الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2022-11-25
9 وخافَ داوُدُ مِنَ الرَّبِّ في ذلك اليَومِ وقال:كَيفَ يَنزِلُ تابوتُ الرَّبِّ عِنْدي؟
10 ولَم يَشأ داوُدُ أَن يُمالَ إِلَيه بِتابوتِ الرَّبِّ إِلى مَدينةِ داوُد. فأَخَذَه داوُدُ إِلى بَيتِ عوبيدَ أَدومَ الجَتِّيّ.
11 فبَقِيَ تابوتُ الرَّبِّ في بَيتِ عوبيدَ أَدومَ اِلجَتِّيِّ ثَلاثَةَ أَشهُرٍ، فبارَكَ الرَّبُّ عوبيدَ أَدومَ وكلَّ بَيتِه.
إنَّ الآيَةَ 9 من هذا النَّصّ، هي الآيَةُ البِيبْلِيَّةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي تَذْكُرُ خَوْفَ الـمَلِكِ دَاوُدَ "وَيِيرَأْ دَاوِيدْ". مَا يَدُلُّ عَلَى مِيزَةِ الحَدَثِ العَظِيمِ وَالـمَهِيبِ، أَيْ إِسْتِرْجَاعِ تَابُوتِ الرَّبِّ مِنْ أَيْدِي الفِلِسْطِينِيِّينَ الَّذِينَ سَرَقُوهُ واحْتَفَظُوا بهِ، لِـمُدَّةِ 70 سَنَةٍ تَقْرِيبًا (رَاجِع 1صم 6 : 7 – 7 : 2). إنَّهُ حَدَثُ عَوْدَةِ تَابُوتِ العَهْدِ الَّذي يَحْوِي لَوحَا الوَصَايَا وَعَصَا هَارون الَّتي أَفْرَخَت، وهُما يَرْمُزَانِ إِلَى حُضُورِ الرَّبِّ. كَانَ إِبْتِعَادُ التَّابُوتِ، عَلامَةً عَلَى ابْتِعَادِ الرَّبِّ عَنْ شَعْبِهِ وَزَمَنُ انْحِطَاطٍ دِينِيٍّ فِي إِسْرَائِيلَ. وَخَوفُ الـمَلِكِ دَاوُدَ هُوَ شُعُورٌ طَبِيعِيٌّ أَمَامَ عَظَمَةِ حُضُورِ الرَّبِّ القُدُّوسِ. وَلَكِنْ، هَذَا الشُّعُورُ بِالرَّهْبَةِ وَلَّدَ عِنْدَ دَاوُدَ حَيْرَةً وَتَسَاؤُلاً: "كَيْفَ يَنْزِلُ تَابُوتُ الرَّبِّ عِنْدِي؟". عِنْدَ هَذَا التَّسَاؤُل، تَحَوَّلَ خَوْفُهُ إِلَى هَلَعٍ وَاضْطِّرَابٍ، فَقَرَّرَ الهُرُوبَ مِنَ الرَّبِّ وَإِبْعَادِ تَابُوتِهِ. إِنَّ مَخَافَةَ دَاوُدَ لِلرَّبِّ تَحَوَّلَتْ إِلَى خَوفٍ مِنَ الرَّبّ. فَالفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ التَّعْبِيرَيْنِ (مَخَافَة وَخَوف) ضَئِيلٌ جِدًّا. وَلَنْ يَعِي دَاوُدُ سُوءَ قَرَارِهِ السَّرِيعِ، إِلاَّ عِنْدَمَا يَسْمَعُ بِأَهَمِّيَةِ حُضُورِ الرَّبِّ مَعَهُ.
تَنَاقَضَت مَشَاعِرُ دَاوُدَ فِي دَاخِلِهِ، فَأَبْعَدَ تَابُوتَ الرَّبِّ إِلَى خَارِجِ مَدِينَتِهِ وَكَأَنَّهُ نَفَاهُ بَعِيدًا. فَأَخَذَهُ إِلَى بَيْتِ عُوبِيدَ أَدُومَ الجِتِّيّ، وَهُوَ مِن مَدِينَةِ جَتّْ الفِلِسْطِينِيَّة، وَمِنْ أَحَدِ أَقْطَابِ الفِلِسْطِينِيِّنَ الخَمْسَةِ (رَاجِع يش 13 / 3). وَكَانَ دَاوُدُ قَدْ هَرَبَ لاجِئًا إِلَى جَتّْ الفِلِسْطِينِيَّةَ، فِي أَيَّامِ الـمَلِكِ شَاوُلَ الَّذِي كَانَ يَسْعَى لِقَتْلِهِ، وَعَاشَ فِيهَا مَعَ الفِلِسْطِينِيِّينَ بِـمَأمَنٍ مِنْ شَاوُلَ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ (رَاجِع 1صم 27). هَذِهِ الأَحْدَاثُ تُفَسِّرُ اخْتِيَارَ دَاوُدَ لِعُوبِيدَ الجِتِّيّ، إِذْ مِنَ الـمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ ثِقَةٌ كَبِيرَةٌ وَدَالَّةُ صَدَاقَةٍ قَدِيمَةٍ. فَأَعْطَى دَاوُدُ لِعُوبِيدَ أَثْمَنَ كَنْزٍ لَهُ وَلِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ. فَتَبَارَكَ بَيْتُ الفِلِسْطِينِيُّ وَعَمَّ فِيهِ الفَرَح بِسَبَبِ حُضُورِ الرَّبِّ. أَمَّا دَاوُدَ، الَّذي كَانَ قَدْ جَمَعَ الشَّعْبَ لِلِاحْتِفَالِ بِرُجُوعِ تَابُوتِ الرَّبِّ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، غَرِقَ فِي خَوْفِهِ وَمَنَعَ الفَرَحَ وَالبَرَكَةَ عَنْ شَعْبِهِ.
أَمَّا مَرْيَمُ، الَّتِي يُصَوِّرُهَا آبَاءُ الكَنِيسَةِ بِتَابُوتِ العَهْدِ إِذْ حَوَتْ فِي أَحْشَائِهَا إبْنَ الله، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُخْفِي فَرَحَهَا، كَمَا فَعَلَ دَاوُدُ الملِكِ، بَلْ أَسْرَعَتْ إِلَى خَالَتِهَا أَلِيصَابَاتُ وَفَرِحَتْ مَعَهَا. وَأَلِيصَابَاتُ هَتَفَتْ فَرَحَهَا بِحُضُورِ مَرْيَم، قَائِلَةً: "مِنْ أَيْنَ لي هذَا أَنْ تَأْتِيَ إِليَّ أُمُّ ربِّي؟" (لو 1 / 43). أَمَّا دَاوُدُ، فَخَافَ مِنْ حُضُورِ الرَّبِّ فِي بَيْتِهِ وَأَبْعَدَهُ إِلَى خَارِجِ مَدِينَتِهِ.
12 فأُخبِرَ المَلِكُ داوُدُ وقيلَ لَه أَنَّ الرَّبَّ قد بارَكَ عوبيدَ أَدومَ وكلَّ ما لَه بِسَبَبِ تابوتِ الله. فمَضى داوُدُ وأَصعَدَ تابوتَ اللهِ بِفَرَحٍ مِن بَيتِ عوبيدَ أَدومَ إِلى مَدينَةِ داود.
13 ولَمَّا خَطا حامِلو تابوتِ الرَّبِّ سِتَّ خَطَوات، ذَبَحَ ثَورًا وعِجْلًا مُسَمَّنًا.
يَتَّضِحُ لَنَا مِن تَصَرُّفِ الـمَلِكِ دَاوُدَ، فِي الآيَةِ 12، أَنَّ خَوْفَهُ مِنْ تَابُوتِ الرَّبِّ كَانَ خَوْفًا مِمَّا يُمْكِنْ أَنْ يَفْعَلِ الرَّبُّ أَثْنَاءَ حُضُورِهِ فِي بَيْتِهِ. لِأَنَّ الأَحْدَاثَ القَدِيمَةَ تُخْبِرُ، أَنَّ تَابُوتَ الرَّبِّ نَشَرَ الرُّعْبَ فِي مُدُنِ الفِلِسْطِينِيِّينَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ شَعْبٌ كَثِيرٌ بِسَبَبِهِ (رَاجِع 1صم 5 - 6). فَلَمَّا تَأَكَّدَ دَاوُدُ مِنْ بَرَكَةِ الرَّبِّ، أَعَادَ التَّابُوتَ إِلَى مَدِينَتِهِ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ. وَالخَطَوَاتُ السِّتُّ هِيَ عَلَامَةٌ مِنَ الرَّبِّ، أَنَّهُ رَاضٍ عَلَى خُرُوجِهِ مِن بَيْتِ عُوبِيدَ وَدُخُولِهِ إِلى يَهُوذَا. فَلَو لَمْ يَكُنِ الرَّبُّ رَاضِيًا عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الملِكُ دَاوُدُ، لَكَانَ ضَرَبَ حَامِلُو تَابُوتِهِ قَبْلَ الخَطَوَاتِ السِّتِّ. لِذَا، قَدَّمَ دَاوُدُ ذَبِيحَةَ شُكْرٍ لِلرَّبِّ.
14 وكانَ داوُدُ يَرقُصُ ويَدورُ على نَفسِه بِكُلِّ قوته أمام الرَّبّ، وكانَ داوُدُ متَمَنطِقًا بِأَفودٍ مِن كتَّان.
15 وأَصعَدَ داوُدُ وكلُّ بَيتِ إِسْرائيلَ تابوتَ الرَّبَ بِالهُتافِ وصَوتِ البوق.
رَقْصُ دَاوُدَ هَوَ تَعْبِيرٌ نَابِعٌ مِنْ أَعْمَاقِهِ. بِالرَّقْصِ يَتَحَرَّكُ كَيَانُ الإِنْسَانِ بِكَامِلِهِ، مِنَ الدَّاخِلِ وَمِنَ الخَارِجِ. هَكَذَا أَرَادَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ أَنْ يَحْتَفِلَ بِعَودَةِ تَابُوتِ الرَّبِّ بَيْنَ شَعْبِهِ، فَقَدَّمَ لَهُ كُلَّ قُوَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ، بِالرَّقْصِ وَالدَّوَرَانِ عَلَى نَفْسِهِ. وَكَانَ دَاوُدُ لَابِسًا أَفُودًا وَهُوَ لِبَاسُ رَئِيسِ الكَهَنَةِ، وَلَكِنَّهُ بَسِيطٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ مَصْنُوعٌ مِنْ كَتَّانٍ أَيْ قِمَاشٍ شَفَّافٍ جِدًّا، يَرْمُزُ إِلَى صِدْقِ وَصَفَاءِ قَلْبِهِ. أَمَّا مَرْيَمُ، فَتَتَمَتَّعُ بِشَفَافِيَةٍ دَاخِلِيَّةٍ، نَقَلَتْ مِن خِلالِهَا بَرَكَةَ الرَّبِّ الَّذي تَحْمِلُهُ، إِلَى كَيَانِ أَلِيصَابَاتَ وَجَنِينِهَا.
عَبَّرَ دَاوُدُ عَنْ فَرَحِهِ بِالرَّبِّ، بِالرَّقْصِ وَالشَّعْبُ بِالهُتَافِ وَبِالنَّفْخِ بِالبُوقِ. أَمَّا مَرْيَمَ، فَعَبَّرَت عَنْ فَرَحِهَا بِالذَّهَابِ مُسْرِعَةً إِلَى الجَبَلِ حَيْثُ خَالَتُهَا أَلِيصَابَاتُ، فَهَتَفَتْ هَذِهِ الأَخِيرَةُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا (لو 1 / 42). حُضُورُ الرَّبِّ يَنْشُرُ الفَرَحَ وَيُحَرِّكُ كَيَانَ الإِنْسَانِ عَلَى تَسْبِيحِهِ بِالصَّوتِ وَالهُتَافِ، بِالرَّكْضِ وَبِالرَّقْصِ.
17 وأَدخَلوا تابوتَ الرَّبِّ وأَقاموه في مَكانِه، في وَسَطِ الخَيمَةِ الَّتي نَصَبَها لَه داوُد، وأَصعَدَ داوُدُ مُحرَقاتٍ أمام الرَّبِّ وذَبائِحَ سَلامِيَّة،
18ب وبارَكَ الشَّعبَ بِٱسم رَبِّ القوّات.
نَصَبَ الـمَلِكُ دَاوُدَ خَيْمَةً لِتَابُوتِ الرَّبِّ فِي مَدِينَتِهِ، وَهِيَ تَقَعُ فِي القِسْمِ الأَعْلَى مِنْ مَدِينَةِ أُورَشَلِيمَ. وَسُمِّيَتْ "مَدِينَةُ دَاوُدَ"، لِأَنَّها تَحْوِي الحِصْنَ الَّذي أَخَذَهُ مِنَ اليَبُوسِيِّينَ (راجِع 2صم 5 / 6 - 9) وَبَيْتَهُ وَخَيْمَةَ التَّابُوتِ. وَطَهَّرَ الـمَلِكُ شَعْبَهُ بِتَقْدِمَةِ ذَبَائِحَ سَلامِيَّةٍ لِلرَّبّ، وَبَارَكَهُم بِاسْمِ الرَّبِّ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَالَّذِي يَحْفَظُهُ وَيَنْصُرُهُ وَالَّذِي عَرِفَهُ مُنْذُ صِبَاهُ بِاسْمِ "رَبِّ القُوَّاتِ".