زمن الصوم في زمن الكورونا

زمن الصوم في زمن الكورونا

لا شك أننا نعيش أيامًا مفصليّة في تاريخنا البشريّ. لن يكون العالم بعد الكورونا كما كان قبل الكورونا. لقد أربك ظهور هذا الفيروس التاجيّ بعنفه وإنتشاره السريع العالمَ كلَّه وأجبرنا على تغيير أسلوب حياتنا اليوميّة وجعلنا نُعيد النظر في الأولويّات التي تتحكّم بشبكة علاقاتنا مع الآخرين ومع الطبيعة مُعيدين النظر بسُلّم القيَم التي تحدّد مسارات حياتنا. لذلك، فالبشريّة مدعوةٌ لتقوم بإعادة قراءة صادقة وتقييمٍ عميق لكلّ المفاهيم الإنسانيّة من أجل ولادة جديدة من رحم فيروس قاتل. 

هل يمكننا أن نجني من شرور زمن الكورونا خيورًا نضفرها تاجًا قِياميًّا على رؤوسنا في مسيرة صومنا الخلاصيّة؟ ننطلق من المفردات والتعابير "الكورونيّة" التي أصبحت مالوفةً لدينا لكثرة سماعنا التحاليل العلميّة وقراءتنا التقارير الطبيّة ونحاول تقريبها إلى مفاهيمنا اللاهوتيّة والروحيّة علّها تساعدنا في عيش روحانيّةٍ صياميّةٍ مُعقّمةٍ ضدّ الخمول والقلق والخوف.


1. يقول العلماء أنّ فيروسَ الكورونا القاتلَ العابرَ للقارّات والأجناس والطبقات والأديان يُقاس ببضع مئاتٍ من النانومتر والنانومتر هو جزءٌ من مليار جزءٍ من المتر. يدلُّ هذا الأمر على هشاشة الطبيعة الإنسانيّة التي لم تتمكن من الصمود أمام فيروسٍ لا يمكن تصوّر مقاساته نظرًا إلى صغر حجمه. لذلك نحن مدعوون لأن نعود فنكتشف حقيقتَين بيبليتَين تُعيدُنا إلى المنطقِ الصحيح في التعامل مع الخليقة: هشاشتنا وعدم خلودنا. تلِدُنا أمّهاتنا بالآلام لنأكلَ خبزَنا بعرق جبيننا (تك 1-3). عودتنا إلى هاتَين الحقيقتَين تحرّرنا من منطق الخوف. 

2. غير أنّ هذا الفيروس وبرغم صغر حجمه يُذَكِّرنا بالأسدِ الباحثِ عمّن يبتلعه على حدّ قول القدّيس بطرس: "أُصْحُوا واسْهَرُوا. إِنَّ خَصْمَكُم إِبْليسَ يَزْأَرُ ويَجُولُ كالأَسَدِ بَاحِثًا عَمَّن يَبْتَلِعُهُ" (1 بط 5/8). هذا الفيروس يذكّرنا بإبليس الذي يُريد أن ينهشَ إستقامتَنا والتزامَنا. لذلك وُجِب علينا التيّقظ المستّمر فلا نستهتر بالخطيئة التي تتحيّن الفرصةَ لتنقضَّ على فضيلتنا كما يتحيّن الكورونا فرصةَ الإنقضاض على مَن يستخفّون بالوقاية منه. إنه يُشبه ذلك الروحَ النجس الذي يعود مُصطَحِبًا معه سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنْهُ شَرًّا، ويَدْخُلُونَ ويَسْكُنُونَ في الإِنْسَان اللامبالي فَتَكُونُ حَالَتُهُ الأَخِيْرَةُ أَسْوَأَ مِنْ حَالَتِهِ الأُولى (مت 12/43-45).

3. في غياب اللقاح والدواء المناسبَين لفيروس الكورونا، تدعونا المؤسّسات الصحيّة لتحمّل المسؤوليّة الشخصيّة في الجهد للحدّ من تفشي المرض الفتّاك وذلك من خلال أربعة تدابير تتناسب مع ما نعيشه في الصوم الروحيّ: الغسل، وضع الكمّامات والأقنعة، التباعد الإجتماعي والحجر الإلزامي.

دون الدخول في كلّ المعاني البيبليّة للغسل، فإنّ هذا الموضوع يُرافقنا في كلِّ محطات حياتِنا الإيمانيّة. فمن الخلاص الذي نلناه بغسلِ الميلاد الثاني في جرن المعموديّة (طيطس 3/5)، مرورًا بالمغفرة يُعطينا إيّاها يسوع بنضحِنا بالزوفى والماء كي نبيَضَّ أكثر من الثلج (مز 50)، وغسله أرجُلنا قدوة (يو 13/15) كي نتذكّر أننا خدّام بعضنا لبعض، إلى الصليب حيث جرى ماءُ جنبه ليغسلَنا كما صلّى القدّيس أغناطيوس دو لويولا. اليوم نحن مدعوون أن نغسل، ليس فقط أيدينا تجنّبًا لنقل عدوى الكورونا، بل قلوبنا تجنبًّا لنقل الخطيئة. البشرُّ بأجمعهم مجنَدون لمحاربة الشرّ الذي يُصيب الجسد في تعبئةٍ عامّة لم تشهد البشريّة مثيلاً لها من قبل. لماذا لا يتحدّون من أجل محاربة الشرّ الذي يُصيب الروح ويُفسِد الأخلاق؟ هذا هو الصوم الحقيقيّ حين نُغسل العلاقات التي تربطنا بأترابنا وبالطبيعة ونطّهرها.          

أمّا الكمّامات والأقنعة فتذَكّرنا بأمرَين إثنين: الصوم الحقيقي هو أن نحفظ لساننا من الشرّ فنضع الكمّامةَ الروحيّة أي كلمة الله حارسةً على فمِنا ومراقبةً على بابِ شفاهنا (مز 140/3). هذه الكلمة الإلهيّة هي القادرة وحدها على تنقيةِ كلِّ ما يخرج من داخلنا إذ نعلم أنه "ليس ما يدخلُ الفم ينجّسُ الإنسان، بل ما يخرجُ من الفمِ هذا ينجّسُ الإنسان" (مت 15/11). أمّا الأقنعة التي يضعها الناس اليوم لتُقيهم شرّ الكورونا فيجب أن تدفعَنا لنخلع عنّا أقنعتَنا الروحيّة ونتوقّف عن التصرّف كالمرائين وإلاّ سنكون قد رضينا البقاءَ في الظلمة، مرضى مضطرِبين ومؤمنين منهزِمين لا قدرةَ لنا على تخليص نفوسِنا. لنقرأ ونسمع ما يقوله القديس يعقوب: "لِذلِكَ اطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرّ، فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ. وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ."  (يع 1/ 21-22). كلّ منا أمام مسؤوليّة شخصيّة. هناك عملٌ واختيارٌ شخصيّ عليّ أن أقوم به، وإلاّ لن يوصلني صومي إلى أيّ مكان.

ومن التدابير الصحيّة المطلوبة أيضًا التباعد الإجتماعي كي لا يكون أحدُنا سببًا لنقل العدوى. لقد ألزمتِ الكورونا الناسَ أن يبتعدوا عن بعضهِم البعض. أليست هذه أمنية كلِّ خطيئة: أن يبتعد الإنسانُ عن الله أولاً ومن ثمّ عن أخيه الإنسان؟ هذا ما جرى في رواية السقطة في تك 3 حيث هربَ الإنسان واختبأ من وجه الله بعد إقترافه الخطيئة.

أمّا الحجر المنزلي الإلزامي فهو بالنسبة للإخصائيين التدبيرُ الأجدى لمنعِ تفشي الكورونا. والحجر هو في صلب الحياة الروحيّة في المسيحيّة، خاصةً في زمن الصوم: "وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إلى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إلى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً." (مت 6/ 6). يُساعدنا الحجر الروحيّ لإعادة النظر بالأولويّات التي تتحكّم بحياتنا. نعودُ إلى ذواتنا لنتأمّلَ بمسيرنا ومصيرنا. هكذا يعيش القدّيسون. ينقطعون عن العالم من  أجل عالمٍ أفضل. ليس الحجر الروحيّ هروبٌ من الجسديّات العالميات الوقتيّات إنما هو إشتياقٌ إلى الروحيّات السماويّات الأبديّات. الحجر المنزلي رغم صعوبتهِ هو خلاصيٌّ بحيث يجعلُنا نعرف أهميّةَ الآخرين من أجل إستمرارِ الحياة فليس أحدٌ منا جزيرة. والحجر الروحيّ يُغني فينا فكرة الإتحاد بالله طريقًا للإتحاد بأخوتنا البشر.

لا نستخفنّ بأساليب الوقاية الصحيّة ولا نستخفنّ أيضًا بأساليب الوقاية الروحيّة. الصوم هو زمن الإجراءات الكفيلة بإبعاد الخطيئة عن حياتنا. 

4. يعتقد الجميع ويُعلنون أن العالم يمرُّ اليوم باسوأ أزمةٍ منذ مئات السنين. بالعودة إلى أصل كلمة "أزمة" نجدُها في اللغة اللاتينيّة “crisis” تنحدر من اليونانيّة “κρίσις” وهي تعني: الحكم والقرار. أزمة الكورونا تساعدُنا على تمييز ما يعيشه العالمُ اليوم. هل نحن نعيش اليوم بأمانةٍ للغاية التي وُجدنا من أجلها؟ هل نحن نعيش اليوم بتناغمٍ مع كلّ مخلوقات الله؟ هل نعيش الحياة كعطيّة من الطبيب الإلهي، شافي جميع  أمراضنا؟ يجب أن نصدرَ الحكمَ الصحيح لكلّ هذه التساؤلات ونعلنَ قرارَنا بضرورة تغيير تصرّفاتنا ومقارباتنا لكلِّ ما يدور حولنا ولعلاقاتنا مع الطبيعة وخيرات الأرض من أجل عالمٍ أفضل. الأزمة تعني"الآن أو أبدًا".       


الكورونا تاجيّة المنظر. كلّ خطيئة هي تاجيّة المنظر توهمنا أنها تُعطينا القدرة على أن نصبح ملوكًا مُسلَطين في وقتٍ نحن خُلقنا كي نكون خدّاماً على مثال إلهنا الخادم. سيكتشف العالم عاجلاً أم آجلاً دواءً للكورونا، ولكن هل سيجدون دواءً لأمراضنا الروحيّة؟

فلنجعل من زمن الكورونا فرصةً للتغيير وتصويب المسار بحيث نجعل من هذا الفيروس دواءً بدل ان يكون داءً. ولنَعُدْ إلى الله... فنَشفى!