لوحة الميلاد والتّجسّد العجيب

لوحة الميلاد والتّجسّد العجيب


إفْتَتَحْنا السَّنَةَ الطَّقْسِيَّةَ، بِأُسْبوعَي تَقْديسِ البيعَةِ وَتَجْديدِها، وَمَعَ أَحَدِ بِشارَةِ زَكَرِيّا، نَبْدَأُ الزَّمَنَ الأَوَّلَ مِنْ هذِهِ السَّنَةِ، أَلا وَهُوَ زَمَنُ الميلادِ. إِنَّهُ زَمَنُ البِشاراتِ، وَالزِّياراتِ، وَالوِلاداتِ، تَحْضيرًا لِلْبُشْرى الكُبْرى، وَالزِّيارَةِ العَظيمَةِ، وَالوِلادَةِ العَجيبَةِ، أَي البُشْرى بِيَسوعَ المَسيحِ، ابْنِ اللهِ الوَحيدِ، وَزيارَتِهِ لِعالَمِنا الأَرْضِيِّ، بِوِلادَتَهِ الفَريدَةِ، مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وَمَرْيَمَ العَذْراءِ، وَاتِّخاذِهِ الطَّبيعَةِ البَشَرِيَّة.


يَبْدَأُ زَمَنُ الميلادِ بِبِشارَةِ زَكَرِيّا؛ الكاهِنِ - الشَّيْخِ الجَليلِ وَالبارِّ، الّذي كانَ يُقَدِّمُ البَخورَ في مَقْدَسِ هَيْكَلِ الرَّبِّ عِنْدَما ظَهَرَ عَلَيْهِ مَلاكُ الرَّبِّ. لَقَدِ اسْتَجابَ الرَّبُّ لِطَلْبَةِ زَكَرِيّا، الّتي هِيَ طَلْبَةُ الشَّعْبِ، الّذي كانَ يُصَلّي وَيَتَضَرَّعُ، مِنْ أَجْلِ إِرْسالِ المَسيحِ المُنْتَظَرِ، وَتَحْقيقِ خَلاصِ إِسْرائيلَ. البِشارَةُ بِيُوحَنّا، دَليلٌ أَنَّ الرَّبَّ بَدَأَ بِتَحْقيقِ وَعْدِهِ، وَقَدْ أَعْطى زَكَرِيّا عَلامَةً: " وَها أَنْتَ تَكونُ صامِتًا، لا تَقْدِرُ أَنْ تَتَكَلَّمَ، حَتَّى اليَومِ الَّذي يَحْدُثُ فيهِ ذلِكَ " (لو 1 / 20)،  لِكَيْ يَتَأَمَّلَ في هذا الحَدَثِ العَظيمِ الّذي سَيَتُمُّ في حينِهِ. 

تَلي بِشارَةَ زَكَرِيّا بِشارَةُ مَرْيَمَ العَذْراءِ، إِبْنَةِ النّاصِرَةِ، البَلْدَةِ الوَضيعَةِ وَالمُتَواضِعَةِ. مِنْ هُناك سَيَنْطَلِقُ المَسيحَ – الكَلِمَةَ، وَهُوَ في عُمْرِ الثَّلاثينَ، لِكَيْ يُعْلِنَ كَلِمَةَ اللهِ الخَلاصِيَّةَ، وَيَكْشِفَ حَقيقَةَ حُبِّ اللهِ لِلإِنْسانِ. لَقَدْ قالَتْ مَرْيَمُ كَلِمَتَها، الّتي تَأَمَّلَتْ فيها طيلَةَ حَياتِها، وَقَدْ مَلَأَتْ قَلْبَها وَعَقْلَها وَجَسَدَها، فكانَتِ الـ " نَعَمُ " الشَّهيرَةُ: " ها أَنا أَمَةُ الرَّبِّ، فَلْيَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ " (لو 1  / 38)، المُشْبَعَةُ بِالإيمانِ، وَالثّابِتَةُ بِالرَّجاءِ، وَالمَليئَةُ بِالحُبِّ.

بَعْدَ البِشارَتَيْنِ، نَتَأَمَّلُ في زِيارَةِ مَرْيَمَ لِنَسيبَتِها أَليصابات. مَرْيَمُ الّتي أَصْبَحَتْ بَيْتَ قُرْبانٍ مُتَنَقِّلٍ، تَنْطَلِقُ مُسْرِعَةً لخِدْمَةِ قَريبَتِها: " وَفي تِلْكَ الأَيَّامِ، قامَتْ مَرْيَمُ وَذَهَبَتْ مُسْرِعَةً إلى الجَبَلِ، إِلى مَدينَةٍ في يَهوذا " (لو 1 / 39). في هذِهِ الزِّيارَةِ، تَمَّ اللِّقاءُ بَيْنَ يَسوعَ؛ كَلِمَةِ اللهِ المُتَجَسِّدِ في أَحْشاءِ مَرْيَمَ، وَيوحَنّا المَعْمَدانِ، الّذي " ارْتَكَضَ " في بَطْنِ أُمِّهِ. سَيَكونُ الصَّوْتَ الصّارِخَ، الّذي سَيُحَضِّرُ الطَّريقَ أَمامَ مَلَكوتِ اللهِ الحاضِرِ في شَخْصِ المَسيحِ.

نُتابِعُ مَسيرتَنا في زَمَنِ الميلادِ، لِنَتَوَقَّفَ عِنْدَ وِلادَةِ المَعْمَدانِ، وَإِعْطائِهِ الإِسْم: " فَطَلَبَ لَوْحًا وَكَتَبَ:" إِسْمُهُ يوحَنَّا! "(لو 1 / 63)، أَي " اللهُ تَحَنَّنَ ". أَرادَ اللهُ في إِرْسالِ يوحَنّا، أَمامَ ابْنِهِ، أَنْ يُظْهِرَ حَنانَهُ لِلإِنْسانِ، الّذي أَحَبَّهُ وَاخْتارَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلِقَهُ لِلْوُجودِ. كانَ يُوحَنّا صَوْتَ الكَلِمَةِ الإِلهِيَّ، الّذي سَيُعْلِنُ، بِكَلامِهِ وَأَعْمالِهِ، حَنانَ اللهِ وَرَحْمَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ لِلإِنْسانِ.

بَعْدَ وِلادَةِ يوحَنّا، نَتَوَقَّفُ أَمامَ البَيانِ الإِلهِيِّ لِيوسُفَ البارِّ. لَقَدِ احْتارَ في أَمْرِ مَرْيَمَ، وَفَكَّرَ كَثيرًا ماذا يَفْعَلُ. وَبَعْدَ أَنِ اسْتَنْفَدَ كُلَّ قِواهُ البَشَرِيَّةِ، اسْتَسْلَمَ لِلنَّوْمِ، أَي سَلَّمَ أَمْرَهُ لِلرَّبِّ، الّذي دَعاهُ لِعَدَمِ الخَوْفِ، وَكَشَفَ لَهُ حَقيقَةَ سِرِّ حَبَلِ مَرْيَمَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَها إِلى بَيْتِهِ: " وَلَمّا قامَ يوسُفُ مِنَ النَّوْمِ ، فَعَلَ كَما أَمَرَهُ مَلاكُ الرَّبِّ وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ " (متّى 1 / 24)، بِدونِ خَوْفٍ أَوْ تَرَدُّدٍ أَوْ شَكٍّ.

وَفي الأَحَدِ الّذي يَسْبِقُ ميلادَ الرَّبِّ يَسوعَ، نَتَأَمَّلُ في نَسَبِهِ البَشَرِيِّ بَحَسَب إِنْجيلِ مَتّى، الّذي أَظْهَرَ لَنا انْتِماءَ يَسوعَ إِلى الجِنْسِ البَشَرِيِّ، بِوِلادَتِهِ في شَعْبٍ مُحَدَّدٍ، وَنَسَلٍ مَعْروفٍ. نَسَبُ يَسوعَ يَكْشِفُ، في الوَقْتِ ذاتِهِ، انْتِماءَهُ الإِلهِيَّ، فَعِنْدَما يَصِلُ الإِنْجيلِيُّ مَتّى إِلى يَعْقوبَ يَقولُ: " يَعْقوبُ وَلَدَ يوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الّتي مِنْها وُلِدَ يَسوعُ، وَهُوَ الّذي يُدْعى المَسيحُ " (متّى 1 / 16)، دَلالَةٌ عَلى طَبيعَةِ يَسوعَ الإِلهِيَّةِ وَوِلادَتِهِ العَجيبَةِ مِنْ مَرْيَمَ العَذْراءِ بِفِعْلِ الرّوحِ القُدُسِ.  


بَعْدَ ذلِكَ، نَصِلُ إِلى عيدِ الميلادِ، حَيْثُ نَحْتَفِلُ بِأَحَدِ الأَسْرارِ الإِلهِيَّةِ الثّلاثَة، أَي سِرّ التَّجَسُّدِ (سِرّ الثّالوثِ الأَقْدَسِ، سِرّ الفِداءِ). صارَ ابْنُ اللهِ إِنْسانًا، لِكَيْ يُصْبِحَ، بِتَجَسُّدِهِ، هَيْكَلَ اللهِ الجَديدَ، الهَيْكَلَ الحَقيقِيَّ وَالجَوْهَرِيَّ لِحُضورِ اللهِ في وَسَطِ شَعْبِهِ، الـ " عمّانوئيل – اللهُ مَعَنا ". أَصْبَحَ المَسيحُ الهَيْكَلَ الّذي فيهِ وَبِهِ نَعْبُدُ اللهَ وَنُصَلّي لَهُ وَنُقَدِّمُ التَّقادُمَ، وَبِواسِطَتِهِ نُحَقِّقُ اللِّقاءَ الفِعْلِيَّ وَالحَقيقِيَّ مَعَ اللهِ. " إِنَّ اللهَ قَدْ أَتى إِلَيْنا لِيَحْمِلَ جَسَدَنا، فَيُتاحَ لَنا أَنْ نَصيرَ نَحْنُ حامِلي الرّوحَ" (القِدّيس أَثْناسْيوس)