أحد شِفاء الـمُخلَّع
سفر أشعيا: 35 / 1 – 6 + 8 + 9ب - 10
1 لِتَفرَحِ البَرِّيَّةُ والقَفْر ولْتَبتَهِجِ الباديَةُ وتُزهِرْ كالنَّرجِس،
2 لِتُزهِرْ أزْهارًا وتَبتَهجِ ٱبتهاجًا مع هُتاف. قد أُتِيَت مَجدَ لبْنان وبَهاءَ الكَرمَلِ والشَّارون فهم يَرَونَ مَجدَ الرَّبِّ وبَهاءَ إِلهِنا.
3 قَوُّوا الأَيدِيَ المُستَرخِيَة وشَدِّدوا الرُّكَبَ الواهِنَة.
4 قولوا لِفَزِعي القُلوب: «تَقَوَّوا ولا تَخافوا هُوَذا إلهُكم النَّقمَةُ آتِيَة هذه مُكافَأَةُ الله هو يَأتي فيُخَلِّصُكم».
5 حينَئِذ تتَفتَّحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح
6 وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكَم فقَدِ ٱنفَجَرَتِ المِياهُ في البَرِّيَّة والأَنْهارُ في البادِيَة.
8 ويَكونُ هُناكَ مَسلَكٌ وطَريقٌ يُقالُ لَه الطَّريقُ المُقَدَّس لا يَعبُرُ فيه نَجِس بل إِنَّما هو لَهم. من سَلَكَ هذا الطَّريق حتَّى الجُهَّال لا يَضِلّ.
9ب بل يَسيرُ فيه المُخَلَّصون
10 والَّذينَ فَداهُمُ الرَّبُّ يَرجِعون ويَأتونَ إِلى صِهْيونَ بِهُتاف ويَكونُ على رُؤُوسِهم فَرَحٌ أَبَدِيّ وُيرافِقُهمُ السُّرورُ والفَرَح وتَنهَزِمُ عَنهمُ الحَسرَةُ والتَأَوُّه.مقدّمة
معَ أَحدَ شِفاءِ الـمُخلَّعِ، نَدخُلُ في أُسبوعِ العَجَائِبِ الأَوَّلِ من زَمَنِ الصَّوم ِالكَبير، وَهوَ يُعْلِنُ بِدايةَ القِسمِ الثَّاني من هَذا الزَّمَن. في هذا الأَحدِ، يُعتَلَنُ يسوعُ أَنَّهُ ابنُ اللهُ وَأَنَّهُ قَادِرٌ، كَونَهُ الله، أَن يَغفِرَ الخَطَايَا لِأَنَّ سُلطَانَهُ مُطلَقٌ. فَهوَ قَادِرٌ أَن يَشفي الأَمراضَ الجَسَدِيَّةَ كَما رَأَينا في الأَسابيعِ السَّابِقَة، وَأَيضًا الأَمْراضَ النَّفسيَّةَ الدَّاخِليَّةَ، إِذ يَقولُ لِلـمُخلَّعِ شَافِيًا عِلَّتهُ: " يَا ابْني، مَغْفُورَةٌ لَكَ خطَايَاك!" (مر 2 / 5).
إِلى جَانِبِ مُعجِزَةِ شِفاءِ الـمُخلَّعِ، تَخْتارُ كَنيسَتُنا نُبوءَةَ النَّبيّ أَشعيا الَّتي تُعلِنُ تَحَوُّلاً جَذرِيًّا في الطَّبيعَةِ وَالإِنسَان، بِنَصٍّ شِعرِيّ. إِنَّ مُعجِزَةَ مَغفِرَةِ الخَطَايا قَادِرةٌ حقًّا أَن تُحَوِّلَ وَتُجَدِّدَ القِوَى وَالحَياة وَتَزرَعَ السَّلامَ وَالفَرحَ، في كُلِّ شيءٍ، وفي كُلِّ الخَليقَةِ، في الكَائِناتِ الحيَّةِ وَالأُخرَى الجَامِدَة.
تفسير الآيات
1 لِتَفرَحِ البَرِّيَّةُ والقَفْر ولْتَبتَهِجِ الباديَةُ وتُزهِرْ كالنَّرجِس،
2 لِتُزهِرْ أزْهارًا وتَبتَهجِ ٱبتهاجًا مع هُتاف. قد أُوتِيَت مَجدَ لبْنان وبَهاءَ الكَرمَلِ والشَّارون فهم يَرَونَ مَجدَ الرَّبِّ وبَهاءَ إِلهِنا.تَبْدَأُ النُّبوءَةُ-النَّشيدُ بِصَرخَةِ فرحٍ وَبِصيغَةِ الأَمرِ غَيرِ الـمُبَاشَر. وَكَأَنَّ الآمِرَ بِالفَرحِ وَالبَهجَةِ يُنَادي مِن بَعيدٍ، إِذِ الخَلاصُ آتٍ وَلَكِنَّهُ لَم يَحِنْ وَقتَهُ بَعدُ (هَذِهِ الصّيغَةُ نَجِدُها في التَّرجَمةِ اليونانِيّة – السَّبعينِيَّةِ لِلنَّصّ، أَمَّا النَّصّ العِبرِيّ فَيَسْتَعمِلُ صيغةً مُختَلِفةً للأَفعال وَهي الـمُضَارِع). وَيَدعُو النَّبيُّ البَريَّةَ وَالقَفرَ وَالبَادِيَةَ لِلفَرَحِ وَالبَهجَةِ وَلِإِثمارِ الحَياةِ وَالجَمَالِ، بَعدَما كانَ يُعلِنُ العَكْسَ في الفَصلِ 33. لِأَنَّ بَعدَ كُلِّ ضيقٍ وَشِدَّةٍ يَحِلُّ الفَرحُ وَالسَّلام. كَتبَ أَشعيا سِفرَهُ حينَ كانَ الشَّعبُ اليَهودِيُّ مَسبيًّا وَمُضطَّهدًا من الأَشورِيّينَ في بابِل. وَفي هذِهِ النُّبوءَة، يَدعو الشَّعبَ للإِيمانِ وَالرَّجاءِ بِخلاصِ الرَّبّ الحَتمِيِّ بَعدَ سِني الضِّيقِ وَالاضطِّهَادِ وَالعُبودِيَّةِ. أَلفَرحُ الـمَدعُوَّةُ إِلَيهِ الطَّبيعَةُ، هوَ فرَحُ تَجْديدِ الخَليقَةِ بِجَمالِهَا وَبَهائِها. حتَّى الطَّبيعَةَ، سَتُشَارِكُ وَسَتَنعَمُ بِيَومِ الخَلاص، بَعْدَما قَاسَت كَالإِنسَانِ العَذابَ وَالاضطِّهَاد.
نَتَسَاءَلُ في هَاتَينِ الآيَتَينِ عَن قَصْدِ النَّبِيِّ، بِتَوجِيهِ أَمرِ الفَرحِ إِلى الـمَواقِعِ الـمُقفِرَةِ. فَالبَريَّةُ وَالقَفرُ وَالبَادِيَةُ هيَ أَمَاكِنٌ مَشَى فيها إِسرائيلُ أَربَعينَ سنَةً، حيثُ لا مَاءَ وَلا طَعَامَ، لا نَبَاتَ وَلا عَلامَةً لِلحَياةِ، وَأَعَادَ هَذا الاخْتِبَارِ أَيضًا في بَابِل: "نَاحَتِ الأَرضُ وَذَبُلَت، وَخَجِلَ لُبنانُ وَذَوَى، وَصَارَ الشَّارونُ كَالقَفرِ، وَارتَعَدَ بَاشَانُ وَالكَرمَل" (أش 33 / 9). إِلاَّ أَنَّ الرَّبَّ كَانَ حَاضِرًا معَ شَعبِهِ في بِلادِ السَّبي، وَكَانَ يُرافِقُهُ في الـمَسيرِ الشَّاقّ. أَلـمُرادُ إِذًا من هَذِهِ الصُّورَةُ، أَنَّ خَلاصَ الرَّبِّ سَيُعْتَلَنُ مِن خِلالِ أَعمَالِ يَدَيهِ لا بِأَعمَالِ البَشَر. فَهوَ قَادِرٌ أَن يَجعَلَ البَريَّةَ وَالبَادِيَةَ تُزهِرانِ حَقًّا، كَجِبالِ لُبنَانَ وَالكَرمَلِ وَالشَّارون الَّتي امتازَت في تِلكَ الأَيَّامِ بِالخِصْبِ وَجَمالِ طَبيعَتِها. وَكَأَنَّ النُّبوءَةَ تَصِفُ خُروجَ الشَّعبِ اليَهودِيّ القَريبِ مِن بَابِلَ، دِيارِ العُبودِيَّةِ. فَالرَّبُّ سَيَجعَلُ الطَّبيعَةَ تَفْرَحُ وَأَماكِنَها الـمُقْفِرَةَ تُزهِرُ، فَتُشَارِكُ الخَليقَةُ الإِنسَانَ، فَرحَ الخَلاصِ وَمَجدَ الرَّبّ.
وَيَخْتُمُ النّبيُّ دَعوَةَ الطَّبيعَةِ لِلفَرحِ بِجُملةٍ في صيغَةٍ مُختَلِفةٍ "... فهُم يَرونَ مجدَ الرَّب وَبَهاءَ إِلَهِنا"، مَنْ هُم هؤُلاء؟ إِنَّهُم الَّذينَ يَسْتَطيعُونَ أَن يَسْتَشِفُّوا مَجدَ الرَّبّ من خِلالِ أَعمَالِهِ وَخَليقَتِهِ، إِنّهُم الَّذينِ يَعرِفونَ الرَّبّ أَي شَعبَهُ. إِنَّهُم هُم القَادِرونَ أَن يَرَوا مَجدَ الرَّبّ العَامِلِ في الصَّغَائِرِ، فَيولَدُ الرَّجاءُ في قُلوبِهِم في وَسَطِ الشَّدائِدِ وَالضِّيقَات، لِأَنَّهم يَرَونَ في عُيونِهم الخَارِجيَّةِ أَعمَالَهُ وَيُدرِكونَ في قُلوبِهِم أَنَّهُ حَاضِرٌ وَقَريب.إِنَّهم إِسرائيلُ الـمُحَرَّرُ من بَابِلَ.
3 قَوُّوا الأَيدِيَ المُستَرخِيَة وشَدِّدوا الرُّكَبَ الواهِنَة.
يَنْتَقِلُ النَّبيُّ من صِيغَةِ الأَمرِ غَيرِ الـمُبَاشَرِ إِلى صِيغَةِ الأَمرِ الـمُبَاشَر، مُوَجِّهًا الدَّعْوةَ الآنَ، إِلى شَعبِ إِسرائِيلَ الـمَنْكوبَ، فَيُشَجِّعَهُ عَلى حُبِّ الحَياةِ وَالرَّجَاء. فَأَيْدِيَهُم أُصِيبَتْ بِالضَّعفِ وَرُكَبهُم بِالوَهْنِ، بِسَبَبِ قَسَاوَةِ السَّبِي وَنِيرِ العُبودِيَّة. إِلاَّ أَنَّ الضُّعفَ وَالوَهْنَ لَيسَا حَالَةً دَائِمَةً أَو مَرَضًا عُضَالاً، فَالإِنْسَانُ قَادِرٌ أَن يَتغَلَّبَ عَلَيهِما بِإِرادَتِهِ وَبِعَودَتِهِ إِلى اليُنبوعِ الَّذي تَتغَذَّى مِنهُ حَياتُهُ، أَي الرَّبّ وَوَصَايَاهُ. شَعبُ إِسرائيلَ في السَّبي يُشْبِهُ إِنسَانًا ذُو رِجْلَينِ صَحيحَتَينِ وَيَدَينِ سَليمَتَينِ، وَلَكِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ أَعرَج وَأَقْطَع، فَيَحتَاجُ إِلى مَنْ يُشَجِّعَهُ عَلى الوُقوفِ وَالعَمل. أَلـمُخَلَّعُ في إِنجيلِ مَرقُس حَمَلهُ إِخوَتهُ وَشَجَّعوهُ على الشِّفاءِ بِإِيمانِهِم وَمَحَبَّتهِم لَهُ وَبِثقَتِهِم بِالرَّبّ يَسوعَ الشَّافي جَميعَ أَسقَامِنا الظَّاهِرةَ وَغَير الظَّاهِرَة.
4 قولوا لِفَزِعي القُلوب: «تَقَوَّوا ولا تَخافوا هُوَذا إلهُكم النَّقمَةُ آتِيَة هذه مُكافَأَةُ الله هو يَأتي فيُخَلِّصُكم».
يَتَوَجَّهُ النَّبيُّ الآنَ إِلى الشَّعبِ الـمَسْبِيِّ، دَاعِيًا إِيَّاهُم إِلى تَشجيعِ بَعضِهم بَعضًا. مِنْ بَعدِ أَن تَشَدَّدَت وَتَجدَّدَت قِواهُم الجَسَدِيَّةِ، أَصبَحوا الآنَ قَادِرونَ عَلى أَن يُعْلِنوا إِيمَانَهُم بِالرَّبّ الَّذي وَعَدَهُم بِالخَلاص. إِنَّ الصِّفَة نِيمْهَرِي العِبرِيَّة الـمُتَرجَمَة "فَزِعي"، من الأَصلِ (م ه ر) لَها عِدَّة مَعاني: السَّريعَة، في عَجَلة، إِندفاعٌ متهوِّر، مُتعثِّرة. هيَ بِاخْتِصَار، تَدُلُّ عَلى شِدَّةِ الخَوف وَالضِّيق الَّذي يَعيشُهُ الشَّعبُ في بَابِل. فَهُم يَعيشُونَ ضَغطًا نَفسِيًّا كَبيرًا، يَدفَعُهُم إِلى التَّهوُّر في قَراراتِهِم وَتَصَرُّفَاتِهِم. أَمَّا الصِّيغَة "تقَوَّوا وَلا تخافوا" فَهي تتَردَّدُ في أَسفار التَّثنِيَة (31 / 6)، يشوع بن نون (10 / 25)، الأخبار الثاني (32 / 7) وَتُسْتَعمَلُ غَالِبًا في جَوِّ التَّحضِير لِلحَرب وَتوضَعُ عَلى فَمِ الله أَو أَنبيائِهِ. في هَذِهِ الآيَةِ، يُشَجِّعُ الرَّبُّ شَعبهُ وَيَعِدُهُم بِالانْتِقَامِ من أَجلِهِم. كَلِمة "نَقْمَة" في العبرِيَّة نقم، هي في الأَغلَبِ صُنع الرَّب، فَهوَ الـمُنتَقِمُ لِشعْبِهِ، وفي انتِقَامِهِ من أَعدَائِهِم يُحَقِّقُ لَهم الخَلاص. يَدعو النَّبيُّ الشَّعبَ هُنا، إِلى انتِظَارِ عَمَلِ الرَّبّ الخَلاصِيّ، وَعَدمِ التَّهوُّرِ في قَراراتِهِم، كمَا فَعَل أَسلافُهُم مُحاوِلينَ الانتِقَامَ بِأَنفُسِهِم، فَتمَّ سَبيُهُم عَن أَرضِهِم (راجِع 2مل 15 - 17). "ألآنَ أَقومُ، يَقولُ الرَّبّ، ألآنَ أَرْتَفِع، ألآنَ أَتَعالَى" (أش 33 / 11)، فَالرَّبّ هوَ الَّذي يَنتَقِمُ لِشَعبِهِ: "ليَ الانتِقَامُ يَقولُ الرَّبّ" (راجِع روم 12 / 19؛ عب 10 / 30).
5 حينَئِذ تتَفتَّحُ عُيوِنُ العُمْيان وآذانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّح
6 وحينَئذٍ يَقفِزُ الأَعرَجُ كالأَيِّل ويَهتِفُ لِسانُ الأَبكَم فقَدِ ٱنفَجَرَتِ المِياهُ في البَرِّيَّة والأَنْهارُ في البادِيَة.
معَ الظَّرف "حينئِذٍ" أَو أَز العبريَّة، تَنتَقِلُ النُّبوءَةُ من صِيغَةِ التَّشجيعِ إلى صِيغَةِ الرَّجاءِ بِأَنَّ الأُعجوبَةَ مُمكِنَةً لِشَعبٍ فقَدَ كُلَّ شَيءٍ وَضَعُفَت قُوَّتَهُ بِسَبَبِ قَسَاوَةِ الَّذينَ اسْتَعْبَدوهُ. هَذِا التَّبَدُّلُ سَبَبُهُ مَجيءُ الرَّبِّ الَّذي وَعَدَ بالانْتِقَامِ لِشَعبِهِ. بِقُدومِهِ، سَتَعودُ البَصيرَةُ لِلَّذينَ ابْتُلوا بِالعَمَى، وَالسَّمعَ لِلَّذينَ فقَدُوا الإصغاء... إِنَّها عَودَةٌ منَ الـمَوتِ إِلى الحَياة عَلى كُلِّ الأَصْعِدَة، بَدءًا منَ الإِنسَان لِلوُصولِ إِلى الطَّبيعَةِ، حَيثُ سَتَنفَجِرُ الـمِياهُ في الأَماكِنِ القَاحِلَة، لِأَنَّ الرَّبَّ حَاضِرٌ معَ شَعبِهِ.
8 ويَكونُ هُناكَ مَسلَكٌ وطَريقٌ يُقالُ لَه الطَّريقُ المُقَدَّس لا يَعبُرُ فيه نَجِس بل إِنَّما هو لَهم. من سَلَكَ هذا الطَّريق حتَّى الجُهَّال لا يَضِلّ.
9ب بل يَسيرُ فيه المُخَلَّصون
10 والَّذينَ فَداهُمُ الرَّبُّ يَرجِعون ويَأتونَ إِلى صِهْيونَ بِهُتاف ويَكونُ على رُؤُوسِهم فَرَحٌ أَبَدِيّ وُيرافِقُهمُ السُّرورُ والفَرَح وتَنهَزِمُ عَنهمُ الحَسرَةُ والتَأَوُّه.
الآيَةُ 8 تَتَمَحوَرُ حَولَ كَلمةِ دِرِخ العِبريَّة أو "طَريق" لِتَدُلَّ على خُروجِ الشَّعبِ اليَهودِيِّ من بِلادِ بَابِلَ. مِنْ بَعْدِ أَن أَعْلَنَ أَشَعيا في الفَصلِ 33 عَن دَمارِ الـمَسَالِكِ على يَدِ الـمُدَمِّرِ الكَبيرِ مَلِكِ بَابِل (راجع أش 14 / 3 – 23؛ 33 / 8)، يُعْلِنُ في نُبوءَةِ الخَلاصِ هَذِهِ أَنَّهُ سَيكونُ هناكَ مَسْلَكًا واحِدًا وَطَريقًا واحِدًا مُقَدَّسًا، هوَ الـمُؤَدِّي إِلى صِهيونَ مَدينَةِ الله. هَذا الطَّريقُ يُسَمَّى مُقَدَّسًا، لِأَنَّ الخَاطِئونَ لا يُمكِنُهُم أَن يَقْتَرِبوا إِلَيهِ وَلا الكُفَّارُ: "مَنْ مِنَّا يَسْكُنُ في النَّارِ الآكِلَةِ؟ وَمَنْ مِنَّا يَسْكُنُ في الـمَواقِدِ الأَبَدِيَّة؟" (أش 33 / 14)، بَل الَّذينَ يَسْلُكونِ بِالبِرِّ وَالحَقّ، حتَّى وَلو كانُوا جُهَّالاً.
أَمَّا "الـمُخَلَّصونَ"، فَهُم الَّذينَ سَيَكونونَ في حِمَايَةِ الرَّبِّ وَعِنايَتِهِ. هُم السَّالِكونَ بِالبِرِّ وَالـمُتكَلِّمونَ بِالاسْتِقَامَة، البَعيدينَ عَنِ الـمَظَالِم وَالشَّرّ، يَسْكُنونَ الجِبَالَ حَيثُ الرَّبُّ يَقوتُهُم وَيَعتني بِهِم (راجع أش 33 / 15 - 16).
أَمَّا الآيَةُ الأَخيرَةُ، فَتُعَادُ في (أَشَعيا 51 / 11) في نَشَيدِ انتِصَارِ ذِراعِ الرَّبّ في الحَربِ ضِدَّ أَعدَائِهِ. في النَّهايَةِ، مَهما عَظُمَ الشَّرُّ وَكَبُرَ، أَلنَّقِمَةُ وَالانتِصَارُ هُما لِلرَّبِّ وَحدَهُ.
خُلاصَةٌ روحِيَّةٌ
إِنَّ نُبوءَةَ أَشعيا غَنِيَّةٌ بِـمَعانيهَا اللاَّهوتِيَّة، نَذكُر البَعضَ منهَا:
هيَ تَدعُونا، في آيَاتِها الأولى، لِطَلَبِ نِعمَةِ البَصيرَةِ الَّتي تُسَاعِدُنا عَلى رُؤْيَةِ مَجدِ الرَّبّ القَريبِ، في وَسَطِ الشَّدائِدِ وَالضّيقَاتِ الَّتي يَمُرُّ بِها عَالَـمُنا وَوَطَنُنا. فَفَرَحُ الخَليقَةِ هوَ الذي يُخْبِرُنا عَن حُضورِ الرَّبّ وَاقْتِرابِ خَلاصِهِ، في الزُّهورِ وَالثِّمارِ، في الخِصْبِ وَالجَمال، في مَولودٍ جَديدٍ وَفي شِفَاءِ مَريض، في كُلِّ ما هُوَ حَياةٌ وَفَيضُ حَياة.
ثُمَّ يَنْتَقِلُ أَشعيا إلى أُسلوبِ التَّشجيعِ في الآيَتَينِ (3 – 4): "تَقَوَّوا، تَشَدَّدُوا" لِيُذَكِّرَ الشَّعبَ الـمَسْبِيَّ بِأَنَّهُ شَعبُ الرَّبِّ وَأَنَّهُ لَيسَ وَحدَهُ، في مَضَايِقِه. مُشْكِلَتُنا نَحنُ الـمَسيحِيِّينَ، هيَ مُشْكِلَةُ شَعبِ الله في السَّبي، أَنَّنا نَنْسَى العَودَةَ إِلى الرَّبّ وَنُهْمِلَ عَلاقَتَنا بِهِ، هُوَ غَايَةُ حَياتِنا الَّذي اتَّحَدنا بِهِ في سِرَّي الـمَعمودِيَّةِ وَالإفخارِستيّا. فَحينَ تَشْتَدُّ عَلينا الـمَشاكِلُ وَالـمَصَاعِبُ، نَغْرَقُ في هُمومِنا وَنَنْسَى أَنَّنا أَبناءَهُ، نَنْسَى مَواعِدَهُ الأَمينَةُ وَالصَّادِقَةُ بِالخَلاصِ وَبالحَياةِ الأَبَدِيَّة. فَنَصُّ أشَعيا يُشَجِّعُنا عَلى الـمُثابَرَةِ في العَيشِ بِحَضْرَةِ الرَّبّ، في البَحبوحَةِ وَفي الشِّحِّ، في السَّلامِ وَفي الحَرب، في الحُريَّةِ وَفي أَزمنة ِالاضطِّهاد.
في النِّهَايَةِ، نُبوءَةُ أَشعيا تُحاكِي وَاقِعَنا اللُّبنانيّ وَالعالَميّ. يُعَلِّمُنا الآبَاءُ الرُّوحِيُّونَ الشَّرقِيُّونَ، أَنَّ العَيشَ في حَضْرَةِ الرَّبّ هُوَ تَمرينٌ يَومِيٌّ يَتطَلَّبُ جِهَادًا وَمُثَابرةً. وَالشِّريرُ حَاضِرٌ لِيُبَلْبِلَ أَفكَارَنا وَلِيَزرَعَ فيها الفَوضَى، وَغَايَتُهُ أَن يُعْمِي بَصيرَتَنا عَن الحَقيقَةِ وَعن رَبِّنا لِيُبْعِدُنا عَنه. لِذا، عِندَما تُهاجِمُنا الأَفكارُ الـمُظْلِمَةُ وَالتَّشوِيش، لِنَلجَأ إِلى الرُّوحِ القُدُسِ لِيُساعِدَنا عَلى تَنظِيمِ أَفكارِنا وَتَرتيبِها وَرَفْض كُلَّ ما هوَ لَيسَ منَ الله وَتَمييز ما هوَ منَ الله. لِأَنَّنا نَحنُ الـمُؤمِنونَ قَادِرونَ عَلى العَيشِ بِسَلامٍ في وَسَطِ هذا العالَمِ الهَائِجِ، لِأَنَّنا أَبناءُ الله وَأَبناءُ السَّلام.