جاءَنا إتّصال ولم نلبِّ

جاءَنا إتّصال ولم نلبِّ

يوم الأحد الماضي، احتفلنا بالقدّاس في الرعيّة، وكنّا وكما أغلب رعايانا في هذه الأيّام، نبثّه مباشرةً عبر صفحة الفايسبوك. وكان احتفالنا قد اقتصر علينا نحن الكهنة بالإضافة إلى طالبٍ  إكليريكيٍّ وقف خلف الهاتف يهتمّ بالنقل المباشر وشابَّين من أعضاء الجوقة شاركا معنا وقاما بالخدمة الليتورجيّة عبر العزف والتّرنيم. طبعًا شارك من شارك من أبناء الرعيّة عبر الفايسبوك، مرسلين إلينا تحيّاتهم وأشواقهم عبر قلوبٍ حمراء وأيادٍ مُؤيّدة لنا ومُصليّة تطايرت في العالمِ الرقميّ وتبخّرت كرائحة البخور التي كانت ترتفع من مبخرة الكنيسة أثناء الاحتفال. في الختام وبعد انتهاء النقل المباشر، جاءَنا اتّصال من أحد أبناء الرعيّة، يطلب منّا نحن الكهنة، إمكانيّة الحضور إليه لأنّه يرغب بالمناولة وكان قد تابعنا عبر الإنترنت، صلّى معنا وإنّما تنقُصه المشاركة الحسيّة. طبعًا وللأسف لم نلبِّ رغبته المُحقّة، وذلك عملًا بتوصيات الكنيسة في هذه الظروف الإستثنائيّة. 

أخبر هذه القصّة لأقول لكم أنني أمام هذا الواقع الأليم، ككاهنٍ، فكّرت وسألت نفسي: صحيح "حلو يللي عم بصير بس في شي ناقص". ماذا ينقصنا؟ لمَ كلّ هذه الاحتفالات التي نعيشها عبر وسائل التواصل، والتي فتحت عيوننا أكثر على إمكاناتٍ وتقنيّاتٍ كثيرة، يجب أن تكون في خدمة البشارة، لا يمكن أن تتحوّل إلى مساحةٍ ليتورجيّةٍ فعليّة ولا يمكن أن تُعوِّض الحضور الفعلي الذي نعيشه في كلّ احتفالٍ كنسيّ. هذا لا يعني أنّني لا أُقدِّر ولا أرى جمال وفعاليّة ما تعيشه الكنيسة اليوم عبر وسائل التواصل في زمن الحجر الصحيّ، وقد تحوّل العالم الرقميّ من مساحة للتواصل الإجتماعي إلى مساحةٍ لعيش الإيمان والصلاة واللقاء مع الله. 

نعم أقولها بوضوح مساحة لعيش البُعد التعليمي والبُعد الروحيّ وإنّما بعيدًا عن أن يكون مساحةً لعيش البُعد الليتورجيّ. لماذا؟ 

لأنّ "الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا"!

لقد أكّد لنا القدّيس يوحنا في مقدّمة إنجيله أنّ : "الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا "( يو 1 : 14)، أيّ أنّ الله، وبعد أن كلّمنا عن بُعد بواسطة أنبيائه، ما اكتفى بهذه الوساطة بل أراد في ملء الزمن أن يُرسل إبنه إلى العالم. فأتى إلينا بعد أن أخلى ذاته، لمسته أيدينا، رأته عيوننا، سمعته أذاننا....، هذا البُعد الحسيّ والحقيقيّ للتجسّد، هذا القُرب الالهيّ، إن صحّ التعبير، لا يمكن أن يُختَبر عن بُعد، إنّه اختبار نعيشه في الليتورجيا الحقيقيّة التي تتحوّل إلى مساحةٍ لاهوتيّة "lieu théologique". إنّ دخولنا المنظور إلى الكنيسة، إنّما هو دخولٌ غير منظور إلى قدس أقداس الله، والاحتفال الليتورجيّ المنظور إنّما يأخذنا بجماله إلى اللقاء الحقيقيّ مع الله اللامنظور.

فإذا كان العالم الرقميّ عالمًا محيّرًا بين المنظور واللامنظور، بين الحقيقة والوهم، بين الواقع واللاواقع، لا أعتقد أنّ بامكانه أن يفي بالغرض المطلوب، إنّنا في زمنٍ استثنائيّ، رجاءً لا تتوهّموا ولا تتّكلوا عليه كثيرًا، ولا تُعلِّلوا النفس فتقولوا : "حلو يللي عم بيصير! "، نعم أقولها معكم ولكن: "حلو يللي عم بيصير بس في شي ناقص". ينقُص الحضور الفعليّ في بيت الله ومع الجماعة وبحضور الكاهن، ينقُصنا لقاء الكنيسة الحقيقيّ، لقاءٌ نفتقده، ولكنّ الموعد أصبح قريبًا، وسنعود لنلتقي ونتصافح ونتبادل قبلة السلام.

إلى أن يحين هذا الزمن، يا اخوتي وأحبّائي، إذهبوا بسلامٍ إلى العالمِ الرقميّ، ولتصحبكم بركة الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس له المجد إلى الأبد. أمين.