الخوري بسّام بو رعد جعجع
مقالات/ 2025-04-22
جرجس والتنّين – قراءة تاريخيّة ولاهوتيّة
ينأى
بعض المسيحيّين اليوم عن التعبّد لمار جرجس، مع صعود نجم قدّيسين آخرين معاصرين،
يحاكون واقعنا وحاضرنا. وفي ظلّ تضاؤل ذكره في العظات والتعاليم الكنسيّة، ذهبت
وقاحة البعض إلى إنكار وجوده تاريخيًّا والاستخفاف برواية حياته، واعتبارها قصّة
مُختلقة من محض الخيال الكنسيّ للمسيحيّين في الأجيال الغابرة. ولعلّ رواية ذبحه
للتنّين هي ما يجعل البعض يشكّك بواقعيّة سيرة هذا القدّيس وتاريخيّتها. غير أن
هؤلاء قد غفلوا عن عمق اللاهوت المسيحي للكنيسة الأولى، واعتمادها الرموز والأنواع
الأدبيّة الرائجة حينها، كوسيلة للبشارة في ظلّ قمعٍ واضطهاداتٍ شديدة.
في العادة، تسبق رواية حياة القدّيسين (الهاجيوغرافيا) التعبّد لهم، إذ ترتكز الجماعة على سِيَر حياتهم ومآثرهم التي سمعتها وقرأتها، لصياغة الطقوس والصلوات، وبناء الكنائس والأديرة، وكتابة الأيقونات الكنسيّة المكرّسة لهؤلاء القدّيسين. أمّا في حالة القدّيس جرجس فالعكس صحيح. لقد كرّست له الكنائس والمزارات، وكتبت الترانيم عنه، قبل حتى أن تكتب سيرة قداسته. ولعلّ سيرته قد كتبت وضاعت خلال الاضطهادات المتلاحقة، ثمّ عاد الكتّاب الكنسيّون بعدها بقرون، لتجميع ما تيسّر لهم من أخبارٍ عنه، بعد انتشار عبادته في الأقطاب الأربعة، من الشرق إلى الغرب، حيث لمعت صورته واتّخذته أديرةٌ وقلاعٌ وحتّى ممالك بأكملها، شفيعًا لها، كإنكلترا وجورجيا وبلغاريا وأوكرانيا ومالطا واثيوبيا، ومقاطعاتٍ ومدنٍ ككتالونيا وموسكو وبيروت وغيرها...
الشهيد
جرجس في التاريخ والتقليد
مع
تسلّم الأمبراطور "ديوكلتيانوس Diocletian" مقاليد الحكم في الإمبراطوريّة الرومانيّة، بدأت حملة
الاضطهاد العاشرة والأخيرة للمسيحيّين، واستمرّت بين سنتَي 303 و311، فعلّق الجنود
على أبواب المدن، مراسيم الأمبراطور الأربعة التي تمنع الديانة المسيحيّة وتجبر
المسيحيّين على الكفر بالمسيح تحت طائلة الموت. واستشهد خلال هذه الاضطهادات
الدمويّة الكثير من المسيحيين حتّى تخطّى عدد الذين أعدموا منهم الثلاثة آلاف.
يذكر
الأسقف أوسيبيوس، أحد أوائل المؤرخين الكنسيّين، والذي ولد في قيصريّة فيليبس في
الأراضي المقدّسة (توفي سنة 339)، أنّ أحد الشبّان المسيحيّين (لا يذكر اسمه)
تحدّى أوامر الأمبراطور ومزّق مرسوم "ديوكلتيانوس"، ثمّ استشهد هذا
الشاب الشجاع بعد تعذيبه. كما يذكر أنَّ الأمبراطور قسطنطين الأوّل كرّس كنيسة في
الأراضي المقدّسة على اسم "إحدى الشخصيّات المهمّة"، ويعتقد البعض أنّه قصد
بها القدّيس جرجس، غير أنّه لا يمكن التأكّد من ذلك، لكنّ التقليد
و"الهاجيوغرافيا" يؤكّدان استشهاد جاورجيوس خلال اضطهاد ديوكلتيانوس
وبناء كنيسة في مقام دفنه في اللدّ في الأراضي المقدّسة (مسقط رأس والدته بحسب
التقليد). وقد بُنيت الكنيسة الحاليّة اليوم في اللدّ فوق كنيسة من العصر الصليبي
كانت قد بُنيت بدورها مكان كنيسة بيزنطيّة تحمل اسمه من القرن الخامس.
ويذكر
منشور (حول واقع الأراضي المقدّسة de situ terrae
sanctae) كُتب في القرن السادس، عن وجود كنيسة تحتوي
على رفات القدّيس جرجس في مدينة اللدّ.
هذا
ويرد ذكر اسم جاورجيوس للمرّة الأولى، (ومعنى اسمه باليونانية "حارث
الأرض")، في "مرسوم جلاسيوس" (Gelasian
decree) المنسوب للبابا جلاسيوس الأول (حبر الكنيسة
الكاثوليكية من سنة 492 حتّى سنة 496) الذي يتضمّن في فصله الخامس لائحةَ كتب
منتشرة في الكنيسة، ومنها "آلام جاورجيوس". ينصح المرسوم بعدم قراءة هذه
الكتب في الكنيسة بسبب عدم معرفة كاتبيها، وقد يعود السبب في ذلك إلى شناعة وبشاعة
التعذيب الذي يذكره النصّ، حيث تفنّن الكاتب في وصف تعذيب القدّيس جاورجيوس وآلامه
بأدقّ التفاصيل، وموته وإعادة إحيائه ثلاث مرّات. وخشي البابا في مرسومه أن تدفع
هذه القراءة البعض إلى الانزعاج أو حتّى إلى السخرية، ولكنه نصح بإكرام هؤلاء
القديسين، "الذين يعرف الله سيرتهم أكثر من البشر"، بكلّ تقوى.
يرد
أيضًا ذكر مزار وأيقونة للقدّيس جاورجيوس في سيرة حياة القدّيس ثيودوروس السيقي
(عاش في غلاطية في القرن السادس)، الذي تعبّد له وكان يدعوه "شهيد
الله"، وهذا ما يدلّ على انتشار شفاعة القدّيس جاورجيوس في القرون الأولى
للكنيسة. وكذلك في أواخر القرن السادس، حثّت القدّيسة "نينو" ملك
"جورجيا"، على بناء كنيسة على اسم القدّيس جرجس.
وكان
الجنرال البيزنطي "فلافيوس بليساريوس" قد وضع أحد أبواب مدينة روما تحت
حماية القدّيس جرجس سنة 527. وبنى أسقف "شقا" في السويداء – سوريا
مزارًا له سنة 549. انتشرت عبادته من روما الى الغرب في القرن السابع وبلغت
إنكلترا في القرن الثامن.
تُعتبَر
أيقونة "والدة الله" في دير القدّيسة كاثرين في جبل سيناء، والتي كتبت
في القرن السادس، الأقدم للقدّيس جرجس، حيث يظهر واقفًا إلى يسار العذراء مريم
(يمين الأيقونة)، بوجهه الشاب وملامحه المتواضعة، حاملًا صليب شهادته بيده. وتمثّل
هذه الأيقونة التقليد الأقدم في تصوير القدّيس جاورجيوس.
جرجس
ورواية التنّين
بدأ
التحوّل الكبير في عبادة القدّيس، في القرن الحادي عشر مع الحملات الصليبيّة، مع
اتّخاذه شفيعًا للفرسان وإضافة رواية التنّين إلى سيرته. وقد انتشرت شفاعته بين
الفرسان الصليبيّين، تحديدًا بعد معركة انطاكية سنة 1098. ففي خضّم المعركة مع جيش
أمير الموصل "كرغبا"، انتشرت رواية بين الجنود عن ظهور القدّيسيْن جرجس
وديميتريوس، ما رفع معنويّاتهم وساعدهم على النصر. بعدها، انتشرت عبادة القدّيس
جرجس في أوروبا كالنار في الهشيم، وأصبح شفيع الكثير من الجنود والفرسان والملوك
وكرّست له الكنائس والمدن والقلاع، ورسمت الصور التي تظهره فارسًا راكبًا على
حصان، لابسًا الدروع وحاملًا سلاحًا مماثلًا لأسلحة العصر.
أمّا
رواية ذبحه للتنّين، فقد نشأت على الأرجح في الحقبة ذاتها. وذُكرت للمرّة الأولى
في القرن الثاني عشر، في منشورٍ باليونانية يروي سيرته. وقد اشتهرت هذه الرواية بعد
نشر "فوراجين" أسقف جنوة (Jacobus de voragine - genoa)، كتابًا يروي سيرة 153 قدّيسًا سنة 1260. لاقى الكتاب شعبيّة
كبيرة في القرون الوسطى، وفيه يروي فوراجين رواية قتل القدّيس جرجس للتنّين وإنقاذه
لابنة الملك في مدينةٍ في ليبيا. ساعد في انتشار هذه الصورة وترسيخها في عقول
المؤمنين، اعتمادُها في معظم اللوحات الكنسيّة والأيقونات المكرّسة للقديس
جاورجيوس منذ ذلك الحين. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الكثير من اللوحات التي تصوّره
في كنائس لبنان المارونيّة، نُقلت عن اللوحة الشهيرة للفنان الفرنسي الشهير
"اوجين دو لا كروا Eugene de la Croix"، والتي رسمها خصيصًا لكاتدرائيّة مار جرجس المارونيّة في
وسط بيروت. وقد ذيّل بعض هذه النسخات، بعبارة "نقلًا عن دو لا كروا" في
أسفل اللوحة، كلوحة كنيسة مار جرجس في بلدة عمارة شلهوب.
ولكن
إضافة رواية التنّين إلى سيرة القدّيس قد سبّبت بالمقابل نفورًا لدى البعض، خصوصًا
خلال "الإصلاح الكنسي" في أوروبا في القرن السادس عشر، حيث شكّك مفكّرو
هذه الحركة في الرواية ممّا دفع البعض، ومنهم "جون كالفين"، إلى رفض
سيرة حياة القدّيس بالكامل، والادّعاء أنّه لم يكن موجودًا بالمطلق.
البعد
الكتابيّ واللاهوتي للرواية
لا
بدّ من التوقّف عند هذه النقطة والإجابة على السؤال التالي: هل ضربت إضافة التنّين
مصداقيّة سيرة هذا القدّيس العظيم، أم أنّها أضافت إليها بعدًا جديدًا؟ يلخّص
المفكّر وعالم الأديان "ميرسيا الياد" دور الرموز في الإيمان كالتالي: "
التفكير الرمزي ليس حكرًا على الطفل، أو الشاعر، أو العقل المختل: إنه جوهر
الوجود الإنساني، يسبق اللغة والعقل الخطابي. يكشف الرمز عن جوانب معينة من الواقع
- أعمقها - تتحدّى أي وسيلة أخرى للمعرفة. الصور والرموز والأساطير ليست إبداعات
نفسيّة غير مسؤولة؛ إنها تستجيب لحاجة وتؤدي وظيفة، ألا وهي تسليط الضوء على خبايا
الوجود." يستعين إذًا الانسان بالرموز والصور للتعبير عن حقائق وجوديّة
بطريقة أبلغ من الكلام.
ومن
قرأ الكتاب المقدّس يدرك جيّدًا رمزيّة الوحش
والتنّين فيه. ونستند بذلك إلى مصدرين، على سبيل المثال لا الحصر، سفر دانيال
الفصل السابع، وسفر الرؤيا الفصل الثاني عشر. في الفصل السابع من سفر دانيال، يرى
النبيّ "حلمًا ورؤيا" عن أربعة حيوانات تصعد من البحر، ويصف رابعها ب “الوحش"
الذي له عشرة قرون. كما يوضح في الآية السابعة عشرة من الفصل عينه أن هذه
الحيوانات الأربعة هي أربعة ملوك. ويرى شرّاح الكتاب المقدّس أنّها رموز لأربعة
ممالك متغطرسة هم البابليّون والميديّون والفرس والإغريق. ويستعيد سفر الرؤيا
الصورة عينها للوحش الرابع فيتكلّم على "تنّين عظيم أحمر"، يحارب المرأة
التي تلد طفلها فيقاومه ميخائيل وتهزمه ملائكته. ترمز المرأة إلى مريم، وطفلها
يسوع "الذي سيحكم كلّ الأمم"، أمّا التنّين فهو إبليس الشيطان
"الحيّة العتيقة". بعد هزيمته، يُلقى التنّين إلى الأرض، فيضطهد
"الذين يحفظون وصايا الله ويثبتون في الشهادة ليسوع". في الفصل التالي
من سفر الرؤيا، يسلم التنّين هذه المهمّة لوحشٍ جديد، فيعطيه "قدرته وعرشه
وسلطانًا عظيمًا" ليتابع اضطهاد المسيحيّين. للوحش الجديد "سبعة رؤوس
وعشرة قرون، وعلى قرونه عشرة تيجان". يُجمِعِ شرّاح سفر الرؤيا على أنّ هذا
الوحش الذي يتابع رسالة التنّين هو رمز الأمبراطوريّة الرومانيّة المضطهدة
للكنيسة. فهذه المملكة تقوم مقام التنّين وتتابع رسالته بمحاربة القدّيسين أبناء
الله. وهي المسؤولة عن عشرة اضطهادات للكنيسة، استشهد فيها ما يقارب المئة ألف
مؤمن، منهم رسلٌ وتلاميذ وأساقفة وكهنة ورجال ونساء وأطفال عديدون.
استشهد
القدّيس جرجس سنة 303 بحسب التقليد، خلال الاضطهاد العاشر والأخير. وبعد استشهاده
بعشر سنين، صدر "مرسوم ميلانو" عن الأمبراطور قسطنطين الأوّل، الذي لم
يوقف الاضطهادات فقط، بل اعترف بالإيمان المسيحيّ وسمح للمسيحيّين بإقامة طقوس
العبادة والصلاة. قرأت الكنيسة الأولى انتهاء الاضطهاد، كانتصارٍ أتى ثمرةً لشهادة
القدّيسين وصلواتهم وثباتهم على الإيمان بيسوع المسيح. هو انتصار الحمل المضرّج
بالدماء في سفر الرؤيا، وصراخ "نفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله" عند
فضّ الختم الخامس. وهو انتصار جرجس ورفاقه الشهداء على التنّين، لذلك يسمّى في
التقليد الشرقيّ "جاورجيوس لابس الظفر" أي المتّشح بالنصر.
نفهم
إذًا قيمة رواية انتصار القدّيس جرجس على التنّين، وسبب إلحاقها بسيرته، كقراءة
لاهوتيّة عميقة، تنهل رموزها من الكتاب المقدّس وتاريخ الكنيسة. هي ليست رواية
للأطفال ولا نتاج خيالٍ محض، بل هي ترنيمة انتصار متجذّرة في اللاهوت المسيحيّ،
تحاكي وتناغم أناشيد النصر في الفصل التاسع عشر من سفر الرؤيا. لقد انتصر جاورجيوس
على مضطهديه على الرغم من استشهاده، شارك المسيح في موته، فشاركه المسيح في مجد
قيامته.
القدّيس
جرجس، الذي يصادف عيده في الزمن الفصحيّ قرابة عيد القيامة، جسّد بحياته واستشهاده
كلام الرسول بولس "فَإِنْ
كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ الْمَسِيحِ، نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضًا مَعَهُ." ولعلّ أجمل ما يفسّر سيرة
هذا "العظيم في الشهداء"، نقرأه في درّةٍ من التقاليد الكنسيّة الشرقيّة،
تتلى في صلاة الغروب الاحتفاليّة، ليلة تذكاره:
"يا
جاورجيوس المجيد والعظيم في الشهداء، لقد تألمت مع المخلص، وشابهت موته بموتك
الاختياري، فملكت معه لابسًا برفيرًا دمويًّا، ومزيّنًا بصولجان جهادك وممتازًا بإكليل
الغلبة على الأبد".
الخوري
بسّام بو رعد جعجع