راعي "الروحانية النقيّة..." في وجع المخاض للحياة الأبديّة.

راعي "الروحانية النقيّة..." في وجع المخاض للحياة الأبديّة.

أصرَّ في ذلك اليوم، رغمَ وجعهِ أنْ يُخالفَ طبيبَه ورئيسةَ المستشفى، وقامَ باكرًا ونزلَ من سريرِه الطبّي، بعد أنْ طلبَ أن تُفكَّ له كلُّ أنابيبِ المَصلْ وغيرها. فحملَ آلامَه والعرقُ يكدّه، ولبسَ غنبازه، ووضعَ صليبَه وخاتمَه ورجعَ إلى المطرانية ليكونَ جالسًا على كرسيه في كنيسةِ "مار يوسف"، ليشاركَ في ذبيحةِ الشكرِ بمناسبةِ بدايةِ السنة المدرسية. وبعد تِلاوةِ الإنجيل، وقفَ وقالَ:" أنا الراعي الصالح"(يو 10/11)، وأخذَ يفسّرُ كلام الرّب ويشّجعُ الأساتذةَ ليكونوا رعاةً صالحين لا أُجراءَ فاسدين... وكأنّها مرحلة العشاء السرّي الّتي تسبقُ دربَ الصليب والآلام، فدخلَ في مخاضِ الأوجاعِ ليولدَ في الحياةِ الأبدية.   

وبعد يوميْن، أصابتْه نوبةٌ قلبية، فطلبْتُ له الإسعافَ وصعدْتُ معه مرافقًا وجعَه، ومشجعًا إيّاه لا بل مدَفئًا يديه ورجليه الّتي كنتُ أشعرُ بصقيعِها... وكان يرددُ "يا ربّ"، "يا عدرا"، إلى أنْ وصلْنا إلى المستشفى من جديد وكأنّه كرةُ نارٍ كنتُ أخافُ أنْ تنطفئَ بين يديّ...  حين وصلَ، خضعَ لعمليّةٍ حيثُ فُتِحَ شريانُه الأساسي وتمَّ تركيب خمسةِ "راسورات"...

 وما إنْ رجعتُ لأحتفلَ مكانه ليلةَ عيدِ الصليب في مركزِ "مار يوحنا بولس الثاني"- ترشيش، أمام الصليب الّذي هو رفعَه، علمْتُ أنّه عاودَته النوبةُ القلبية مرتيْن، فصلّيْنا من أجله لكيْ يشجّعه الرّب ويساعدَه على تحمّلِ آلامِه وأوجاعِه... 

وعدْتُ في اليوم التالي إلى المستشفى لأطمئنَّ عليه، فإذا به، وبوجهٍ بشوش وكعادتِه، يسألُني، عن الحضورِ وعن المشاركين في القداس... قالَ لي: " هذا الاختبار جعلَني أشعرُ بأمريْن: الأول، محبةُ الكهنة والأهل لي والثاني، الاستسلام الكلّي للرّب". 

وعندما تحسنتْ صحتُه، كان همّه أنْ يشاركَ في اجتماعِ الكهنةِ، ولكنّ النوبةَ القلبية فاجأته ليعودَ في منتصف اللّيلِ، فيوضعَ من جديد بين أيادي الأطباء، وذلك لأنّه هجمتْ عليه النوبات: واحدة، اثنتيْن لا بل عشرًا، عشرين، أربعين، سبعين مرّة... وعندما كان يرتاحُ من النوبات، كان يصلي قائلاً: "يا رب خلّيني ارجع إخدم الأبرشيّة متل ما كنت اخدمْها".

 ولأنّ الوضعَ أصبحَ خطيرًا، قرّرت جمعيةُ الأطباء، وبعد موافقته، أنْ يخضعَ لعمليةِ "كَيِّ في قلبِه" وكان علينا أنْ ننقلُه إلى مستشفى أخرى. فقبِلَ وذهبْنا في الصباح. وبعد الظهر، خضعَ للعملية الّتي دامتْ أكثر من سبعِ ساعات. وفي اليوم التالي، عندما فتحَ عينيْه قالَ لي: "عرفت إنّك مشيْتَ من قرنة شهوان إلى ترشيش من جديد"، كمزحةٍ لأنّه علمَ أنّني كنتُ أتمشى في رواقِ المستشفى طول هذه الساعات.... وهنا تذكرّتُ يسوع وهو حاملٌ صليبَه يتحملُ الآلام، وفي الوقت عينه، يشجّعُ بناتِ أورشليم.

في اليوم التالي، وكأنّنا دخلْنا المرحلة العاشرة من دربِ صليبه، قررَ الأطباء أنْ يخضعَ من جديد لعمليةٍ ليُوضع له "بطارية داخلية". وبعد هذه العملية، أصبحَ يقتربُ يومًا بعد يوم من لحظاتِ الموتِ، فقالَ لي: " أنا عارف شو عامل، حاطط الأبرشيّة بيْن أيادي أمينة". وطلبَ منّي انْ أُؤجِّلَ له موعد رسامة الشمامسة كأنّه لم يمرَّ بمراحلِ درب الأوجاعِ والآلام. فقلتُ له: "نعم، أجلّتها".  

وساءت الأوضاع وازدادت الآلام، عندها توقفت "الكِليتان" وكان لا بدّ له أنْ يبدأَ بالغسيل. وهناك بدأْنا بالصّلواتِ والقداديس ولم أدخلْ إليْه من جديد لأنّني رفضتُ أن أرى من كان يتسلقُ الجبالَ ويتقدّمُ الجميعَ ويواجهُ الصقيعَ والشمسَ، يسقطُ أمام الأوجاعِ والآلامِ. 

ولم تمرَّ ساعاتٌ حتى لفظَ الروح، راعي الروحانية النقيّة والشفافية والاحتراف، فكانت الولادةُ الثانية في الحياةِ الأبدية. 


ففي ذكرى الأربعين لوفاةِ المثلثِ الرحمةِ المطران كميل زيدان، نصلي لكيْ يرحمَه الله في أخدارِه السماويةِ وهو الراعي الصالح الّذي احبَّ كنيستَه أكثر من حبِّه لذاتِه ولصحّتِه، فله الراحةَ الأبديةَ والنعيمَ في الملكوتِ السماوي.