هي لحظةٌ واحدة!

هي لحظةٌ واحدة!

بيروت

الثلاثاء 4 آب 2020

الساعة السادسة مساءً

ها هو نهار العمل الأوّل الاستثنائي خلال فترة التعبئة العامّة قد شارف على نهايته.

في الصباح الباكر، خرج الإبن من منزله مودّعًا والدته، ذاهبًا إلى عمله في فوج الإطفاء. وعندما تمّ التبليغ عن الحريق في المرفأ، ركض مسرعًا مع رفاقه للقيام بالواجب.

في ذلك اليوم، غادرت الزوجة منرلها للعمل بعدما اهتمّت بأمور بيتها، واضطرّت للبقاء بضع دقائق إضافيّة قبل مغادرة دوامها في المساء.

في ذاك الثلاثاء، جلست الطفلة في منزلها تلعب وهي تنتظر عودة والدها إلى المنزل لتجلس في أحضانه.

كلّ شيء يسير بشكلٍ طبيعيّ. دورة الحياة تسير، والضيقة الإقتصاديّة تخنق أهل الوطن، والخوف والذعر من فيروس غير مرئيّ بالعين المجرّدة يرتابهم ويلاحقهم. بالرغم من ذلك، كلّ إنسانٍ يتابع عمله: الممرّضة في المستشفى، سائق سيّارة الأجرة على طريق الكرنتينا، عمّال المرفأ يحمّلون البضاعة، الموظّف في مكتبه في وسط المدينة، صاحب المحلّ التجاري في شارع مار مخايل... جميعهم ينتظرون الإنتهاء من عملهم للعودة إلى منازلهم... لم يفكّر أحد منهم بأنّه ممكن أن يحدث أسوأ ممّا هي عليه الحال في ذلك الثلاثاء من آب...

لكن...

يقولون إنّ لحظةً واحدة من الزمن قادرةٌ أن تغيّر كلّ شيء. وها هي هذه اللحظة الواحدة تتفجّر على مسامع كلّ لبناني لتغيّر حياة شعبٍ برمّته!

ما بعد الساعة السادسة والسبع دقائق من مساء الثلاثاء 4 آب ليس حتمًا كما قبله. فالشمس التي تنير سماء بيروت أظلمَت. والأمل بغدٍ أفضل تبدّد... ويا محلاكِ يا كورونا! 

في ذلك المساء الأسود الملبّد بالزجاج المتناثر في كلّ بقعةٍ من شوارع بيروت، وقفت دورة الحياة بشكلٍ كامل.

كلّ شيء تبدّل... معالم بيروت تغيّرت... علم لبنان لبِسَ أسودَ لطالما لبِسَه، لكنّ مذاقه هذه المرّة اختلف.

هي لحظةٌ واحدة أخذت معها أرواح مئةٍ وخمسين إنسانًا وآلاف الجرحى ودمّرت منازل مئات الآلاف.

في تلك الليلة، لن يعود الشابّ إلى حضن أمّه لتستقبله بقبلاتها الحارّة لأنّ شبح الموت كان في انتظاره.

في هذا المساء، لن تعود الأمّ إلى أولادها وزوجها لأنّها أرادت أن تنهي عملها، فإذا باللحظة الهوجاء تنهي حياتها!

في هذه الليلة، سيحمل الأب ابنته صاحبة الأربع سنوات في ذراعيه جثةً همداء ساكنة.

هي قصصٌ لا تنتهي، وكلّ يومٍ نسمع منها الجديد، وما يربطها أمرٌ واحد: ألم الموت والصدمة! 

ها هو اليوم الخامس بعد الفاجعة تغرب شمسه، وأعيُن مئاتٍ من اللبنانيين لم يرفّ لها جفنٌ منذ تلك اللحظة...

الكلّ مفجوع، الكلمة تعجز عن وصف هول الكارثة والحزن العميق الذي يخنق صدور اللبنانيين جميعًا... 

الكلّ فقد الثقة بدولته وبزعمائه... علّ هذه الكارثة تكون بدايةً جديدة للبنان الذي صوّره كبار الفنانين وبه تغنّوا.


وفي انتظار هذه اللحظة، أركع على قدميّ وأصمت وأسلّم حياتي وحياة كلّ لبنانيّ بين يدي الله لكي يأخذ بزمام الأمور ويقود لحظاتنا الآتية:

يا يسوع، قلبنا يعجز عن وصف حجم الألم الذي يصيبنا ويصيب وطننا الحبيب لبنان.

نحن لم نعد نحتمل مزيدًا من الألم والخيبات. قلوبنا يملؤها مزيجٌ من الحقد والغضب والكراهية.

غدنا لم يعد مضمونًا في هذا الوطن. أبناؤه لم يعودوا يؤمنون بتغييرٍ ممكن.

اليأس تملّك قلوبنا... لقد أُنهِكنا من التكمّش بأحلامٍ تسقط الواحدة تلو الأخرى أمام عيوننا، ونسقط معها أرضًا في كلّ مرّة.

وطننا بركانٌ متّقد ولم يعد من سيبل خلاصٍ له إلاّ بكَ ومن خلالك. 

فتعال مدَّ يدك القديرة وانتشلنا من قعر المياه التي تُغرِقُنا، بُثَّ فينا الرجاء ولا تدعنا نستسلم إلاّ بين يديك.

يا يسوع، نحن منهارون ولم يعد لنا إلاّك منقذًا.

لقد فَهِمنا اليوم معنى كلّ لحظة من حياتنا وأهميّتها. أعطنا أن نعيش كلّ لحظةٍ منها لكي نتعلّق بك وحدك ونسلّم إرادتنا لإرادتك، لنكون مستعدّين لساعة الحقيقة متى جاءت ولا يفاجئنا الموت على غفلة...