ألا يغضب الله؟ ألا يؤدّبنا الله؟

ألا يغضب الله؟ ألا يؤدّبنا الله؟

"وأجال يسوع فيهم نظره غاضبًا، حزينًا لقساوة قلوبهم" (مرقس 3/5)

"لا تَحَتقِرْ، يا ابني، تأديبَ الرَّبِّ ولا تيأَسْ إذا وَبَّخَكَ." (عب 12/5)

هل فكرة "غضب" الله تتناقض مع محبّته؟

هل الله "يؤدّب" أبناءه؟ كيف؟


أوّلاً: غضب الله

1- قراءة بيبليّة

- يتكلّم العهد القديم مرارًا عن غضب الله. يذكر العهد القديم كلمة "غضب" 455 مرّة من بينها 375 مرّة مرتبطة بالله  نذكر منها على سبيل المثال: "ها اَسمُ الرّبِّ قادِمٌ مِنْ بعيدٍ. غضَبُهُ مُتَّقِدٌ وهَولُهُ شديدٌ. شَفتاهُ مُمتَلِئتانِ غَيظًا، ولِسانُهُ كنارٍ آكِلَة..." (أش 30/27-31)؛ "وقالَ ليَ الرّبُّ إلهُ إِسرائيلَ: "خُذْ كأسَ غضَبي هذِهِ مِنْ يَدي واَسْقِها جميعَ الأمَمِ التي أُرسِلُكَ إليهِم، فيَشربونَ ويتَرَنَّحونَ ويفقدونَ صوابَهُم مِنَ السَّيفِ الذي أُرسِلُهُ بَينَهُم". (إر 25/15-38).

- يرفض البعض فكرة "غضب الله" معتبرين أنّها صورة لله في العهد القديم قد أبطلها المسيح بتجسّده وتعليمه حيث كشف لنا انّ الله محبّة. لكنّ قراءة العهد الجديد تظهر أنّ المعمدان ويسوع المسيح وبولس بشّروا بإنجيل فيه مكان لغضب الله : نرى يسوع يخرج عن هدوئه أمام دهاء الفرّيسيين (متى12/34)، والمرائين (متى 15/7)، وتلاميذه عندما يظهرون قلّة إيمان (متى 17/17)، وهؤلاء الّذين يظهرون قلّة رحمة (مر 3/5)، وغيرهم. كما نراه يوبّخ بقسوة من جعلوا من الهيكل مكانًا للتجارة (متى 22/12-13) ويلعن التينة العقيمة (مر11/21).

2- قراءة لاهوتيّة

- إعتبر الكثيرون من الفلاسفة واللاهوتيين أنّ التحدّث عن غضب الله ليس إلّا إضفاء صفات البشر على الله (أنتروبومورفيّة). قال فلاسفة الإغريقيّين (خصوصًا أفلاطون وأرسطو) أنّ الإله لا يمكن أن يشعر بأيّ مشاعر بشريّة. فالغضب ليس فقط شعورًا إنّما هو علامة ضعف. وذهب مرقيون  إلى اعتبار أنّ إله العهد الجديد، إله الرحمة، يتعارض مع إله العهد القديم، إله الغضب. هو لم يفهم وِحدة العهدين، ممّا دفع الكنيسة إلى إنزال الحرم فيه. لقد تركت هذه الأفكار أثرًا بارزًا في تفكير أبرز آباء الكنيسة (إيريناوس، ترتليانوس، أوريجانس، أغسطينوس...) وصولاً إلى لاهوتيي عصر التنوير (أو عصر المنطق) . بالنسبة لهؤلاء، يجب فهم غضب الله بالمعنى المجازي وليس بالمعنى الحرفيّ وكأنّه إسقاط شعور بشريّ على الله.

- مقابل هذه النظرة، برز تيّارًا آخر على رأسه لاكتانتيوس (250-325م.) الّذي ترك لنا مؤلَّفًا مخصّصًا لمعالجة موضوع "غضب الله" من زاوية العدالة الإلهيّة والتأديب الأبويّ.

- إذًا، عرف العالم المسيحيّ منذ القدم نظرتين حول "غضب الله". الأولى ترفض تفسير صورة غضب الله بالمعنى الحرفيّ وتعتبره انعكاسًا لمخيّلة الإنسان الّتي تفهم الله إنطلاقًا من مشاعر بشريّة؛ والثانية تعتبر أنّ غضب الله أمرًا حقيقيًّا وواقعيًّا يجب قراءته كما هو: فالله يغضب لأنّه عادل ولأنّه أب، عليه تأديب أولاده.

- لا تزال هاتان النظرتان تتصارعان في التفكير اللاهوتيّ والروحيّ حتّى اليوم. غير أنّ بعض اللاهوتيين المعاصرين مثل هانس أورس فون بالتازار (1905-1988) حاولوا التوفيق بين هاتين النظرتين من ضمن لاهوت الخلاص. بالنسبة للاهوتيين التوفيقيين يجب فهم غضب الله في إطار حدث الصليب: إنّ لقاء حريّة الله مع حرّية الإنسان أدّى إلى تصادم حقيقيّ حتّى أنّ الله قَبِلَ دراما صلب ابنه، وعامله معاملةَ الخاطئ، مع أنّه قدّوسٌ وبلا خطيئة، ووضع عليه عقاب خطايا البشر .

- لتوضيح هذه الفكرة، يجب التذكير بأنّ الأنطولوجيا  البيبليّة لا تفصل "الوجود" (l’être) عن "العمل" (faire). إله الكتاب المقدّس هو إله قويّ، يغار على من يحبّ ويهتّم بخلاصهم. يقدّم الكتاب المقدّس الله على أنّه إله مليء بالمشاعر: هو يعتني بشعبه ويتأثّر بالأفعال الإنسانيّة. إنّ العهد القديم الّذي يتحدّث كثيرًا عن أنّ الله لا يمكن رؤيته أو لمسه، يتحدّث أيضًا عن الله الّذي يرافق شعبه ويشعر بمذلّتهم ويقبل توبتهم ويتفاعل معهم (خر 3/6-7).

- علاوةً على ذلك، تظهر فكرة "غضب" الله أنّ هذا الإله مرتبط بشكل وثيق بالإنسان. الله معنيّ بالإنسان، لذا فهو يوصي، ويشجّع، وينذر، ويدعو للتوبة، ويبحث عن الضالّ، ويدافع عن حقوق الفقراء...: "لا تسجدْ لها ولا تَعبُدْها، لأنِّي أنا الرّبُّ إلهُكَ إلهٌ غيورٌ أعاقِبُ ذنوبَ الآباءِ في الأبناءِ إلى الجيلِ الثَّالثِ والرَّابعِ مِمَّنْ يُبغِضونَني، وأرحَمُ إلى ألوفِ الأجيالِ مَنْ يُحِبُّونَني ويعمَلونَ بوصاياي"َ. (خر20/5-6).

- إنّ الّذين يرفضون فكرة غضب الله يعتبرون بأنّ هذا المفهوم أدّى ويؤدّي إلى بروز أفكار خاطئة منها: أنّ الله يكره. هذه الصورة عن الله تعني أنّه مثل حاكمٍ ظالمٍ، قاسٍ، شرّير، يتّخذ قراراته للانتقام بدون رحمةٍ وبشكلٍ تعسّفي. هذه الصورة هي تشويهٌ خطيرٌ لحقيقة الله وغالبًا ما تؤدّي إلى الخوف منه (الخوف ليس المخافة) أو طاعته بدافع الخوف أو بدافع المكافأة وليس بدافع المحبّة.


ثانيًا: التأديب الإلهيّ

1- الله يؤدّب

- يذكر الكتاب المقدّس في عهديه أنّ الله يؤدِّب ، ولكنّي تلخيصًا للفكرة أكتفي بذكر مرجع من الرسالة إلى العبرانيّين: "ولعَلَّكُم نَسِيتُمُ الكلامَ الّذي يُخاطِبُكُم كبَنينَ: "لا تَحَتقِرْ، يا ابني، تأديبَ الرَّبِّ ولا تيأَسْ إذا وَبَّخَكَ، لأنَّ مَن يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُه ويَجلِدُ كُلَّ ابنٍ يَرتَضيهِ." فتَحَمَّلوا التَّأديبَ، واللهُ إنَّما يُعامِلُكُم مُعامَلَةَ البنينَ، وأيُّ ابنٍ لا يُؤدِّبُهُ أبوهُ؟ فإذا كانَ لا نَصيبَ لكُم مِنْ هذا التّأديبِ، وهوَ مِنْ نَصيبِ جميعِ البَنينَ، فأنتُم ثَمَرَةُ الزِّنى لا بَنونَ. كانَ آباؤُنا في الجَسَدِ يُؤدِّبونَنا وكُنَّا نَهابُهُم، أفلا نَخضَعُ بالأَحرى لأبينا في الرُّوحِ لِنَنالَ الحياةَ؟ هُم كانوا يُؤَدِّبونَنا لِوَقتٍ قَصيرٍ وكما يَستَحسِنونَ، وأمَّا اللهُ فيُؤدِّبُنا لِخَيرِنا فنُشارِكُهُ في قَداسَتِه. ولكِنْ كُلُّ تَأْديبٍ يَبدو في ساعَتهِ باعِثًا على الحُزنِ، لا على الفَرَحِ. إلاَّ أنَّهُ يَعودُ فيما بَعدُ على الّذينَ عانوهُ بِثَمَرِ البِرِّ والسَّلامِ." (عب 12/5-11)

2- التأديب هو إصلاحٌ وتربية وليس أذيّة

- لقد فهم شعب الله أنّ الربّ هو أبٌ يؤدّب شعبه لكي يصلوا إلى طاعة الإيمان. وقد أبرز الإنجيليّون يسوع كمربٍّ في تعليمه وفي مَثَل حياته. وفَهِمَ بولس أنّ الشريعة لم تعد المؤدّب لنا، إنّما روح الله (غلا 3/19؛ 4/2). وهو بذاته قام بتأديب أبنائه (1 كور 14/21؛ 2 كور 7/8-11).

- الله يؤدّب أبنائه إن كانوا فاترين (رؤ 3/9) ولكنّ أحكام الربّ لا تؤذي ولا تقتل (2 كور 6/9). لأنّ تأديب الربّ تكون نتيجته في النهاية الفرح (عب 12/11).  مصدر التأديب هو الكتاب المقدّس (1 كور 10/11؛ تي 2/12؛ 2 تيم 3/16). 

- التأديب هو فعل حبّ ولا ينتج عن غضب. تصف لنا الرسالة إلى العبرانيّين كيف أنّ الله يؤدّب أبناءه كما يؤدّب الأب أولاده. وهنا نسأل: هل من أبٍ أرضيٍّ، مع أنّه شرّير (يسميّه يسوع من الأشرار أيّ الّذين يرتكبون شرًّا)، يحطّم إبنه أو يؤذيه لأنّه لم يطعه؟ (لو 11/11-13). هل يعطي ابنه حيّة إن سأله سمكة؟ هل يسقيه سمًّا لأنّه لم يسمع له؟ من هنا نفهم، كيف أنّ الأب الأرضيّ هو أبٌ رحومٌ إلى حدّ ما، فكيف يكون الأمر بالنسبة للآب السماويّ الّذي يفوق كلّ أبناء الأرض رحمةً ومحبّة؟ (لو 15).


ثالثًا: خلاصة: كيف يمكننا فهم غضب الله وتأديبه؟

الغضب وارتباطه بلاهوت العهد: الله هو إله حيّ، يتفاعل مع الإنسان، يفرح لفرحه ويحزن لحزنه ويغضب لكلّ ما يسيء إلى خلاصه. في العهد القديم يرتبط غضب الله بلاهوت العهد، لأنّ الله هو إله شعبه، يريد قداستهم. لقد فُهِمَ غضب الله كجواب على إثم الإنسان وتجاوزه الشريعة. إذ لا توافق بين الله والخطيئة. فالخطيئة تثير غضب الله أيّ أنّ الله لا يمكنه التعايش معها. في هذا الإطار جرى قراءة الأمراض والكوارث.  

الغضب والإسكاتولوجيا: غضب الله، أصبح مع المسيح، صورة إسكاتولوجيّة، أيّ انّه تعبير عن الدينونة في نهاية العالم. لكنّ الله ليس هو من يديننا بغضبه، بل الإنسان هو من يقيم الحواجز بينه وبين الله. فجهنّم هي مكان غضب الله وهو مكان مخصّص لإبليس وجنوده (متى 25/41). لذا، جهنّم أصبحت صورة عن غضب الله، حيث أنّ الإنسان الّذي يفصل ذاته عن الله، يحرم نفسه نهائيًا عن الحياة الأبديّة. في هذا الإطار نفهم عبارة "يوم الغضب" حيث تعني يوم الدينونة.

غضب الله ليس نهاية المطاف. يريد الله أن يتصالح الناس معه وأن يعودوا عن طريقهم الشرّير ليرثوا الحياة معه. يغضب الله على الخطيئة والشرّ وليس على الخاطئ، وحتّى في غضبه، يتذكّر دائمًا رحمته: "هجرْتُكِ لحظَةً، وبرَحمةٍ فائِقَةٍ أضُمُّكِ. في هيَجانِ غضَبٍ حَجبْتُ وجهي عَنكِ قليلاً، وبرَأفةٍ أبديَّةٍ أرحمُكِ، هكذا قالَ فاديك الرّبُّ." (أش 54/7-8)؛ غضبه لا يدوم إلاّ لحظة: "غضَبُ الرّبِّ لَحظةٌ، ورِضاهُ طُولَ الحياةِ..." (مز30/6). 

الله يؤدّبنا ولكن لا يؤذينا: الكوارث والأوبئة ليست قصاصًا من الله. فالله لا يعاقبنا بها. فهو أبٌ كامل. عقاب الله على الخطيئة حمله المسيح على عاتقه عنّا (2 كور 5/21). لقد عامل الله ابنه معاملة الخاطئ وقد أحصي مع الأثمة (أش 53/12) مع أنّ قداسته ثابتة. أيّ أنّه قام مقام الخطأة واختبر عقاب الخطيئة أي الموت لكي يهبنا الحياة الأبديّة. 

الله، في جوهره ليس إلّا محبّة: الله هو محبّة. المحبّة هي جوهر الله. أمّا الغضب فهو ليس من جوهر الله كما أنّه ليس إضطرابًا في الله (كما يضطرب الإنسان)، فهو ليس إلّا حكمًا على الخطيئة.


تأمّل:

طلبتُ إلى الله القوّة، لعلّي أكون كاملًا         فجُعلتُ ضعيفًا، لعلَي أتعلّم الطاعة مُتواضعًا

طلبتُ الصحّة، لعلّي أفعل أشياء عظيمة    فَمُنِحتُ المرض، لعلّي أفعل أشياء أعظم

طلبتُ الغنى، لعلّي أكون سعيدًا     فمُنحتُ الفقر، لعلّي أكون حكيمًا

طلبتُ السلطة، لعلّي أنال تقدير الناس         فمُنحتُ العوز، لعلّي أشعر بالحاجة إلى الله

طلبتُ كلَّ شيء، لعلّي أتمتّع بالحياة        فمُنِحتُ الحياة، لعلّي أتمتّع بكلّ شيء.

لم أنل شيئًا مما طلبتُ،  بل كلّ شيء مما رجوت

وبالرغم من أنّ صلاتي فى الظاهر كانت غير مستجابة، 

إلّا أنّي بين الناس أغنى مَن نال نِعَمًا.

:المراجع

[1] راجع J. FICHTNER. La colère de Dieu. Dans G. FRIEDRICH (éd.). Dictionnaire théologique du Nouveau Testament. Trans. G. BROMILEY (Grand Rapids : Eerdmans, 1967), vol. 5, p. 395, note 92

[2] راجع معجم اللاهوت الكتابي. طبعة ثالثة. بيروت: دار المشرق. 1991. ص. 584-589.

[3] إبن أسقف سينوب، حرمته الكنيسة (القرن الثاني الميلادي) بسبب تعاليمه الغنّوصيّة.

[4] حركة فكريّة وفلسفيّة تركّز على سيادة العقل والبراهين. برزت في القرن الثامن عشر في أوروبا.

[5] راجع دراسة حول الموضوع: Pierre Damien NDOMBE MAKANGA. La notion de la colère de Dieu chez Hans Urs von Balthasar : Une lecture méta-anthropologique à partir de la notion de l’admirable commercium. Bern : Peter Lang AG. 2009, 374 p.

[6] كلمة أنطولوجيا تعني علم الكينونة أو علم الوجود.

[7] راجع على سبيل المثال تث 8/5؛ إر 6/8؛ مز 16/7؛ أي 5/17؛