كَسر الكلمة - العهد القديم -44- الأحد الرابع عشر من زمن العنصرة

كَسر الكلمة - العهد القديم -44- الأحد الرابع عشر من زمن العنصرة

الأحد الرابع عشر من زمن العنصرة
سفر تثنية الاشتراع: 6 / 4 -9
4 اِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد.
5 فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ وكلِّ نَفسِكَ وكلِّ قُوَّتكَ.
6 ولتكُنْ هَذه الكَلِماتُ الَّتي أَنا آمُرُكَ بِها اليَومَ في قَلبِكَ.
7 ورَدِّدْها على بَنيكَ وكلِّمْهم بِها، إِذا جَلَستَ في بَيتِكَ وإِذا مَشَيتَ في الطَّريق وإِذا نِمْتَ وقُمْتَ.
8 وٱعقِدْها عَلامةً على يَدِكَ، ولتكُنْ عَصائِبَ بَيْنَ عَينَيكَ.
9 وٱكتُبْها على دَعائِم أَبْوابِ بَيتِكَ.

مقدّمة
في هذا الأَحدِ، تُوَجِّهُ كَنيسَتُنا المارونيّةُ قُلوبَنا وَأَفكارَنا إِلى "الـمَطلوبِ الأَوحَد"، الَّذي يَبحَثُ عنهُ كَيانُنا البَشَريُّ، وَأَحيانًا كَثيرًا نتَجاهَلُهُ: "الإِصْغاءُ إِلى كَلمةِ الرَّب" أَي العَيشُ في ظِلِّ مَعْرفَتهِ. إِنَّ كَلمةَ الرَّبِ في الكِتابِ المقَدَّسِ، هيَ كلمَةٌ حَيَّةٌ، لِأَنَّها مِنْ عَملِ روحِ الرَّبِ وَعِلْمهِ، كَما يُعْلنُ بولُسُ الرَّسولِ: "وَإِنَّهَا لَفَاعِلَةٌ فيكُم، أَيُّهَا الـمُؤْمِنُون" (1 تس 2 / 13). وَيُحذِّرُنا الرّبُ يَسوعُ منْ خُطورَةِ الابْتِعادِ عَن كَلمَتهِ، "مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين!" (لو 10 / 41)، إِذْ يَحِلُّ الاضْطّرابُ وَالضّياعُ، في أُمورٍ لا تُسَاعِدُنا أَبَدًا في مَسيرَتِنا نحوَ مَطْلوبِنا الأَوحَد وَنَصيبِنا الأَفضَل. لِذا، تَقْتَرحُ ليتورجيَّتُنا لهذا الأَحد، قِراءةَ العهدِ القَديمِ، من سِفرِ تثنيةِ الاشتراع، لِتُعطِيَنا أَمثِلةً لِكَيفيَّةِ العَيشِ في ظِلِّ كَلمةِ الرَّبِ وَمَعْرِفَته، هوَ الإِلهُ الواحِد.
فَلْنَحذَرنَّ إِذًا، منَ التَّلَهّي بِأُمورٍ لا فائِدةَ منها، وَلْنَفتَح آذانَنا الخارِجيَّةَ وَالدَّاخِليَّةَ، لِنَسْمَع كَلمةَ الرَّب.

تفسير الآيات
4 اِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد.
هَذه الآيَةُ تُسَمَّى، في اللُّغةِ العِبْريَّةِ، "شِمَعْ" أَي "اِسْمَع"، وَلَيسَتِ المرَّةُ الوَحيدَةُ الَّتي يُنادِي بِها موسَى الشَّعبَ بِهذهِ الطَّريقَة (راجع تث 5 / 1 ؛ 9 / 1؛ 20 / 3). إِلاَّ أَنَّ هذهِ الآيَةُ تَختَلِفُ عَن غَيرِها، لِأَنَّ كَلِماتَها تُؤَلِّفُ الـمَرجَعَ الأَساسِيَّ وَنُقْطَةَ التَّلاقي لِكُلِّ عَملٍ وَفِكرٍ وَكَلمَةٍ، يَصْدُروا من شَعبِ الله. إِنَّ دِراسَةَ هذهِ الآيَةِ بِاللُّغةِ العِبْريَّةِ، تُظْهِرُ أَنَّها جُملَةٌ إِشْكالِيَّة، لِأَنَّ تَرْدادَ اسْمِ الرَّب "يهوه" يُسَبِّبُ الْتِباسًا في تَحديدِ أَقْسَامِها، إِلاَّ أَنَّ الهَدفَ الـمَنشُودَ مِنها واضِحٌ وَلا الْتِباسَ فيهِ وَهوَ: وَحْدانِيَّةُ الرَّب. وَهذهِ الوَحْدانِيَّةُ للرَّب، عَرفَها شَعبُ الله وَاخْتَبَرَها على مَراحِلَ: وَعدُ الرَّبِ لإِبراهيمَ، الخُروج من مِصرَ، إِعطاء الشَّريعَة، ... فَصارَ الاعْتِرافُ بِإِلَهٍ واحِدٍ سَببَ خِلافٍ معَ الشُّعوبِ الكَنعانِيَّةِ الوَثنِيَّة.
وَلأَنَّ هذهِ الآيَةُ هيَ الرَّكيزَةُ لإِيمانِ الشَّعبِ بِالرَّب، فَلا بُدَّ من فَهمِها. فَفِعلُ الأَمرِ "إِسْمَعْ" يَتوَجَّه إِلى كَيانِ الإِنسَانِ، أَيْ كُلِّ الإِنسَان، لِأَنَّهُ منَ الأُذنانِ تَدخُلُ الأَصواتُ إِلى الفكرِ وَالقَلب، فَيُعَبِّرُ الإِنسَانُ، بِأَعمالٍ وَكَلماتٍ، إِنطِلاقًا ممَّا دَخلَ في أُذُناهُ. بَعْدَ دَعوَةِ الإِصْغاءِ وَالانتِبَاهِ، يَأتي التَّعليم "إِلَهُنا رَبٌّ واحِد": صَحيحٌ أَنَّ فِكرَة وَحْدانِيَّةِ الرَّب لَم تَبّْدَأ معَ سِفرِ تثنيَةِ الاشْتِراع، إِلاَّ أَنَّ هَذا الأَخيرِ حَضَّرَ لَها، من خِلالِ إِحياءِ مَراحِلَ مَسيرَةِ الرَّبِ معَ شَعبِهِ، منذُ الخُروجِ من مِصرَ حتَّى هذا "اليَومِ" أَي يَومِ الوُصولِ إِلى حُدودِ أَرضِ الميعَاد. وَتُخَصِّصُ هذهِ الآيَةُ الرَّبَ بِشَعبِ إِسرائيلَ، إِذ هوَ رَبٌّ واحِدٌ، وَعلى إِسرائيلَ أَن يَعتَرِفَ بهِ هوَ وَحْدَهُ.

5 فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بكُلِّ قَلبكَ وكلِّ نَفسِكَ وكلِّ قُوَّتكَ.
هَذهِ الآيَةُ هيَ الوصِيَّةُ الأُولى وَالعُظْمى وَمعَها الوصِيَّةُ الثانِيَةُ الّتي تُعادِلُها، محبَّةُ القَريبِ كَالنَّفسِ (راجع متى 22 / 38). هَاتانِ الوصِيَّتانِ تَخْتَصِرانِ تَعليمَ الشَّريعَةِ وَالأَنبِياء. هَذهِ الآيَةُ تَطلُبُ منَ الشَّعبِ الإِسرائيلِيّ عِبادةً جذْرِيَّةً لِلرَّبِ الإِلَه: "من كُلّ القَلب" أَي من كُلِّ ما في أَعماقِ الإِنسَانِ، من مَشاعِرَ وَإِرادةٍ، مُيولٍ وَأَفكارٍ باطِنِيَّةٍ؛ "من كُلّ ِالنَّفس" أَي من كُلِّ حَياةِ الإِنسَان، روحِهِ وَشَخْصِهِ وَرَغَباتِهِ؛ وَ"من كُلِّ القُوَّة" وَتَعْني من كُلِّ قُدْرَةِ الإِنسَانِ على الحُبِّ، بِوَفرَةٍ وَشَجاعَةٍ. بِاخْتِصَارٍ، إِنَّ الرَّبَّ يَطلُبُ محبَّةً صادِقةً، صَافِيةً تَنبَعُ من كُلِّ كَيانِ الإِنسَانِ اليَهوديّ، من كُلِّ كَلمةٍ وَفِكرٍ وَعَملٍ، لِأَنَّهُ الشَّعبُ الَّذي اخْتارَهُ الرَّبُ وَأَحبَّهُ بِصِدقٍ وَوَفاءٍ.

6 ولتكُنْ هَذه الكَلِماتُ الَّتي أَنا آمُرُكَ بِها اليَومَ في قَلبِكَ.
إِنَّ موسَى يُوَجِّهُ هذهِ الكَلِماتِ بِلُغَةِ الأَمرِ القَاطِع، فَلا مَجالَ لِعِبادَةِ آلِهةٍ غَيرَ الإِلهِ الرَّبِ الواحِد، أَو لِمحبَّةِ الرَّبِ مَحبَّةً سَطحِيَّةً. فَالنَّبيُّ موسَى يُرَدِّدُ على مَسَامِعِ الشَّعبِ كَلماتِ هذا السِّفرِ قُبَيلَ موتِهِ، وَهوَ يَعرِفُ أَنَّ الشَّعبَ سَيُعاوِدُ الخِيانَةَ لِلرَّب، لِهذا يُشَدِّدُ على حِفظِ هذهِ الكَلماتِ في القَلبِ، مَصْدَرِ الأَفكارِ وَالمشَاعِرِ وَهوَ أَعمَق وَأَصْدَقْ مكَانٍ في الإِنسَانِ. بِهذا الطَّلَب، يَسْتَبِقُ موسَى الوصِيَّةَ الجَديدَةَ "خِتَانُ القَلب" أَي قَلبُ الشَّعبِ يَكونُ مُلكًا لِلرَّبِ وَخاصَّتَهُ (راجع تث 30 / 6؛ إر 31 / 31 - 34).

7 ورَدِّدْها على بَنيكَ وكلِّمْهم بِها، إِذا جَلَستَ في بَيتِكَ وإِذا مَشَيتَ في الطَّريق وإِذا نِمْتَ وقُمْتَ.
إِنَّ موسَى يَطلُبُ منَ الشَّعبِ أَن يَكونَ مَضْمونَ أَحاديثِهِ هَذهِ الكَلمَات، وَأَن يَحفَظَها كَوديعَةٍ وَيَنقُلها لِلأَجيالِ الآتِيَة، مُرَدِّدًا إِيَّاها بِلا مَلَل، في كُلِّ حَالٍ "جلوس وَمَشي" وَفي كُلِّ وَقتٍ "الصباح وَالمسَاء". 

8 وٱعقِدْها عَلامةً على يَدِكَ، ولتكُنْ عَصائِبَ بَيْنَ عَينَيكَ.
9 وٱكتُبْها على دَعائِم أَبْوابِ بَيتِكَ.

كَثيرٌ منَ اليَهودِ طَبَّقُوا هَاتانِ الآيَتانِ حَرفِيًّا، بِوَضْعِ كَلماتِ التَّوراةِ أَو الوَصَايا على أَيديهِم بِلَفائِفَ وَهيَ عِبارَةٌ عَن صُندوقٍ صَغيرٍ يَحتَوي عَلى آياتٍ منَ التَّوراةِ وَمُعلَّقٍ بِشَرائِطَ لِيتمَكَّن اليَهودِيّ من لَفِّهِ حولَ يَدهِ اليُمنَى. أَمَّا العَصَائِبَ بَينَ العَينَينِ وَتُسَمَّى "طُوطَفوت" وَهيَ عِبَارةٌ عن صُندوقٍ صَغيرٍ أَيضًا، يُلَفُّ حَولَ الرّأسِ. وَهَذهِ الطُّرُق المادِيَّة هيَ عَلامَةٌ حِسّيَةٌ لِليَهوديِّ لِكَي يَتذكَّر كَلماتِ التَّوراةِ في كُلِّ وَقتٍ وَمكانٍ وَحَال.
كَما أَنَّ كَلماتِ التَّوراةِ وُضِعَت أَيضًا على دَعائِمِ أَبوابِ البُيوتِ اليَهودِيَّة وَتُسَمَّى "مِزوزُوت" وَتَأخُذُ أَشْكالًا عَديدَةً، كَالسِّفرِ الصَّغيرِ وَغيرِه. وُضِعَت هذهِ الـمِزوزُوت لِتَكونَ بَركةً لِلبَيتِ وَلِكُلِّ داخِلٍ إِلَيهِ أَو خارِجٍ مِنهُ، بِالإِضَافة إِلى عَلامَةٍ تُذَكِّرُ اليَهودِيّ بِالشَّريعَة وَبِانتِمائِهِ لِلرَّبِ الإِلَهِ الواحِد.
أَمَّا القَصْدُ الكِتابِيُّ لِهَاتانِ الآيَتانِ، هوَ أَن يَقومَ اليَهوديُّ بِأَعمالِهِ إِنطِلاقًا من كَلماتِ الشَّريعَةِ، وَأَن يَنظُرَ بِصَفاءٍ وَنقَاءٍ وَبمحبَّةٍ لِلخَليقَةِ على مِثالِ نَظرَةِ الرَّبِ لِخَليقَتِهِ. أَمَّا "مِزوزُوت" فَهيَ لِبَرَكَةِ البَيتِ وَلِلتَّذكُّر بِأَنَّ مَهمَّةَ ربِّ البَيتِ هيَ تَعليمُ التَّوراةِ لِبَنيهِ وَلأَفرادِ عائِلَتِهِ.

خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
هَذهِ القِراءَةُ تُظهِرُ بِوضوحٍ قَصْدَ الرَّبِ يَسوعَ بِقَولِهِ لِـمَرتا: "الـمَطْلوبُ الأَوحَد". فَهوَ أَن يَكونَ الرَّبُ مِحوَرَ حَياةِ الإِنسَانِ وَاهتِمامِهِ. فَحُضورُهُ يَجْذِبُ الإِنسَان، كَما جَذَبَ مَريَمَ، فَجلَسَت على قَدَمَيهِ تُصْغي.
تُرَكِّزُ بِدايَةُ القِراءَةِ على "السَّماع" أَو الإِصْغاء وَهوَ الطَّريقَةُ الوَحيدَةُ الَّتي تَقْدِرُ أَن تُوصِلَ كَلِماتِ الرَّب إِلى القَلب. وَالإِصْغاءُ يَتطَلَّبُ الصَّمت وَالسَّلام وَهذا تَحَدٍّ كَبيرٍ يُواجِهُنا في هذهِ الأَزمِنَةِ الصِّعْبَةِ، فيها يَبحَثُ النَّاسُ عَن الأُمورِ المادِيَّةِ الضَّروريّةِ لِلعَيشِ، بِسَببِ الجوعِ وَالأَمراضِ وَالفَقرِ وَالبَطَالَة.
وَتُشَدِّدُ على تَكرارِ كَلماتِ الشَّريعَةِ، وَهذا ما يُمارِسُهُ المكَرَّسونَ في حَياتِهِم داخِلَ جُدرانِ الأَديارِ، أَو بينَ النَّاسِ وَهوَ ما نُسَمِّيهِ "صَلاةُ القَلب"، وَهيَ تَردادٌ عَميقٌ وَصَامِتٌ وَمُثابِرٌ لِآياتٍ كِتابيَّةٍ، تُسَاعِدُ الإِنسَان على تَنقِيَةِ القَلبِ وَالنَّظرِ وَالحَواسِ، وَعلى التَّأَمُّلِ المسْتَمرِّ في الرَّب وَاخْتِبارِ سرِّ مَعرِفَتهِ. فَلْنُحِبّ الرَّبَ هكذا، من كُلِّ قَلبِنا وَنَفسِنا وَقوَّتِنا.


تحميل المنشور