كنائس "مهجورة" أم كنائس "معمورة"

كنائس "مهجورة" أم كنائس "معمورة"

مع استمرار انتشار وباء كورونا، يعتبر الكثيرون أنّ العالم سيتغيّر بعد هبوب عاصفة جائحة كوفيد-19. إنّ هذا الوباء المفاجئ يضع تحدّياتٍ هائلةً أمام أمن حياتنا الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. المخاوف كثيرةٌ والحياة صعبةٌ لكنّ الإيمان وُجد ليصارع شبح الفزع .فماذا عن حياتنا الروحيّة والرعويّة والكنسيّة قبل الوباء؟ وما دور كنائسنا في زمن الوباء وما مصيرها بعد الفيروس المستجدّ؟

 في كنائسنا اللبنانيّة صراعٌ بين ثلاث فئات: التديُّن الطّبيعيّ، الإيمان الملتزم والإلحاد المتطرّف.

أولاً: التديّن الطّبيعيّ والذي يرتكز على الإيمان الموروث  وعلى مواجهة الديانات الأخرى من دون أن يدخل الفرد في علاقةٍ حقيقيّةٍ مع الرب أو دون أدنى ثقافة حقيقيّة تظهر إيمانه. وفي هذه الحالة يشوّه الإنسان صورته الحقيقيّة ناسيًا أنّه ابنٌ للآب السماويّ فيصبح عبداً يخاف من خالقه. وهذا السّلوك يؤديّ إلى ردّات فعلٍ عنيفةٍ تجاه الشّخص الآخر الّذي ينتمي إلى دينٍ مختلفٍ عنّي. وهؤلاء النّاس هم غير ثابتين على صخرة إيمانٍ صلبة. فنراهم تارةً يهاجمون الكنيسة وتارةً أخرى يدافعون عنها  وقد نَسُوا أو تناسوا أنّ الإيمان مرتبط بيسوع المسيح الذي صلب ومات وقام من أجلهم ليعطيَهم الحياة. إنّهم يجنّدون إيمانهم وفقاً لأفكارهم ومشاريعهم ومشاعرهم غير آبهين بتعاليم الكنيسة الأمّ والمعلّمة.

ثانياً: الإيمان الملتزم والذي يقوم على البحث عن مشيئة الرب من خلال الصلاة وتأمّل المعرفة الدينية. هذا النوع من المؤمنين هم الذين اختبروا الرب في يوميّاتهم وجعلوه محور حياتهم على مثال أمّنا مريم العذراء ووثقوا بصوت اللّه  الصّارخ في الكنيسة، وقبلواجسد يسوع المسيح بِبُعديه البشريّ والإلهيّ. إنّ الإيمان الحقيقيّ هو الثّقة بالربّ من خلال البحث الدائم عن مشيئته وعن طريق الالتزام بالكنيسة وتعاليمها. إنّه فعل تواضع على مثال الرب يسوع الذي أخلى ذاته متّخذاً صورة العبد ليموت من أجل كلّ واحدٍ منّا. لذلك على كلّ مؤمنٍ حقيقيٍّ أن ينكر ذاته ويحمل صليبه بفرحٍ ويتّبع يسوع بالفعل لا بالقول فقط.  

وأخيراً، الإلحاد. فالملحدون هم الّذين لا يعتقدون بوجود الله. إنّهم ،من ناحية، صادقون وليسوا كالمرائين الجهّال الذين يظهرون للنّاس أبرارًا ولكنّهم من الدّاخل مشحونون رياءً وإثمًا. ومن ناحية أخرى، الملحدون يعيشون اللامبالاة نتيجة اختباراتٍ سيّئة عاشوها في قلب الكنيسة أو خارجها وهذه الإختبارات البشريّة الإنسانيّة جعلتهم يرفضون الله والكنيسة. والجدير ذكره أنّ في بعض الأحيان، رجال الدين والأشخاص المتديّنون أو الذين يدّعون الإيمان هم الذين يدفعون ببعض النّاس إلى الإلحاد. في هذا السياق يكون الإلحاد  نتيجة أخطاءٍ حدثت في حياة أشخاصٍ كانوا قد عاشوا التديّن الطبيعيّ دون أيّ اختبارٍ شخصيّ مع يسوع وقد جرحهم رجال الدين أو أحد المؤمنين.

ما موقف هذه الفئات الثلاث من انتشار وباء الكورونا ومن إقفال الكنائس؟ 

أصحاب التديّن الطّبيعيّ

إنّ معظم أصحاب التديّن الطّبيعيّ رأوا في هذا الوباء قصاصاً من الله أو ضربةً من ضرباته لكي يجعلهم يعودون إليه. هذا الوباء هو نتيجة خطايا الإنسان الذي اتّخذ المال ربًّا له وسار في طريق الفجور ناسيًا الله عزّ وجلَّ. هذا الموقف محزنٌ لأنّه يدمّر صورة الله الحقيقية : الله الذي أرسل ابنه الوحيد إلى الأرض ليتألّم ويموت ويقوم من أجل فداء العالم. إنّ هذا التّفكير يدمّر سرّ الثالوث الأقدس القائم على الحبّ، ليُظهر للبشريّة إلهًا عنيفًا، قاتلًا وحقودًا يحبّ أن ينتقم من أبنائه. وهنا يحاول بعض الكاذبين تشويه الحقيقة  فيزرعون في عقول النّاس بعض الأفكار السّيّئة مثل: نهاية الأزمنة، حرب الشيطان، ضربات الله... هذه المعتقدات تجعل الإنسان يأتي إلى الله خائفًا مذعورًا همّه أن يُرضي ربّه كيلا يصيبه مكروهٌ فيضحي الإيمان خوفاً وعبوديةً ويبتعد كلّ البعد عن الحريّة والثقة والحب.  

أمّا بالنسبة لإقفال الكنائس فكانت الفاجعة الكبرى بالتِّهم والأحكام الملقاة على الكهنة الذين أصبحوا بنظر الأفراد أبناء الشيطان وتجّار الهيكل الذين تركوا إيمانهم ودنّسوا القربان المقدّس، وقد نسيَ النّاس أن الكهنة كانوا يتمنّون رؤية العباد في الكنائس. كان الكهنة يذهبون إليهم، إلى منازلهم ويدعونهم ليأتوا إلى أحضان الكنيسة التي كانت فاتحة أبوابها؛ إلّا أنّهم لم يلبّوا دعوات الكهنة إلا في  المناسبات وفي أيّام الأعياد جاعلين من الكنائس أماكن باردة متعطّشة للدّفء وذلك بسبب جشع بعض الكهنة ورجال الدين أحيانًا وقساوة قلوب شعبنا أحيانًا أخرى. 

في هذا الزمن الرديء تغيّرت الأدوار وانقلبت الموازين. أصبح القطيع "الشعب" يريد أن يوجّه الراعي "الكاهن" المتّهَم بأنه لم يعد يلعب دوره كراعٍ صالحٍ. والمؤسف أنّ الراعي أصبح بمثابة أجيرٍ بنظر الكثيرين وهو الذي يحاول أن يهتمّ بقطيعه الضّائع المنتمي إلى كنيسة أمّ ومعلمة. 

أصحاب الإيمان الملتزم

إنّ الأشخاص أصحاب الإيمان الملتزم هم الأشخاص الذين يعيشون إيمانهم في كلّ الظروف والحالات وبخاصّةٍ وقت التجربة والضيقة. إنّهم جاهزون ليواجهوا حروب التجارب الرّوحيّة   بصلواتهم وصومهم وتضرّعاتهم. فالإنسان يحاول أن يتصدّى للخوف، الخوف من المرض، الخوف من الفقر، الخوف من الموت الخوف من المجهول. لذلك يبدو الإيمان تحت المجهر، أي الامتحان. 

فالإنسان المؤمن هو الإنسان الذي يبصر نور الأمل ورجاء القيامة بالرغم من الظلمة والموت. زمن اليأس والمرض والموت نرفع بصرنا نحوالشهادة المسيحيّة الحقيقيّة التي ملؤها الرجاء، والخدمة والإنتصار على الموت بالقيامة. الكنيسة لا تنام ولا تتعب وتبقى في الأوقات الصعبة جسدَ المسيح القائم من الموت ونبع الحياة والحب والرحمة. زمن الوباء هو زمن الشهادة الذي من خلاله يتحقق الملكوت الذي بشّر به يوحنا المعمدان في حياته، ملكوت التوبة والعودة إلى الله. على الرّغم من إقفال أبواب الكنائس في وجه المؤمنين (كما يقول أصحاب التديّن الطبيعي) والشوق إلى القربان المقدّس، فكلّ إنسان ملتزم حوَّلَ منزله إلى كنيسة بيتيّة وبكى من شوقه إلى الاتّحاد بالقربان المقدّس ليعرف مدى آلامه وجروحاته بسبب البعد عن المناولة.

الإنسان الملحد 

الإنسان الملحد كان أمام ثلاث خيارات في زمن الكورونا: العودة إلى الذات وطرح مسألة إيمانه من جديد، أو التقوقع بسبب الأنانيّة، أو العمل من باب الإنسانيّة.

في الليل والنهار الصامتين عندما كانت تعلو أصوات التلفاز مبشّرةً بعواصف الخوف والرعدة من المرض والموت، كان الإنسان الملحد في الحجرالمنزليّ يطرح على نفسه الكثير من الأسئلة الوجوديّة والإيمانيّة وبخاصةٍ مسألة وجود الله. أمّا البعض الآخر فكان يفكّر بوسيلةٍ ليكون بعيدًا كلّ البعد عن هذه العواصف غير مبالٍ بوجع وألمِ الآخرين، لا يفكّرإلا بنفسه  وراحته مثل الرّجل الغنيّ في إنجيل لوقا الذي قال: "يا نَفْسِي، لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ مُدَّخَرَةٌ لِسِنينَ كَثِيرَة، فاسْتَريِحي، وَكُلِي، واشْرَبِي، وَتَنَعَّمِي!". أمّا الإنسانيّة فلم تكن بعيدةً عن الإنسان الملحد الذي وجد في هذا الزمن وقتًا للأعمال الإنسانيّة من خلال الطواقم الطبيّة والمساعدات الماديّة في الأماكن الأكثر فقراً. وكأنَّ هذه الفترة الزمنيّة فرصةٌ للعمل من أجل الإنسان والخروج من تقوقع الذات نحو الإنسان المعاني والمعذّب. 


هناك أحاديث كثيرةٌ حول دور كنائسنا بعد هذا الوباء.

على مرّ العصور تعرّض العالم إلى عدّة أوبئةٍ وأمراضٍ اجتاحت الإنسانيّة التي فأضحت المجتمعات معانيةً ومهزومةً. ولكن هل هذه الأمراض غيّرت وجه الإنسان الروحيّ والديني . إنّ العديد من الناس يرون أنّ العالم سيتغيّر بعد انحسار الوباء لكنّ الحقيقة ستكون عكس كلّ الرهانات لأنّ طبع الإنسان "نسّى" بحسب هذه الكلمة العاميّة. 

"من أهم نِعَم الله على الإنسان نعمة النسيان" هذه المقولة القديمة تبقى فعّالة في زمن ما بعد الكورونا. فخلال الأسابيع الأولى من اختفاء الوباء سنشهد جحافل من الناس تؤمُّ الكنائس للصلاة والتضرّع وسنرى العباد يركعون شاكرين الله لأنّهم ما زالوا أحياء ولم تجرفهم أمواج الكورونا العاتية التي أدّت إلى سقوط الكثيرين في هاوية الموت. ولكنّ الخوف هو من تلك النعمة التي وهبها الله للإنسان وهي أن ينسى هذا الأخير ومع مرور الزمن الربّ وينشغل بهمومه، فيعود إلى سابق عهده ناسيًا الكنيسة وتعاليمها. ولكنّ الأهمّ في هذه الإشكاليّة أنّ هذا الوباء قد أسقط القناع عن الكثيرين من رجال الدّين والعلمانيين. 

سقط القناع عن وجوه رجال الدين الأُجراء الذين ظهروا على حقيقتهم وهم المدعوّون ليكونوا رعاةً صالحين.

سقط القناع عن وجوه العلمانيّين وقد ظهروا هم أيضاً على حقيقتهم وهم المدعوّون ليبنوا بيوتهم على الصخر(الإيمان الحقيقيّ) أمام كل عواصف الحياة ولكن تبيّن أنّهم بنوها على الرمال التي إنهارت بسرعةٍ أمام أوّل تجربة، أمام دنّو الريح.

سقطت الأقنعة  عن وجوه الجميع وظلّ المسيح "هو الأمس واليوم وإلى الأبد" وظلّت الكنيسة "الأمّ" و"المعلّمة" التي تحضن أبناءها رغم كلّ الاختلافات والخلافات.