المطران كميل زيدان
مقالات/ 2018-03-29
أيّها الأحبّاء،كلّ مرّةٍ نحتفل بالذبيحة الإلهيّة، وقبل سماع كلمة الله، نتلو باسمنا وباسم المشاركين معنا إبتهالاً للرب القدّوس الذي لايموت ونقول: "قدّس أفكارنا ونقّ ضمائرنا"! إنّنا نطلب من الله أن يرحم ضعفنا ويجعلنا قادرين على الإصغاء لكلامه وإيحاءاته فننتقلَ بنظرتنا لأمور الحياة وبسلوكنا اليومي من منطق البشر إلى منطق الله.
هذا الإبتهال هو دعوةٌ لكلٍّ منّا كي نتجنّب طوال حياتنا ما يلوّث ضمائرنا ويدخل الشرّ إلى أفكارنا. وعليه سأتوقّف معكم اليوم، في عيد تأسيس الكهنوت، عند بعض المعوّقات التي تعترض سبيلنا:
المعوّق الأوّل: تشتّت الأفكار
ماذا يريده الله منّا، وماذا علينا أن نفعل؟ إذا وقعنا في حيرة، فلأنّنا لانعرف كيف نصغي، ولا نقدر أن نصغي، لأنّ أفكارنا دوماً مشتّتة.
نال القديس يوسف حظوةً عند الله بسبب برّه وصمته؛ فاختاره مربّياً لابنه، حارساً له ولمشروعه الخلاصي. يكلّمه ملاك الربّ في قلبه النقيّ، في الحلم، في اللاوعي، وينهض ليعمل بحسب كلمة الله. لم يكن مشتّة الأفكار، قلق القلب.
يقظة الضمير والقلب بالنسبة إلى المؤمن، هي قبل كل شيء إنفتاح الأذن والفكر والقلب على كلمة الله. الضمير المتيقّظ يحكم على كل الأمور في ضوء كلام الله.
لقد وُهبنا الروح القدس ليجعل ضميرنا دائماً حيّاً، يحميه من الموت، دائم الإستعداد لتمييز إرادة الله في حياتنا. ومن مواهب الروح المشورة الصالحة التي تجعل ضميرنا أكثر قدرةً على الإختيار بحسب منطق يسوع وإنجيله.
أين نحن من الإصغاء إلى مشورات الروح وإيحاءاته؟ وكم نجاهد لنُبعد عنّا التشتّت؟
المعوّق الثاني: الكسل والتهاون
ما أسهل سقوط الإنسان المشتّت الأفكار والكسول، والذي ليس له قدرةٌ على الجهاد! يأتيه المجرّب فيجد أبوابه مفتوحة، وعقله مستعدٌّ لقبول كلّ شيء. فما أصدق قول المثل: "عقل الكسلان مأوى الشيطان"!
إن حاربتك أفكار كبرياءٍ أو مجدٍ باطل، تذكَّر أنّك مخلوقٌ من تراب، وإلى التراب تعود. وإن حُورِبت بمحبة المال وتخزينه، ضع في ذهنك باستمرار أنّك في يومٍ من الأيام ستترك هذا العالم وكلَّ ما فيه من مال ومقتنيات، ولا يصحبك في طريق الأبديّة سوى أعمالِك. إن هاجمتك الأفكار الشريرة، صدّها بسرعة. لا تتساهل معها، ولا تتراخَ، ولا تفاوضها. كلّما استبقيتها، كُلَّما أحتلّت مساحةً أوسع من أفكارك.
قاوم، لا تتكاسل، ولا تتهاون بالتعاطي مع التجارب!
المعوّق الثالث: النقص في تنشئة الضمير
ما أسهل النميمة، وما أخطرها في أيّامنا! نقتل سمعة الآخرين وننشر إرهابنا بواسطة وسائل التواصل الإجتماعي، ولا يرّف لنا جفنٌ. يشبّه البابا فرنسيس النمّام بالإرهابي، الذي يقتل ليقتل! يجب تربية الضمير ليصبح "ضميراً بالغاً"، ضميراً ثابتاً في قيمه، صلباً في مقاومة الإغراءات، ضميراً متواضعاً يعلم معطوبيّته، يبتهل إلى الله ليحفظه نقيّاً، ويسهر على أن ينضج باستمرار. نموّ الضمير وتربيتُه يتمّان بدفعٍ من الباطن و باحتضانٍ من الخارج. وكلا الحركتين مرتبطتان إحداهما بالأخرى وتكمّل إحداهما الأخرى. قبل أن تكون الأخلاقيات تمييزاً بين ما هو مسموح وما هو ممنوع، إنّها تأخذ غذاءها من ثمار الروح التي هي: "المَحَبَّةُ، والفَرَحُ، والسَّلامُ، والأَنَاةُ، واللُّطْفُ، والصَّلاحُ، والأَمَانَةُ، والوَدَاعَةُ، والعَفَاف" (غلاطية 5/22-23).
إنّنا مدعوون، نحن المكرّسين، إلى تكوين الضمائر لا أن نحلّ مكانها. يقول البابا فرنسيس: "يجب علينا أن نشجّع نُضجَ ضميرٍ مستنير، ضميرٍ تمّت تربيتُه ومرافقتُه بتمييزٍ مسؤولٍ وجدّي من قِبَل الراعي، ضميرٍ يضع ثقةً أكبر في النعمة."
المعوّق الرابع: الإصرار على الخطيئة وغياب التوبة
يقول القديس أوغسطينوس:"عُد إلى ضميرك وسائله… عُد إلى الداخل، وانظر في كلّ ما تفعله، عُد إلى الشاهد، إلى الله" . إذا كان ضميرك يعاني، وإذا كنتَ تخجل من أشياء كثيرة قد اقترفتَها، توقّف للحظة، لا تخف. فكّر بأن هناك مَنْ ينتظرك، لأنّه لم يتوقف مطلقاً عن ذكرك؛ إنّ الله أبٌ رحيم، إنّه ينتظرك مثل والد الإبن الضال. وحده الله يفكّ عُقد نفوسنا برحمته الأبويّة.
إذا صنع الإنسان شرّاً، فضميره يؤنّبه ويدعوه إلى التوبة، يدعوه ليعود إلى بيت الآب والإعتراف له، يدعوه ليثق بمن هو غنيٌّ بالمراحم، ولكي يعمل على تغيير مسار حياته بثبات، ويُترجم ذلك بتصرفاتٍ ومواقف ملموسة. فلا نصمّنّ آذاننا عن سماع صوت الضمير أو نعمل على إسكاته! ولا ندَعْ ضميرنا ينام، لئلّا نستمرّ في زرع الألم والدمار والموت في حياتنا، وحياة مَنْ حولنا!
المعوّق الخامس: غياب الحبّ
"ما أسهل إسكات الضمير في غياب الحبّ"! لنتذكّر في مثل السامري الصالح موقف الكاهن واللّاوي، وكيف منعتهم أنظمتهم وحساباتهم الصغيرة من الإهتمام بذلك المسكين، إبن بيئتهم، الذي تركه اللّصوص بين حيٍّ وميت، ولنتذكّر كم مرةٍ قاوم الفريسيّون المسيح وتآمروا عليه لأنّه كان يشفي يوم السبت، وفضّلوا السبت على الإنسان. ولنتذكّر أيضاً موقف الغني من لعازر المسكين، المُلقى على بابه ولم يشعر بوجوده.
في سنة الرحمة كتب البابا فرنسيس: " أتمنى بشدّة أن يفكّر الشعب المسيحي خلال اليوبيل في أعمال الرحمة الجسديّة والروحيّة. وستكون هذه الطريقة كفيلةً بإيقاظ ضميرنا، الذي ينزلق غالباً إلى السُبات إزاء مأساة الفقر، وبالغوص أكثر في قلب الإنجيل، حيث الفقراء هم المفضّلون لدى الرحمة الإلهية". لنتذكّر دوماً أنّنا سنُدان على المحبة!
المعوّق السادس: الخوف والعبوديّة لما هو سائد
قليلون هم الأشخاص الذين لهم جرأة الدفاع عن الحقيقة؟! قليلون هم الذين يختارون السير عكس التيارات السائدة كي لا يخونوا صوت ضميرهم؟! أرادنا يسوع أحراراً! ولكن كيف تُبنى حريتنا؟ إنّها تُبنى في الحوار مع الله، بواسطة الضمير النقيّ. فالمسيحيّ الذي لا يعرف التكلّم مع الله، ولا يعرف الإصغاء لله في مخدع ضميره، لن يذوق طعم الحريّة الحقّة!
أن أصغي لصوت ضميري لا يعني أن أتبع "الأنا"، وأن أفعل ما يناسبني، وما أحب... الضمير النقيّ هو الفسحة الداخليّة حيث يصغي المرء لصوت الحقيقة والخير، لصوت الله؛ إنه المكان الباطني حيث يكلّم الله قلبي ويساعدني على التميِّيز وعلى الأمانة لحبّه ووصاياه.
مستقيم الضمير، لا يخشى مقاومة الإنحرافات التي تسود المجتمع! لا نَخَفْ! ولنقُل "لا" للذين يريدون أن يسرقوا منّا الرجاء، للذين يقودوننا في طريق الضلال، للذين يقدمّون لنا القيم الفاسدة؛ القيم الفاسدة تفسدنا كالطعام الفاسد.
أيّها الأحبّاء،
يوسف ومريم، ببساطةٍ عظيمة، حافظا على قداسة أفكارهما ونقاء ضميرهما، فكانا يصغيان لكلمة الله ويتأمّلان بها، وبكلِّ ما كان يحدث ليسوع. فكانا يعملان دوماً بحسب إرادة الله، باقتناعٍ داخليٍّ كامل، وبطواعيّةٍ تامّة، لا يشوبها تردّد، وبحرّيةٍ ورجاءٍ ثابت. فلنلتمس شفاعتهما، مريم أمّ الكهنة ويوسف حارس الفادي، كي نصبح رجالاً ونساءً أصحاب ضمير، أحراراً، نصغي لصوت الله ونتبعه بحزم، وقد غدت أفكارنا مقدّسة وضمائرنا نقيّة. آمين.
الربوة قرنة شهوان، خميس الأسرار 2018