ الأرضِ بالسَّماءِ الَّتي ظهرَتْ في الأردنِّ وكان يتوقُ إليها آدمُ الضّالُّ، الغارقُ في ظلامِ الغربةِ عن معرفةِ اللهِ. ما كانَ محجوبًا مُنْذُ الدُّهورِ قد انجلى واعتلنَ. فالمسيحُ الابنُ لم يأتِ إلّا لنعرفَه كإبنٍ وحيدٍ يُرضي الآبَ ونعرفُ به الآبَ في فيضِ الرُّوحِ القُدُسِ. هذا هو في الحقيقةِ هدفُ التَّجسُّدِ الإلهي، ولذلك يأتي حدثُ العمادِ ليكمِلَ اعتلانَ يسوعَ في الجسدِ، وفي عمادِه يأخذُ يسوعُ الإنسانَ، ليعيدَه إلى الشَّركةِ الإلهيّةِ في قلبِ اللهِ.

شرح الآيات
15 فيما كَانَ الشَّعْبُ يَنْتَظِرُ، وَالْجَمِيعُ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ هو الْمَسِيحُ.
في الفصلِ الثَّالثِ من إنجيلِ لوقا، من السّهلِ التّمييزُ بين ثلاثةِ أنواعٍ من التّبشيرِ الّذي يقومُ به يوحنّا المعمدان:
- النَّوعُ الأوّلُ (آ 7-9) هو التَّبشير النُّهيوي.
- النَّوعُ الثّاني (آ10-14) يصفُ تبشيرَ المعمداِن الأخلاقيَّ وبخاصةٍ السّلوكَ الإجتماعيَّ للأشخاصِ.
- النّوعُ الثّالثُ، وهو الأهمُّ (آ15-18)، هو التَّبشيرُ المسيحانيُّ أو الكريستولوجيُّ. في هذا الجزءِ من المهّمِّ التَّنبّهُ إلى كيفيّةِ وصفِ يوحنّا المعمدان لدورِه مقارنةً بدورِ المسيحِ (الّذي يأتي، هو أقوى منّي). على الرُّغمِ من أنّ يوحنّا لا ينفي علنيًّا أنّه ليس المسيحَ كما يفعلُ في (يو 1/ 20) لكنّه يفعلُها ضمنيًّا من خلال قوله "يأتي من هو أقوى منّي".
يصوّرُ لوقا حالةَ الشّعبِ مع كلِّ أمانيهِ وتساؤلاتِهِ في هذه الآية كما يصفها في الآية 7و 10. معَ الفعلِ "ينتظر" يوجّه لوقا نظرَ القارئ نحو المُستقبلِ، هذه المرّةَ ليس بانتظارِ غضبِ اللهِ بل بانتظارِ المسيحِ. مِنَ المُلْفِتِ استعمالُ كلمةِ λαοῦ للدّلالةِ على الشَّعبِ وهو المصطلحُ الَّذي يُستعملُ عندما يُرادُ التّكلُّمُ على شعبِ إسرائيلِ الّذي ينتظرُ الوعودَ، على عكسِ كلمةِοχλοι  الدّالةِ على الشَّعبِ الذي يحتاجُ إلى التَّوبةِ.
في التَّقليدِ الدّيني اليهوديّ، الإنسانُ لا يجدُ هويّتَه إلاّ في دعوةِ اللهِ لهُ. لذلكَ نرى الشّعبَ يتساءلُ عن هويَّةِ يوحنّا الّتي لا تجدُ معناها إلاّ مِنْ خلالِ تجاوبِه مع دعوةِ اللهِ له. كما هي الحالُ في إنجيلِ يوحنّا، يبدو أنّ لوقا على علمٍ بالنّزاعِ الذي عرفتْه الكنيسةُ الأولى مع بعضِ أتباعِ المعمدانِ الَّذين كانوا يظّنونَ أنّه المسيحُ الموعودُ (يو 1/ 22-25)، فيُظهرُ لوقا المعمدانَ وهو يعترفُ بأنّ يسوعَ وحدَه القادرُ على إعطاءِ الرُّوحِ القُدُسِ المُنْتظَرِ. 

16 أَجَابَ يُوحَنَّا قِائِلاً لهم أجمعين: «أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِالمَاء، ويَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، من لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ رباطَ حِذَائِهِ. هُوَ يُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ والنار.
الجوابُ موجَّهٌ إلى اليهودِ وبالتَّحديدِ إلى تلاميذِ يوحنّا. منَ المعلومِ أنّه في التّقليدِ الكتابيِّ، هناك تمييزٌ بين معموديّةِ يسوعَ ومعموديّةِ يوحنّا، واستعمالُ عبارةِ "رباط حذائه" هو خيرُ دليلٍ.
عبارةُ "أقوى منّي" تعيدُنا إلى عبارةِ ἰσχύοντες Ισραηλ  (أش 1/ 24) جبّار إسرائيل. ومن المؤكّدِ أنَّ المعمدانَ لم يفكّرْ إلّا باللهِ عندما استعملَ عبارةَ "أقوى مني". كما وأنَّ فعل "يأتي" بمعناه المسيحانيّ يعطي الآيةَ طابعاً كريستولوجيًّا.
لست أهلاً أن أحلّ رباط حذائه: هذا الموقفُ مذكورٌ أيضاً في (مر1/ 7 ) ويجدُ له صدىً كبيرًا في (يو 1/ 27).  في (متى 3/ 11) نجدُ عبارةً: لسْتُ أهلاً أنْ أحملَ حذاءَه. كان فكّ حزام الحذاء مهمّة العبد، التي منعها الحاخامات في التقاليد الحاخامية اللاحقة كخدمة يجب أن يقوم بها تلميذٌ لسَيِّدِهِ. كانَ حلُّ سيورِ الحذاءِ أحقرَ عملٍ يقومُ به العبدُ، يليه غَسْلُ الأرجُلِ. تؤكّدُ الصورةُ التي يستخدمُها يوحنّا على رتبتِه المتدنيّةِ بالنِّسبَةِ إلى يسوعَ الأقوى. يقدّمُ القديسُ غريغوريوسُ الكبيرُ تفسيرًا رمزيًّا لكلماتِ يوحنّا المعمدانِ في هذا النَّصِّ، فيرى في حذاءِ السيّد إشارةً إلى الجسدِ الذي التحفَ به، فإنّ حلّ سيوره إنمّا يعني فكَّ أسرارِ التَّجسّد، إذ يشعرُ نفسَه عاجزًا عن إدراكِ هذا السّرِّ الإلهيّ. بينما يقدّمُ لنا القدِّيسُ جيروم تفسيرًا آخرَ وهو أنّ المعمدان لا يتجاسرُ أن يمدّ يدَه ليحلَّ سيورَ حذاءِ سيّده، لأنّ السيّدَ يريدُ عروسَه المترمّلةَ ولا يرفضُها، إذ جاءَ في الشّريعةِ أنّ الوليَّ الذي يرفضُ الأرملةَ كزوجةٍ ليقيمَ منها نَسْلاً للميّتِ، يخلعُ نعلَيْه أمامَ شيوخِ المدينةِ ويعطيَه لمَن يقبلُ الزّواجَ منها، كما فعل وليُّ راعوت (را 4/ 7-8). يسوعُ لن يخلعَ نعلَيه، إذْ إنّ مشيئتَه هي أن يقتنيَنا عروسًا له بدمِهِ المبذولِ عنّا.
"أنا أعمدكّم بالماء…هو يعمدّكم بالروح القدس والنار" هذه العبارةُ الَّتي وردَتْ هنا منفصلةً، وردَتْ أيضًا في (أع /،5) و (أع 11/ 16) مع الاختلافاتِ نفسِها ولكن على لسانِ يسوعَ هذه المرّة. يريدُ لوقا أنْ يثّبت تعليمَ المعمدانِ من فمِ يسوعَ القائمَ من الموتِ. في (أع 1/ 5) الوعدُ هو للرّسلِ وللجماعةِ اليهوديّةِ المتمسحنةِ أمّا في (أع 11/ 16) الوعدُ هو لكورنيليوسَ وللجماعةِ ذاتِ الأصولِ الوثنيّةِ.
من الملفتِ في هذه الآيةِ الطابعان اللّذَين يصفُ بهما المعمدانُ معموديةَ يسوعَ: بالرُّوحِ القُدُسِ والنّارِ. من البديهيِّ القولُ بأنَّ النَّارَ هي نارُ الرّوحِ القُدُسِ بإشارةٍ إلى ألسِنَةِ النّارِ الّتي استقرَّتْ على رأسِ الرُّسلِ في العنصرةِ في (أع 2). كما وأنّ معموديةَ يسوعَ لها وظيفتان: التّطهيرُ والصّقلُ (الصّقلُ بمعنى الحثِّ على تغييرِ الحياةِ أو بعبارةٍ أخرى هي الولادَةُ الجديدةُ الّتي تفْرِضُ تغييراً جذرياً في جوهرِ الإنسانِ). هنا لا بدَّ من العودةِ إلى بعضِ المراجعِ في العهدِ القديمِ الّتي تشيرُ إلى هذا الدّورِ لروحِ اللهِ والنّارِ (أش 4/4-5 ؛ 32/ 15؛ 44/ 3؛ حز36/ 25-26؛ مل 3/ 2-3). كما وأنّ بعضَ الأبحاثِ في نصوصٍ لمخطوطاتِ قمرانَ تدلُّ على وجودِ رابطٍ بين الرّوحِ القُدُسِ والماءِ والنّارِ. هذا قد يشيرُ إلى تأثُّرِ يوحنَّا المعمدانِ بالجماعةِ الأسينيةِ الّتي، يقولُ التقليد أنّه كانَ ينتمي إليها، مخطوطاتُ قمران تعودُ إليها. إذا كانتْ نصوصُ قمرانَ تَنْسِبُ الرّوحَ والماءَ والنّارَ إلى عملِ اللهِ التّطهيريِّ في قلبِ الجماعةِ، فإنّ يوحنا المعمدان يُفصِّلُ هذا العملَ، ناسِبًا إلى شخصِهِ فقط التّطهيرَ بالماءِ أمّا إلى يسوعَ، الأقوى منه، فيعودُ التّطهيرُ بالرّوحِ القُدُسِ والنّارِ. نصٌّ آخرُ من نصوصِ قمران يذكرُ أنّ اللهَ سيُعلِنُ روحَه القدُّوسَ من خلالِ مسيحِهِ. من هنا قد نفهمُ بشكلٍ أفضل كلامَ يوحنّا الّذي يشيرُ إلى يسوعَ كونَه واهبَ الرّوحِ القُدُسِ.
ولكن على الرُّغمِ من كلِّ هذه التأثيراتِ لا يمكنُنا القولُ أنّ الإنجيليَّ لوقا لم يكنْ يقصدُ في كلامِهِ عنِ الرّوحِ والنّارِ، الرُّوحَ القُدُسَ الّذي وهبَه القائمُ من الموتِ على شكلِ ألسنةٍ نارٍ (أع2/ 33). في هذا الإطارِ يمكنُ فهمَ الرُّوحَ الَّذي أُفيضَ في يومِ العنصرةِ كتتميمٍ لعملِ التّطهيرِ الّذي تتكلّمُ عليه هذه الآيةُ.

17 الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ الْقَمْحَ إلى مَخْزَنِهِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ».
هذه الإستعارةُ الّتي تعودُ إلى العالمِ الزّراعيِّ، لا يجبُ أن تخفيَ المكوِّنَ الأدبيَّ للآيةِ والّذي يشيرُ إلى الأحداثِ النُّهيويِّةِ من خلالِ صورةِ الحَصادِ.
رفشه: مجرفةٌ تشبُه الشّوكةَ (المذرى). تُستخدمُ في تهويةِ أو رميِ الحبوبِ المدروسةِ في اتجاهِ الرِّيحِ لفصْلِ القِشْرِ الخفيفِ عن الحبوبِ الثّقيلةِ، والّتي قد تسقُطُ على الأرضِ في كومةِ (أش 30/ 24). يتمُّ استخدامُ هذه الأداةِ هنا كصورةٍ نهيويَّةٍ لفرزِ البّشرِ بحسّبِ استحقاقِهم، وهذا العملُ يجبُ أنْ يقومَ به "من هو أقوى". على عكسِ صورةِ الفأسِ في الآيةِ 9، صورةُ الرّفشِ في هذه الآيةِ تفتَحُ المجالَ لوجودِ فئةٍ من البَشَرِ تستحقُّ الخلاصَ.
جمعُ القمحِ: حبّاتُ، الحبوبً الثّقيلةُ المكدّسةُ، ترمزُ إلى الأشخاصِ الّذين سيخلِّصُهُم القاضي الآتي. هذا التّمييزُ الّذي سيقومُ به الدّيّانُ يُشارُ إليه من خلالِ استخدامِ الفعْلَيْن: ينقّي ويجمعُ.
النَّارُ الّتي لا تطفأُ: هذا التّعبيرُ يجدُ صداه في (أش 66/ 24)؛ الآيةُ التي يختمُ فيها آشعيا كتابَه. كما وأنّ هذه الصّورةَ يمكنُ أنْ تكونَ مستوحاةً من وادي هنّوم في جنوبِ أورشليم حيثُ مكبّاتُ النّفاياتِ المشتعِلةِ بصورةٍ دائمةٍ (هذا التّعبيرُ أصبحَ في اللّغةِ اليونانيةِ "جهنّم") (إر7/30-34). بكلِّ الأحوالِ يريدُ المعمدانُ أنْ يُظْهِرَ شدّةَ العقابِ (كحالةِ النّارِ المشتعلةِ) الّذي سيّحِلُ بالّذين يصرّون على السّيرِ في طريقِ الشّرِّ. هذه الكلمةُ هي الكلمةُ الأخيرةُ الّتي يقولُها المعمدانُ في حديثِه القريبِ من الأسلوبِ النّبويِّ في العهدِ القديمِ الّذي يدعو إلى التّوبةِ. 

18 وَبِأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ كَانَ يَعِظُ الشَّعْبَ وَيُبَشِّرُهُمْ.
على المستوى الأدبيِّ، لوقا يُظْهِرُ هنا الجّانِبَ الفَرِحَ والمشَجِّعَ من كرازةِ يوحنّا (παρακαλῶν يشجّع؛ εὐηγγελίζετο يعلنُ البشرى السّارّةَ). هذا ما ينقلُ المعمدانُ إذاً، من مجرَّدِ انتظاراتِ العهدِ القديمِ إلى عتبةِ العهدِ الجديدِ. بفضلِه، الشّعبُ يدخلُ في احتكاكٍ مباشرٍ مع البُشرى الجديدةِ. إنَّ رسالةَ يوحنَّا المعمدانِ كما يُظهِرُها كتابُ أعمالِ الرّسلِ، تشبِهُ رسالةَ الإنجيلِ نفسِه: الكرازةُ أو الدّعوةُ إلى التَّوبةِ يليها العمادُ. هذا ما يشكّلُ أُسُسَ النّبوءةِ المسيحانيةِ بالنِّسبةِ إلى لوقا. في الآيةِ 18 يريدُ الكاتبُ الانتقالُ منْ رسالةِ المعمدانِ إلى حَدَثَيْن مهمَّيْن في مسيرتِه: 1. المعموديةُ 2. توقيفُه من قِبَلِ هيرودس. يريدُ لوقا إذًا إنهاءَ قصةِ المعمدانِ لينتقلَ إلى التّركيزِ على حياةِ يسوعَ.

19 أَمَّا هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ فَإِذْ تَوَبَّخَ مِنْهُ لِسَبَبِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ،
20 وَلِسَبَبِ جَمِيعِ الشُّرُورِ الَّتِي كَانَ هِيرُودُوسُ يَفْعَلُهَا، زَادَ هذَا أَيْضًا عَلَى الْجَمِيعِ أَنَّهُ حَبَسَ يُوحَنَّا فِي السِّجْنِ.

قصةُ توقيفِ يوحنّا نجدُ جذورَها في إنجيلِ (مر6/17-18). لوقا حسَّنَ سرْدَ القصَّةِ من خلالِ احترامِ منطقِ الأحداثِ: لأنّ يوحنّا وبّخَ هيرودوس، قامَ الأخيرُ بتوقيفِه. إنّ طولَ الجملةِ أجبرَ لوقا على ذكرِ اسمِ هيرودوس مرتّين، وهذا أمرٌ نادرٌ في إنجيلِ لوقا.
إنّ استعمالَ فعلِ κατέκλεισεν)  أغلقَ على أو حبَسَ) بدلَ الفعلِ البسيطِ δεω) أوقَفَ أو ربَطَ) له مدلولاتُه العميقةُ. فإنّ توقيفَ المعمدانِ يشكّلُ بالنّسبةِ للوقا فظاعةَ الشَّرّ الّذي كان يمارسُه هيرودوس. والكلمةُ الأخيرةُ (السّجن) لها الأهميةُ الكبرى، ويبدو أنَّ لوقا يقودُ يوحنّا إلى بابِ السّجنِ ولا يذهبُ إلى أبعد. هذا البابُ يستطيعُ أن يبقى مقفلًا مقابلَ بابٍ آخرَ سيفتحُه له يسوعُ في السّماءِ.

21 وَلَمَّا اعْتَمَدَ جَمِيعُ الشَّعْبِ اعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي انْفَتَحَتِ السَّمَاءُ،
22 وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: «أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ».

هذا النّصُ من إنجيلِ لوقا الّذي يُعَنْوَنُ عادةً: "معمودية يسوع"، هو عبارةٌ عن جملةٍ واحدةٍ، ويُعتَبَرُ الأقصرُ بالنِّسبَةِ للإزائييِّن، وفيه يَذكُرُ الإنجيليُّ بعضَ التّفاصيلَ الخاصّةَ ولا يَذكُرُ تفاصيلَ أخرى موجودةً في نصوصٍ موازيةٍ كما في (مر 1/ 9-11 ومتى 3/ 13-17).
منْ خلالِ ثلاثةِ أفعالٍ مُسْتَعْمَلَةً في هذهِ الجملةِ يشرحُ لوقا المميّزاتِ الأساسيّةَ لمعموديةِ يسوعَ: انفتاح السماء، نزول الروح القدس والإعلان الإلهي عن هوية يسوع الإبن.
- إنفتاحُ السّماءِ:
يشيرُ لوقا أنّه بعدَما اعتمدَ الشّعبُ واعتمدَ يسوعُ انفَتَحَتِ السّماءُ. فكرةُ انفتاحِ السَّماءِ نجدُها في النّصوصِ النّبويّةِ والرّؤيويّةِ. نجدُ في (أش 63/ 19): لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ. في هذه الآيةِ من أشعيا، إنفتاحُ السَّماءِ يشيرُ إلى تدخّلِ اللهِ لمعاقبةِ الأشرارِ من جهّةٍ ولمكافأةِ الأبرارِ، الّذين يمارسون العدلَ ويسيرون في طرقِهِ، من جهةٍ أخرى (أش 64/ 1-4). إنفتاحُ السّماءِ يشيرُ إلى ظهورٍ أو كشفٍ إلهيٍّ، لهذا السّببِ تنتمي هذه الصّورةُ إلى نوعِ النّصوصِ الرّؤيويّةِ. إذاً، في نصِّ لوقا، إنفتاحُ السّماءِ يدخلُ في الإطارِ الرّؤيويّ، مع تفصيلٍ مهمٍّ وهو أنَّ إنفتاحَ السّماءَ مرتبطٌ بصلاةِ يسوعَ. يسوعُ كانَ في حالةِ صلاةٍ عندمَا انفَتَحَتِ السّماءُ. فما الرّابِطُ بين هذين الحدثين؟ كما نعلمُ جيّداً، أنّ إنجيلَ لوقا هو الإنجيلُ الوحيدُ الّذي يذكُرُ الصّلاةَ مع حدثِ معموديّةِ يسوعَ. كما وأنّ لوقا هو أكثرُ منْ كتَبَ عن صلاةِ يسوعَ، فبالنِّسبَةِ للوقا، حياةُ المخلّصِ تتميَّزُ بالصّلاةِ (لو 5/ 16؛ 6/ 12؛ 9/ 18. 28-29؛ 11/ 1؛ 22/ 32. 41. 44)، وهذه الصلاةِ لا يمكنُ أنْ تكونَ غائبةً عن حدثٍ مهمٍّ كالمعموديّةِ. كما وأنَّهُ منَ المعروفِ أنَّه في التّقليدِ الرّؤيويِّ، الصّلاةُ تُحضِّرُ الكَشْفَ الإلهيَّ (دا 2/ 18-19؛ 9/ 1-27؛ 10/ 2-21؛ لو 9/ 28-29؛ أع 9/ 11؛ 10، 30؛ 22/ 17). إنطلاقًا مِنْ كلِّ هذه المعطياتِ، يذهَبُ بعضُ الشّرّاحِ أيضًا إلى القولِ بأنّ إنجيلَ لوقا يركّزُ على صلاةِ يسوعَ أكثرَ من تركيزِه على حدثِ المعموديّةِ بحدِّ ذاتِها. إذا إنَّ جوابَ اللهِ لصلاةِ يسوعَ هي الّتي سَببَّتِ التّجلّيَّ الإلهيَّ الّذي تَرافَقَ مع حدَثِ إنفتاحِ السَّماءِ، ونزولِ الرّوحِ القُدُسِ والصَّوتِ الآتي مِنَ السّماءِ.
في ذلك الوقتِ، وفي برهةٍ منَ الزّمنِ، انتهَتْ معموديةُ يوحنّا وتحوّلَ من معمِّدٍ إلى شاهدٍ؛ فصلاةُ يسوعَ تمَّمَتْ معموديةَ يوحنَّا الّتي ظلّتْ ناقصةً دونَ نزولِ نارِ الإبنِ وحلولِ روحِهِ فيها. هذه الصلاةُ ككلِّ صلواتِ يسوعَ أعطتْنا صيغةَ السّرِّ. بصلاةِ يسوعَ اصطبَغَتْ معموديةُ الماءِ. وما هي هذه الصّلاة؟ ماذا فيها من كلماتٍ ومنْ عِبَرٍ؟ إنّها صلاةُ الكلمةِ الالهيّ، تلك الكلمةُ نفسُها الّتي قالَ بها الآبُ في البَدءِ:"كُنْ" فكانَ كلُّ شيءٍ، وهي اليومَ نفسُها في الأردنِّ كما في البرِّيَّةِ كما في بستانِ الزّيتونِ كما على الصّليبِ، كلمةُ حبٍّ وطاعةٍ للآبِ تعيدُ الإنسانَ إلى جوهرِ وجودِهِ في اللهِ. هكذا في معموديةِ يسوعَ، هو من عمَّدَ الجميعَ، من نزِلوا قَبْلَه ومن سينزلون بعدَهُ في الماءِ الّذي نزِلَتْ فيه جمرةُ الحياةِ الإلهيةِ النَّازِلةُ من عَلُ لتَرْفَعَ آدمَ.
- نزول الروح القدس
لوقا هو الوحيدُ الّذي يذكرُ أنَّ الرّوحَ القدسَ ظهرَ بهيئةٍ جسميّةٍ، وفي ذلك دلالةٌ على حقيقةِ نزولِ الرّوحِ القدسِ على يسوعَ، ودلالةٌ على تاريخيّةِ الحدَثِ.  لوقا يميلُ إلى إبرازِ حقائقِ التَجليّاتِ الإلهيةِ من خلالِ استعمالِ مدلولاتٍ حسيّةٍ، كما حصلَ عندما ذَكَرَ كيفَ أنّ يسوعَ لكي يُثْبِتَ حقيقةَ قيامتِه من الموتِ لتلاميذِه، طلبَ أكلاً (لو 24/ 41).
أمّا ذكرُ الحمامةِ فله مدلولاتُه المهمّةُ في الكتابِ المقدّسِ. فقد رأى الكثيرَ من الشُّرّاحِ أنّ الحمامةَ ترمزُ إلى روحِ اللهِ الّذي كانَ يرفرفُ على وجهِ الغمرِ في (تك1/ 2). وبذلك تكونُ الحمامةُ في معموديةِ يسوعَ هي رمزُ الخليقةِ الجديدةِ الّتي دشنّها يسوعُ. كذلك تُذكِّرُ الحمامةُ بنصِّ الطّوفانِ حيثُ أخرجَها نوحُ دلالةً للخلاصِ (تك8/ 8). فتكونَ الحمامةُ المذكورةُ في نصِّ المعموديّةِ رمزًا للخلاصِ والتّحريرِ من العقابِ الإلهيّ. كما وقد ترمزُ الحمامةُ في نصِّ الإنجيلي لوقا إلى ما تمَّ ذكرُه في (تث 32/ 11) حيثُ شبَّه الكتابُ اللهَ بالنَّسْرِ: "كَمَا يُحَرِّكُ النَّسْرُ عُشَّهُ وَعَلَى فِرَاخِهِ يَرِفُّ، وَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَيَأْخُذُهَا (أي شعبه إسرائيل) وَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنَاكِبِهِ". فتكونُ الحمامةُ إذًا رمزًا لعنايةِ اللهِ وحبِّه اللّامتناهيّ لشعِبه الّذي تبنّاه بإبنه يسوع.
- الإعلان الإلهي لهوية يسوع الإبن
فكرةُ صوتِ اللهِ الّذي يتكلّمُ منَ السّماءِ إلى النّاسِ مألوفةٌ في التّقليدِ الكتابيِّ، وهذا الصوتُ الّذي غالبًا ما يترافَقُ مع البُروقِ والرُّعودِ (خر 4/ 12؛ أش 30/ 30-31؛ مز 18/ 14)، نجدُه أيضًا في العهدِ الجديدِ (لو 9/ 35؛ أع 10/ 13. 15؛ 11/ 9).
أخيراً، جاءَ جوابٌ مِنَ السَّمِاء. لم تُخاطِبِ السّماءُ الأرضَ يومًا كما جرى في تلك اللّحظاتِ الفريدةِ مِنَ الزّمَنِ. فقد مَهَّدَتِ الملائكةُ في الميلادِ لذلك الصّوتِ الّذي سمعْناه في العمادِ: صوتُ الآبِ. يبدو أنّ هذا الصّوتَ لن ينطقَ الَّا بالإبِن. وها هو في الحقيقةِ ينطقُ بالإبنِ، يدلُّ عليه، يغمرُه بمجدِه، أي بروحِهِ الّذي كانَ معَه منذُ البَدءِ. ها نزولُ الابنِ قد انزلَ الثّالوثَ فانكشفَ اللهُ ــــ المحبةُ، اللهُ ـــ الجوهرُ للإنسانِ. وما كانَ يسمعُه الابنُ منَ الآبِ منْذُ الأزلِ، سمِعَهُ الإنسانُ البائسُ في الأردنِّ. إنَّها إرادةُ اللهِ الخلاصيةِ وقدْ أرادَ أنْ يخلِّصَ الإنسانَ فكشفَ للإنسانِ ما هو في جوهرِ اللهِ ـــ الثّالوثِ. في العمادِ، حتّى الرّوحُ لبِسَ هيئةً جسميَّةً لكي نراه، فالرّوحُ وإنْ لم يكنْ بعدُ قدْ أُعْطِيَ بانتظارِ الفِداءِ، إلّا أنّه قد صارَ قريبًا. وبذلك أعلَنَ عمادُ يسوعَ الدّخولَ في عهدِ الرّوحِ والحَقِّ.

خاتمة
دخلَ يسوعُ العمادَ وقدّسَ المعموديةَ، ونفحَ فيها مِنْ روحِهِ لتَصيرَ المعموديةُ الحقيقيَّةُ دخولًا فيه وبِهِ إلى الآبِ. ما أجْمَلَهُ حدثًا في قلبِ الإنجيلِ بينَ حلولِ الكلمةِ في حشا مريمَ وحلولِه في الجحيمِ لينتشِلَ آدمَ. إنّها معموديةُ يسوعَ الواحدةُ الّتي افتُقِدَ فيها الانسانُ بالتّجسُّدِ والآلامِ والقيامةِ. ونحنُ اليومَ، إذ نجدّدُ إيمانَنا بالسِّرِّ المسيحاني، ننتظرُ أنْ ننزِلَ في أعماقِنا إلى مياهِ الموتِ مع المسيحِ وفيه لتتمَّ معموديتُه فينا ونصيرَ به موضوعَ سرورِ الآبِ.






تحميل المنشور