الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2023-04-07
2 فصَلَّى يونانُ إِلى الرَّبِّ إِلهِه مِن جَوفِ الحوتِ،
وَمن دَاخِلِ الحُوتِ، صَلَّى يُونانُ إلى الرَّبّ. إِنَّ جَوفَ الحوتِ هوَ رمزٌ لِلقَبْرِ وَالظُّلمةِ، فَيونانُ النّبيُّ كَانَ على قَيدِ الحَيَاةِ في مَكَانِ الـمَوت. إِنَّ في هَذهِ الآيَةِ رَمزيَّةُ الرَّبِّ يسوعَ الحَيِّ في قَعرِ الجَحيمِ. فَالحَيَاةُ أَقوَى منَ الـمَوتِ، لِـمَنْ يُؤمِن بِالرَّبّ. رَفَعَ يونَانُ صَلاتَهُ في جَوفِ الحُوتِ، فَتحَوَّلَ مَكَانُ الـمَوتِ إِلى مَكَانٍ فَاضَت فيهِ الحَياةُ وَالإِيمانُ بِالرَّبِّ الإِلَه. وَالرَّبُّ يَسوعُ ابْنُ اللهِ، صَدَّعَ بِـمَوتِهِ أَبوابَ الجَحيمِ لِلأَبَدِ وَحَوَّلَ ظُلمَتَها إِلى نورٍ وَشَوكَتَها القَاتِلَةَ إِلى حَيَاة، "لأَنَّهُ لا بُدَّ لِلمَسِيحِ أَنْ يَمْلِك، إِلى أَنْ يَجْعَلَ الله جَمِيعَ أَعْدَائِهِ تَحْتَ قَدَمَيه. وآخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الـمَوت" (1قور 15 / 25 - 26).
3 وقال: إِلى الرَّبِّ صَرَختُ في ضيقي فأَجابَني، مِن جَوفِ مَثوى الأَمواتِ ٱستَغَثتُ فسَمِعتَ صَوتي
4ب جَميعُ مِياهِكَ وأَمواجِكَ جازَت عَليَّ.
إِنَّ صَلاةَ النَّبيِّ هيَ نَشيدٌ مُركَّبٌ من عِدَّةِ مَزاميرٍ، إِنَّهُ فُسَيفَسَاءٌ مُقتَبَسةٌ من مَجموعَةِ أَناشِيدِ الحَمدِ، لِأَنَّ يونانَ يُقدِّمُ فِعلَ شُكرِهِ لِلرَّبّ الَّذي نجَّاهُ منَ الـمَوتِ في قَلبِ البَحرِ وَفي جَوفِ الحُوت. تَتألَّفُ هذهِ الصّلاةُ من حَرَكَتَينِ: الطَّلَب (صرختُ، استَغَثتُ) وَالاسْتِجَابةُ (فأَجابَني، فَسَمعتَ صَوتي) وَعلى هذا النَّحو تُبنَى كُلُّ الصّلاة حتّى الآيةِ 8. إِنَّ يونانَ النّبيُّ شَخصيَّةٌ عَجيبَةٌ، يَنذَهِلُ أَمامَها القَارئُ وَيَتسَاءَل: لِماذا يَشكُرُ يونانُ الرَّبَّ لأَنّه أَنقَذهُ، في حينِ أَنَّهُ كانَ يُحاولُ الهَربَ منهُ وَمنَ المسؤُولِيَّةِ التي اختارَهُ لَها؟ إِنَّهُ شخصيَّةٌ مُتقلِّبَةٌ في أَفكارِها وَغيرُ مَفهومَةٍ، يَراها البَعضُ صورَةً حيَّةً عن الحَالةِ النَّفسيّةِ الـمُتقلِّبَةِ بينَ الرَّفضِ وَالقَبول وَعن الصِّراع الدّاخليّ الذي يَعيشُه الأنبياءُ معَ رِسالةِ الرَّبّ الـمَوكولَةِ إليهم.
يُصلِّي يونانُ مِن "مَثوَى الأَمْواتِ"، بَيدَ أَنَّهُ لَم يَبلُغَهُ بَل كَانَ في جَوفِ الحُوتِ كَـمَن في سَفينَةٍ. هَذهِ العِبَارَةُ تَدُلُّ على مكَانِ الـمَوتِ الَّذي تَصَوَّرَتهُ الدّيانَاتُ القَديمَةُ كَنَفقٍ مُظلِمٍ تَعبُرُ فيهِ النَّفسُ من بابٍ (راجع أي 17 / 16؛ 38 / 17؛ مز 30 / 2 – 3؛ 120 / 1؛ 130 / 1؛ مرا 30/ 55).
رَمزيَّةُ مُكوثِ يونانَ في جَوفِ الحُوتِ، إِنسَانًا حَيًّا في جَوفِ الـمَوتِ، تَحقَّقَتِ في دُخولِ الرَّبِّ يسوعَ إلى "مثوى الأَمواتِ" حَيًّا، ظَافِرًا على الموتِ، فَحقَّقَ الخَلاصَ لِلـمَوتى الـمُؤمِنينَ وَحطَّمَ أَبوابَ الجَحيمِ: "فَأَينَ سُلطَانُكَ يا مَوتُ؟ وَأَينَ شَوكَتُكِ يا جَحيم؟" (1قور 15 / 55).
أَمَّا الآيةُ 4 فهيَ مَأخوذَةٌ من المزمور 42/ 8: "كمَا يشتاقُ الأيِّلُ" وَهوَ مزمورُ حَمدٍ للرَّبِّ على خلاصِهِ، يَرفَعُهُ الـمُصلِّي من أَرضِ مَنفَاهُ وَمن أَسَى العُبودِيَّةِ وَالسَّبي.
5 فقُلتُ: إِنِّي طُرِدتُ مِن أَمامِ عَينَيكَ لكِنِّي سأَعودُ أَنظُرُ هَيكَلَ قُدسِكَ.
يَتذكَّرُ يونانُ في صَلاتِهِ زمَنَ السَّبي وَالشَّوقَ إِلى أُورشَليمَ وَهيكَلِها (راجع مز 5 / 8). فَهوَ بِغُربَتهِ هذِهِ عن أَرضِهِ في سَبيلِ رِسَالَتِهِ من أَجلِ خلاصِ سُكَّانِ نينَوى الوثَنيِّينَ، يَشعُرُ بِالخِيَانَةِ. إِذ كَيفَ يَترُكُ شَعبَ اللهِ الـمُختارِ لِيَذهَبَ إِلى الأُمَمِ؟ أَمَّا الرَّبُ فَيُريدُ خلاصَ الجَميعِ، لا فَرقَ عِندَهُ بينَ يَهوديٍّ وَوَثنيّ. يونانُ مَدعوٌّ للانْفِتاحِ على مَنطِقِ الرَّبّ الَّذي يَتعالَى على الشَّريعَةِ وَالحَرف.
7 نَزَلتُ إِلى أُصولِ الجِبال إِلى أَرضٍ أُغلِقَت علَيَّ مزاليجُها لِلأَبَد لكِنَّكَ أَصعَدتَ حَياتي مِنَ الهُوَّة أَيُّها الرَّبُّ إِلهي.
8 عِندَما غُشِيَ على نَفْسي تَذَكَّرتُ الرَّبَّ فبَلَغَت إِلَيكَ صلاتي إِلى هَيكَلِ قُدسِكَ.
أُصولُ الجِبالِ كَانت رَمزًا إلى قَعرِ البَحرِ، كَما كَانوا يَعتَقِدونَ في تِلكَ الأيَّام. فَالبَحرُ كَانَ يُعتَبَرُ الأَسَاسُ الذي تَرتَكِزُ عَليهِ الأَرضُ. إِنَّ الاخْتِبَارَ الَّذي يَمرُّ بِهِ النَّبيُّ يونَانُ صَعبٌ، إِذ يَطلُبُ منهُ الرَّبُ أَن يَمرَّ في الـمَوتِ لِيَصعَدَ منهُ إلى الحَياة. وَهوَ في جَوفِ الحُوتِ ثلاثَةَ أَيَّامٍ وَثلاثَ لَيالٍ، مُعرَّضٌ لِلـمَوتِ في كلِّ حينٍ، وَلكنَّ الرَّبَ يَحفَظُهُ لِيَرُدَّهُ سالِـمًا. لِهذا السَّبَبِ تَأتي صَلاتُهُ بِهذا الشَّكلِ، فَتبدَأُ بِانْحِدارٍ وَمن ثمَّ تَرتَفِع (صرختُ، فَأجابَني؛ استَغثتُ، فَسمِعَ صوتي؛ طُرِدتُ، سَأَعود؛ نزلتُ، أَصعَدتَ؛ غَشيَ على نَفسي، بَلَغَت إليكَ صلاتي)، فَتُظهِرُ صِراعَهُ الدَّاخليّ بينَ الشَّكِّ وَالإِيمان.
في الآيةِ 8، يَتذكَّرُ يونانُ من جَديدٍ هَيكَلَ الرَّبّ في أُورَشَليمَ، إِصرارًا منهُ على أَنَّ الخَلاصَ هوَ لِليَهودِ، شَعبِ الله الـمُختارِ. أَمَّا الرَّبُّ فَيُريدُ خلاصَ جَميعِ أَبنائِهِ.
9 إِنَّ الَّذينَ يَعبُدونَ أَوثانَ الباطِل فلْيَكُفُّوا عن عِبادَتِهم.
10 أَمَّا أَنا فبِصَوتِ شُكرٍ أَذبَحُ لَكَ وما نَذَرتُه أُوفي بِه. مِنَ الرَّبِّ الخَلاص!
يَتوجَّهُ يونانُ في الآيةِ 9، إِلى شَعبِ نينَوى الوَثنيِّ دَاعِيًا إِيَّاهُم لِلتَّوبَةِ. إِنَّهُ في دُعَائِهِ هذا، يُعلِنُ انفِتاحَ قَلْبِهِ على خَلاصِ الشُّعوبِ الوَثنيَّةِ، فَيَقبَلُ بِهذا دَعوَةَ الرَّبِّ لهُ كَرسولِ الأُمَم لِيُعلِنَ لهم اسْمَ الرَّبِّ وَالتَّوبَةَ وَالخَلاص. أَمَّا الآيَةُ الأخيرةُ، فَهيَ مُركَّبةٌ من المزامير 22 / 26؛ 3 / 9، وَتُعلِنُ إِيمانَ النَّبيِّ بِالرَّبّ فَيُقدِّمُ لهُ ذبيحةَ شُكرٍ وَيُوفي نُذورَهُ.
11 فأَمَرَ الرَّبُّ الحوتَ، فقَذَفَ يونانَ إِلى اليابِسَة.
عِندَمَا انتَصَرَ يُونانُ عَلى ذَاتِهِ الـمُتمرِّدَةِ على اللهِ وَعلى رَحْمَتهِ لِجَميعِ الشُّعوبِ بِدونِ تَميِيزٍ، أَطلَقَهُ الرَّبُّ من جَديدٍ إِلى الرِّسَالَةِ، آمِرًا الحُوتَ بِقَذْفِهِ إلى سَاحَةِ الرِّسَالةِ وَالـمُغامَرةِ وَالحَيَاة. مِنَ البَحْرِ الَّذي يَرمُزُ إِلى الشَّرّ، بِحَسَبِ التَّقَاليدِ القَديمَةِ، انتَقَلَ يُونانُ إلى اليَابِسَةِ حَيثُ يَنتَظِرهُ الرَّبُ لِيُرسِلَهُ في مَهمَّةِ الخَيرِ وَالخَلاصِ.