الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2022-11-11
15 وقالَ الله لإِبراهيم: "سارايُ اَمرَأَتُكَ لا تُسَمِّها ساراي، بل سَمِّها سارة.
تَدَخُّلُ اللهِ فِي هَذَا الوَقْتِ مِنْ حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَةَ يَحْمِلُ تَحَوُّلاً جَذْرِيًّا. إِذْ عِنْدَمَا يَقُولُ اللهُ كَلِمَتَهُ "قَالَ الله"، نَتَذَكَّرُ عَمَلَ الخَلْقِ الَّذي تَمَّ بِكَلِمَتِهِ القَدِيرَةِ، عِنْدَمَا انْتَقَلَ الكَوْنُ مِنْ حَالَةِ الخَوَاءِ وَالفَوْضَى إِلَى نِظَامٍ جَذرِيٍّ يُعْطِي الحَيَاة. هَكَذَا، يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُغَيِّرَ إِسْمَ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ "سَارَاي" أَمِيرَتِي، إِلَى "سَارَة" أَميرَة، لِأَنَّهُ يُرِيدُ إِدْخَالَهَا فِي العَهْدِ مَعَهُ، لِتَتْمِيمِ مَشْرُوعِهِ الَّذي كَانَ قَدْ وَعَدَ بِهِ رَجُلَهَا إِبْرَاهِيم: "أَنَا أَجْعَلُكَ أُمَّةً كَبِيرَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمُ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً" (تك 12 / 2). حَيَاةُ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ سَتَدْخُلُ فِي مَرْحَلَةٍ جَدِيدَةٍ بِفِعْلِ إِيمَانِهِمَا بِكَلِمَةِ الرَّبّ.
16 وأَنا أُبارِكُها وأَرزُقُكَ مِنها ٱبنًا وأُبارِكُها فتَصيرَ أُمَمًا، ومُلوكُ شُعوبٍ مِنها يَخرُجون".
وَبِفِعْلِ تَغْيِيرِ اسْمِهَا، سَتَتَبَدَّلُ حَيَاتُهَا القَدِيمَةُ الَّتي اخْتَبَرَتْ فِيهَا أَلَمَ العُقْمِ هِيَ وَزَوُجُهَا، وَسَتُصْبِحُ سَارَةُ أُمًّا لِابْنٍ مَوعُودٍ مِنَ الله. هَذَا الِابْنُ الـمَوعُودُ سَيَكُونُ ثَمَرَةُ بَرَكَةِ الرَّبِّ لَهَا، إِلاَّ أَنَّهُ لَنْ يَكُونَ الثَّـمَرَةُ الوَحِيدَةُ، لِأَنَّ سَارَةَ سَتَكُونُ أُمًّا لِعَدَدٍ أَكْبَر بِكَثِيرٍ، لِأُمَمٍ وَلِـمُلوكِ شُعُوبٍ. فَبَرَكَةُ الرَّبِّ تَتَخَطَّى الجَسَدَ وَمَحْدُودِيَّتَهُ لِتَصِلَ إِلَى مُسْتَوَى الرُّوحِ وَالإِيمَانِ، فَلِهَذَا، تَصِيرُ العَاقِرُ أُمًّا لِعَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ الأَبْنَاءِ. تَدَخُّلُ اللهِ يُثْمِرُ الحَيَاةَ دَائِمًا، لِأَنَّهُ هُوَ الحَيَاةُ.
نَجِدُ في هَاتَيْنِ الآَيَتَينِ، صَدًى لِقَوْلِ مَلاكِ الرَّبِّ لِزَكَرِيَّا في الهَيْكَلْ: "لاَ تَخَفْ، يَا زَكَرِيَّا، فَقَدِ اسْتُجيبَتْ طِلْبَتُكَ، وَامْرَأَتُكَ إِلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا، فَسَمِّهِ يُوحَنَّا" (لو 1 / 13).
17 فسَقَطَ إِبْراهيمُ على وَجهِه وضَحِكَ وقالَ في قَلبِه: "أَلِابنِ مِئَةِ سَنَةٍ يُولَدُ وَلَد، أَم سارةُ، وهي ٱبنَةُ تِسعينَ سَنَةً، تَلِد؟".
18 فقالَ إِبراهيمُ لله: "لَو أَنَّ إِسْماعيلَ يَحْيا أَمامَ وَجهِكَ!".
وَعْدُ الرَّبِّ لِإِبْرَاهِيمَ مَرَّتْ عَلَيْهِ السِّنُونَ العَدِيدَةَ، وَخِلَالَ هَذَا الوَقْتِ كَانَ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ قَدْ فَهِمَا الوَعْدَ الإِلَهِيَّ عَلَى مُسْتَوَى حَجْمِهِمَا البَشَرِيِّ. فَفَكَّرَت سَارَةُ أَنَّ النَّسْلَ الـمَوعُودَ بِهِ سَيَأْتِي فَقَطْ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، فَأَعْطَتْهُ خَادِمَتَهَا هَاجَرَ، لِتَلِدَ لَهُ وَرِيثًا. إِلاَّ أَنَّ مَواعِيدَ الرَّبِّ لَا تَتَطَلَّبُ التَّحْلِيلَ وَالتَّفْكِيرَ الكَثِيرَ، لِأَنَّ الرَّبَّ صَادِقٌ وَأَمِينٌ، إِلاَّ أَنَّ وَقْتَهُ لَيْسَ وَقْتَنَا وَأَفْكَارَهُ لَيْسَتْ أَفْكَارَنَا. فَهُوَ الرَّبُّ القَدِيرُ وَالصَّبَاؤُوتُ. ضَحِكَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ قَولِ الرَّبِّ، لِأَنَّ الشَّيْخُوخَةَ قَدْ قَضَتْ عَلَى الأَمَلِ بِحَبَلِ سَارَةَ. أَلضَّحِكُ هُنَا هُوَ عَلاَمَةُ تَعَجُّبٍ، لِأَنَّ مَا يَقُولُهُ الله يَفُوقُ قُدْرَةَ العَقْلِ البَشَرِيِّ. فَحَاوَلَ إِبْرَاهِيمُ التَّخْفِيفَ عَنِ الله، مُقَدِّمًا لَهُ حَلاًّ أَكْثَرَ وَاقِعِيَّةً لِـمُشْكِلَةِ مُرُورِ السِّنِينَ عَلَى وَعْدِهِ القَدِيمِ، وَهُوَ "إِسْمَاعِيلُ" أَيْ سَمِعَ اللهُ.
حَتَّى الآنَ، إِبْرَاهِيمُ لَمْ يَشُكَّ بِاللهِ وَبِقُدْرَتِهِ، كَمَا يَقُولُ بُولُسُ الرَّسُولُ: " آمَنَ إِبْرَاهيمُ رَاجِيًا عَلى غَيرِ رَجَاء، بِأَنَّهُ سَيَصيرُ أَبًا لأُمَمٍ كَثيرَة، كَمَا قِيلَ لَهُ: «هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ». ولَمْ يَضْعُفْ بِإِيْمَانِهِ، بِرَغْمِ أَنَّهُ رأَى، وهُوَ ابنُ نَحْوِ مِئَةِ سَنَة، أَنَّ جَسَدَهُ مَائِت، وأَنَّ حَشَا سَارَةَ قَدْ مَات. وبِنَاءً عَلى وَعْدِ الله، مَا شَكَّ وَلا تَرَدَّد، بَلْ تَقَوَّى بالإِيْمَان، ومَجَّدَ الله" (روم 4 / 18 - 20). أَمَّا زَكَرِيَّا الكَاهِنَ، فَقَدْ شَكَّ فِي قَلْبِهِ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ مِمَّا أَدَّى إِلَى إِصَابَتِهِ بِالصَّمْتِ الطَّوِيلِ.
19 فقالَ الله: "بَل سارةُ ٱمرَأَتُكَ سَتَلِدُ لَكَ ٱبنًا وسَمِّهِ إِسحق، وأُقيمُ عَهْدي معَه، عَهْدًا أَبَدِيًّا، لأَكونَ لَه إِلهًا ولِنَسلِه مِن بَعدِه.
20 وأَمَّا إِسْماعيلُ فقَد سَمِعتُ قَولَكَ فيه. وهاءَنَذا أُبارِكُه وأُنْميه وأُكَثِّرُه جِدًّا جِدًّا، ويَلدُ ٱثنَي عَشَرَ رَئيسًا، وأَجعَلُه أُمَّةً عظيمة.
إِلاَّ أَنَّ اللهَ عَادَ يُؤَكِّدُ لِإِبْرَاهِيمَ: "بَلْ سَارَةُ امْرَأَتُكَ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَسَمِّهِ إِسْحَقْ"! أَعْطَى اللهُ الاِسْمَ لِلـمَولُودِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَعَادَ وَأَصَرَّ أَنَّ سَارَةَ سَتَكُونُ هِيَ وَحْدَهَا الوَالِدَةُ وَالأُمُّ لِنَسْلِ رَجُلِهَا. أَمَّا اسْمُ "إِسْحَقَ" الَّذي يَعْنِي ضَحِكَ، أَرَادَهُ اللهُ عَلاَمَةً حَيَّةً لِإِبْرَاهِيمَ الَّذي ضَحِكَ عِنْدَ سَمَاعِ قَوْلِ اللهِ لَهُ. لَيَتَذَكَّرَ هَكَذَا، طِيلَةَ أَيَّامِ حَيَاتِهِ حَدَثَ لِقَائِهِ باللهِ، وَرَدَّةَ فِعْلِهِ لِلْبِشَارَةِ بِابْنٍ في شَيْخُوخَتِهِ.
يُرِيدُ اللهُ أَنْ يَبْنِيَ عَهْدًا مَعَ ابْنِ سَارَةَ الحُرَّةَ، وَالعَهْدُ هُوَ: أَنْ يَكُونَ اللهُ مَعَ إِسْحَقَ وَمَعَ نَسْلِهِ الـمُؤْمِنِ لِلأَبَدِ. لِأَنَّ إِسْحَقَ هُوَ ابْنُ الإِيمَانِ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يُعَدُّ فَرْدًا مِنْ عَائِلَتِهِ. وَعْدُ اللهِ شَرَّعَ بَابَ الإِيمَانِ لِلجَمِيعِ وَأَبْطَلَ شَرِيعَةَ الجَسَدِ الـمَحْدُودَةِ. وَلِهَذَا، سَيَكُونُ لإِسْمَاعِيلَ نَصِيبًا مَعَ اللهِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِبْنُ إِبْرَاهِيمَ الـمُؤْمِنِ، وَسَيُعْطِيهِ اللهُ أَنْ يَكُونَ أَبًا مُبَارَكًا لِاثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا كَعَدَدِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ وَاُمَّةً عَظِيمَةً. هَذَا يُظْهِرُ أَنَّ اللهَ لاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَبْنَائِهِ، أَبْنَاءِ الإِيمَانِ، فَيُوَزِّعُ عَطَايَاهُ عَلَيْهِم جَمِيعًا بِالإِنْصَافِ وَالحَقِّ.
21 غَيرَ أَنَّ عَهْدي أُقيمُه معَ إِسْحقَ الَّذي تَلِدُه لَكَ سارةُ في مِثلِ هذا الوَقتِ مِنَ السَّنَةِ الـمُقبِلة".
22 فلَمَّا ٱنتَهى اللهُ مِن مُخاطَبَةِ إِبْراهيم، اِرْتَفَعَ عنه.
بَيْدَ أَنَّ اللهَ لَنْ يُقِيمَ العَهْدَ مَعَ ابْنِ الأَمَةِ الغَرِيبَةِ هَاجَرَ، بَلْ مَعَ ابْنِ الحُرَّةِ سَارَةَ (راجِعْ غل 4 / 21 - 31). فَابْنُ الغَرِيبَةِ سَيَكُونُ مُبَارَكًا وَبَرَكَةُ اللهِ سَتُرَافِقُهُ، إِلاَّ أَنَّ رِبَاطَ العَهْدِ الَّذِي سَيُقِيمُ عَلاَقَةً وَثِيقَةً بَيْنَ فَرِيقَينِ، هَذَا، يُرِيدُهُ اللهُ فَقَطْ مَعَ إِسْحَقَ. فَيَكُونَ إِسْحَقُ وَنَسْلُهُ صِلَةَ وَصْلٍ بَيْنَ الشُّعُوبِ الغَرِيبَةِ وَاللهِ، لِيُدْخِلُوهُم فِي مِيرَاثِ الوَعْدِ بِقُوَّةِ الإِيمَانِ بِإِلَهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ.
حَدَّدَ اللهُ مَوْعِدَ تَحْقِيقِ وعْدِهِ لإِبْرَاهِيمَ "فِي هَذَا الوَقْتِ مِنَ السَّنَةِ الـمُقْبِلَةِ"، لِيُظْهِرَ أَمَانَتَهُ وَصِدْقَ كَلِمَتِهِ لِإِبْرَاهِيمَ وَلِلأَجْيَالِ الآَتِيَة. وَارْتَفَعَ اللهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، لِلدَّلاَلَةِ عَلَى نِهَايَةِ الـمُخَاطَبَةِ وَعَلَى بِدَايَةِ تَحْقِيقِ كَلِمَتِهِ، ابْتِدَاءً مِنْ هَذِهِ اللَّحْظَةِ.