الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2023-05-12
2 أَنا اليَومَ ٱبنُ مِئَةٍ وعِشْرينَ سَنَة، فلم أَعُدْ أَستَطيعُ الخُروجَ والدُّخول، وقد قالَ ليَ الرَّبّ: إِنَّكَ لن تَعبرَ هذا الأردُنّ.
يُعلِنُ موسَى نِهَايَةَ مَهمَّتهِ كَقائِدٍ لِلشَّعبِ، فَهو صَارَ شَيخًا كَهلاً وَهِمَّتُهُ صَارَت ضَعيفَةً. إِنَّ عَددَ سِني حَياةِ موسَى تَدُلُّ عَلى بَركَةِ الرَّبِّ لَهُ في كَثرَةِ الأيّامِ وَالسِّنين. وَيَتذكَّرُ موسَى، وَهوَ عَلى حُدودِ أَرضِ الميعَادِ، خَطيئَتهُ الّتي حَرَمَتهُ من دُخولِ هذهِ الأَرضَ التي وَعدَ الرَّبُ بِإِعطائِها لِلشَّعبِ، بعدَ تَحريرِهِ من مِصرَ، فقَد غَضِبَ الرَّبُ على موسَى بِسَببِ الشَّعبِ القَاسي الرِّقَاب: "وَعليَّ أَيضًا غَضِبَ الرَّبُ بِسَبَبِكُم فقَال: وَأَنتَ أيضًا لَن تَدخُلَها" (تث 1 / 37؛ 3 / 27؛ 4 / 21 – 22؛ 32 / 51 – 52؛ عد 20 / 2 - 12). فَكَانَ عَلى موسَى، أَن يَتحمَّلَ عِبْءَ خَطيئَةِ الجيلِ الأَوَّلِ، الَّذي حَرَّرهُ من عُبودِيَّةِ فِرعَونَ بِأَمرِ الرَّبِ، وَالَّذي عَصَى أَوامِرَ الرَّبِ وَثَرثَرَ عَلَيهِ. فَهوَ معَ الجِيلِ الّذي ماتَ في البريَّةِ، لَن يَدخُلَ أَرضَ الـمِيعَادِ، بَل يُدفَنُ جُثْمانُهُ في الغُرْبَةِ معَ هؤُلاء. أَمَّا الجِيلُ الجَديدُ الَّذي وُلِدَ في الصَّحراءِ، يَشهَدُ على مُعجِزاتِ الرَّبِ وَيُؤمِنُ بهِ، وَهوَ الّذي سَيَدخُلُ الأَرضَ وَيَرِثُها.
3 فالرَّبُّ إِلهُكَ يَعبُرُ أَمامَكَ، وهو يُبيدُ تِلكَ الأُمَمَ مِن أَمامِكَ فتَرِثُها، ويَشوعُ هو يَعبُرُ أَمامَكَ، كما قالَ الرَّبّ.
6 فتَشَدَّدوا وتَشَجَّعوا ولا تَخافوا ولا تَرتَعِدوا أَمامَها، فإِنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هو السّائِرُ معَكَ ولا يهمِلُكَ ولا يَترُكُكَ.
يُذَكِّرُ موسَى الشَّعبَ بِأنَّ الرَّبَ هوَ القَائِدُ الأَوّلُ لِلشَّعبِ، فَهوَ الّذي سَيُدخِلُهم إِلى الأرضِ الـمَوعودَةِ، وَهوَ يَسيرُ في مَقَدِّمَتِهم كمَا سَبقَ وَأَخرَجَهُم من أَرضِ مِصرَ وَحرَّرَهُم من فِرعَونَ. هوَ الَّذي سَيُبيدُ الأُمَمَ أَعداءَهُم من أَمَامِهِم وَيُهيِّءُ لَهم الأَرضَ ميراثًا. وَسَيَقودُ الشَّعبَ إِلى دَاخِلِ أَرضِ الميعَادِ، يَشوعَ بِن نونٍ الَّذي سَيَتسَلَّمَ القِيَادةَ من موسَى بِأَمرِ الرَّبّ (تث 1 / 37 - 38).
الآيَةُ 6 التَّشجيعيَّةُ لِلشَّعبِ سَيُعيدُها موسَى على مَسَامِعِ يَشوعَ وَحدَهُ، في الآيَاتِ اللاّحِقَة. كمَا نُلاحِظُ، القِسمَانِ اللَّذَانِ يُؤَلِّفَانِ الآيَةَ، القِسمُ الأَوَّلُ وَصِيَّةُ موسَى للشَّعبِ وَالقِسمُ الثّاني تَذكيرٌ بِعِنايَةِ الرَّبِّ لَهُم الّتي لا تَتغيَّر وَلا تَنقُص، رَغمَ خطَاياهُم الكَثيرَة وَالـمُتكَرِّرَة. فَعَلى الشَّعبِ أَن يَقُومَ بِعَملِهِ وَيَترُك الرَّبَ يَعمَلُ عمَلهُ. يُحذِّرُ موسَى الشَّعبَ منِ الخَوفِ وَالارتِعاد في وَجهِ الشُّعوبِ الغَريبَة، لِأنَّ الرَّبَ سَائِرٌ في الـمُقدَّمَةِ لِيَحميهِم. لِأَنَّهُ، لَطَالَما كَانَ الخَوفُ سَبَبًا أَساسيًّا لِوقوعِهم في الخَطيئَةِ وَالارتِدَادِ عن طَاعَةِ الرَّبّ، وَهلاكِ قِسمٍ كَبيرٍ منَ الشَّعب! (راجع تث 1 / 29 - 46).
7 ثُمَّ دعا موسى يَشوعَ وقالَ لَه أَمامَ عُيونِ إسْرائيلَ كُلِّه:تشَدَّدْ وتَشَجَّعْ، فإنَّك أَنتَ تُدخِلُ هذا الشَّعبَ الأَرضَ الَّتي أَقَسَمَ الرَّبُّ لآبائِهم أَن يُعطِيَهمِ إيَّاها، وأنت تورثُهم إيَّاها.
8 والرَّبُّ هو السّائِرُ أماَمَكَ، وهو يَكوَن معَكَ ولا يُهمِلُكَ ولا يَترُكُكَ، فلا تَخفْ ولا تَفزَعْ.
وَصِيّةُ موسَى لِيَشوعَ القَائِدَ الجَديد، تُشبِهُ وَصيَّتهُ لِلشَّعب. وَيُحَذِّرُهُ منَ الخَوفِ وَالفَزَع لِأَنَّهُما نُقطَةُ ضُعفِ الكَثيرينَ من مُلوكِ إِسرائيلَ، في وُجوهِ أَعدائِهِم. فَالثِّقَةُ بِالرَّبِ أَساسيَّةٌ لِلقَائِدِ، حينَئذٍ يَسكُنُ الشَّعبُ بِسلامٍ وَطمَأنينَة، كَما كَانَ طيلَةَ أَيَّامِ يَشوعَ بِن نُون (راجع سفر يشوع).
9 وكَتَبَ موسى هذه الشَّريعة، وسَلَّمَها إِلى الكَهَنَةِ بَني لاوي، حامِلي تابوتِ عَهْدِ الرَّبِّ، وسائِرِ شيوخ إسْرائيل.
في هَذهِ الآيَةِ إِعلانٌ لِوَضعِ كَلماتِ الشَّريعَةِ الَّتي وَضَعها الرَّبُ على فَمِ موسَى عَبدِهِ مُنذُ بِدايَةِ سِفرِ التَّثنِيَة (راجِع تث 1 / 1 – 3؛ خر 24 / 4؛ تث 1 - 30). فَكُلُّ مَا تَكلَّمَ بهِ موسَى، كَما أَمَرهُ الرَّبُ، منذُ الفَصلِ الأَوَّل من هَذا السِّفرِ وَلِغَايَةِ الفصل 30، وَهو مُجتَمعٌ معَ بني إِسرائيلَ كُلِّهم في البرّيَّةِ، في عِبرِ الأُردُنِّ، وَضَعهُ كِتابَةً، لِيُثبِتَ الكَلامَ فَلا يَزيدَ عَليهِ أَحدٌ وَلا يُغيِّر.
مِنَ الآنَ فَصاعِدًا، أَي بَعدَ موتِ موسَى، الَّذي كَانَ الوَسيطَ بينَ الرَّبِ وَشَعبِهِ، سَتَكونُ مُنذُ الآنَ الشَّريعةُ، الوَسيطَ الجَديدَ أَي الكَلِمةُ الـمَكتوبَةُ. وَسَلَّمها موسَى إِلى اللاَّويِّينَ الكَهنَةِ خَادِمي تَابوتِ العَهدِ وَإِلى شُيوخِ إِسرائِيلَ، دَاعِيًا إِيَّاهُم لا فقَط لِخِدمَةِ الكَهنوتِ وَالقَضَاءِ بينَ الشَّعبِ، بَل أَيضًا، لِحِفظِ كَلمَةِ الرَّبِ وَتَعليمِها لِلشَّعبِ وَالعَيشِ بِحَسَبِ تَعليمِها.
وَسِفرُ الـمُلوكِ يُروِي لنَا حَدَثًا تاريخيًّا عن حَدَثِ كِتابَةِ كَلماتِ موسَى في سِفرٍ، سُمِّيَ كِتابُ العَهدِ أَو تَثنيَةُ الاشْتِراع أو سِفرُ الشَّريعَة (2مل 22): فَفي عَهدِ الـمَلكِ يوشِيَّا، سنة 622، عَثرَ عَظيمُ الكَهنَةِ حِلقِيَّا، في هَيكَلِ أُورَشَليمَ، على سِفرِ الشَّريعَةِ وَأَمرَ الـمَلِكُ أَن تُتلَى كَلِماتُهُ على كُلِّ الشَّعب، وَأَن يَبدَأُوا بِمشروعِ إِصلاحٍ دينيٍّ، بِحسَبِ كَلماتِ الشَّريعَة (2مل 22 - 23).
هَذهِ الشَّريعَةُ شَهِدَت لِلرَّبِ يَسوعَ الـمَسيحِ، الَّذي أَتَى لِيُكمِّلَها وَيُعطيهَا مَعناهَا الصَّحيح، لا لِيَنقُضَها أَو يَرفِضَها (راجع متى 5 / 17 – 19؛ 13 / 51 – 52؛ مر 7 / 1 – 13). فَكَم مِنْ مَرَّةٍ اسْتَشهَدَ بِالوَصَايا وَرَدَّ لها مَعنَاها الصَّحيحَ، بَعدَما شَوَّهَهُ الفَرّيسيونَ وَعُلَماءُ التَّوراةِ بِتَعالِيمِهم الجَافَّةِ وَالقَاسِيَة! (راجع متى 5 / 20 - 48). "لأَنَّ غَايَةَ الشَريعَةِ إِنَّمَا هِيَ الـمَسِيح، لِكَي يَتَبَرَّرَ بِهِ كُلُّ مُؤْمِن. وقَدْ كَتَبَ مُوسَى عَنِ البِرِّ الَّذي هُوَ مِنَ الشَرِيعَةِ فَقَال: «مَنْ يَعْمَلُ بِأَحْكَامِ الشَريعَةِ يَحْيَا بِهَا» (روم 10 / 4 - 5).