الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2022-09-14
19 لأَنَّهُ مَكْتُوب: "سَأُبِيدُ حِكْمَةَ الـحُكَمَاء، وأَرْذُلُ فَهْمَ الفُهَمَاء!".
قدَّم الصليب للعالم حداثةً جذريَّة، متحدّيًا كلَّ مستوىً للقوَّة والسيادة البشريَّة. كان باستطاعة الـمُدرِك الأسفار المقدَّسة عند اليهود أن يعترف بالصَّليب على أنَّه مواصلةٌ للموضوع الرئيسيّ الَّذي لم ينحرف عن إعلان الله لمخطَّطه الخلاصيّ. فقصَّة شعبٍ عريقٍ عاش سهل شنعار تُجسّد الَّذين يهلكون. لقد بنى النَّاس إلى الأبد أبراجهم، ونزل الله إلى الأبد لبلبلة ألسنتهم (راجع تك 11: 1-9). من حنَّة أمّ صموئيل (راجع 1 صم 2: 1-10) إلى مريم (راجع لو 1: 46-55)، كان الله يرفع المسكين من الرماد. لذلك، لم يقُل شيئًا جديدًا عندما قال إنَّه "سيُبيد حكمة الحكماء، ويرذل فهم الفهماء" (أش 29: 14).
20 فَأَيْنَ الـحَكِيم؟ وأَيْنَ عَالِمُ الشَّرِيعَة؟ وأَيْنَ البَاحِثُ في أُمُورِ هـذَا الدَّهْر؟ أَمَا جَعَلَ اللهُ حِكْمَةَ هـذَا العَالَمِ حَمَاقَة؟
تدلُّ الأسئلة، الَّتي يطرحها بولس في هذه الآية، على أنَّ المؤمنين في قورنتس لم يكونوا من ضمن الَّذين كان مشهودًا لهم من قِبل هذا العالم. فالسؤال القائل: "أين الحكيم؟"، هو طريقة محترمة لتذكيرهم بأنَّ الحكمة الدنيويَّة لم تكن مصدر خلاصهم. لم يرفض بولس الرسول الحكمة بالمفهوم الـمُطلَق، لكنَّه أكَّد على أنَّ حكمة الله مختلفة تمامًا عن حكمة هذا العالم. هذا ما سبق وأوضحه الرَّبُّ يسوع بقوله: "أحمدُكَ أيُّها الآب، ربُّ السماء والأرض، لأنَّك أخفيتَ هذه عن الحكماء والفهماء وأظهرتها للأطفال" (لو 10: 21).
الحوار ببراعةٍ، سواء أكان شفهيًّا أم كتابيًّا، هو خلاصة الحكمة والتعلّم عند الإغريق والرومان. أراد بولس للجماعة المحليَّة في قرونتس، أن تنظر حولها وتسأل: "أين عالِم الشريعة؟ وأين الباحث في أمور هذا الدهر؟". لم يكن للأذكياء في العالم وقتٌ للمسيح.لذا وجّه بولس سؤاله إلى أهل قورنتس قائلًا: "أما جعلَ الله حكمة هذا العالم حماقة؟". فعندما أعطاهم الله بركاته، كان "يُجَهّلُ" بذلك "حكمة هذا العالم".
21 فَبِمَا أَنَّ العَالَمَ بِحِكْمَتِهِ مَا عَرَفَ اللهَ بِحَسَبِ حِكْمَةِ الله، رَضِيَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ بِحَمَاقَةِ البِشَارَةِ الَّذِينَ يُؤْمِنُون؛
أجرى بولس مقابلةً حادّة، قدر المستطاع، بين "حكمة العالم" الَّتي من جهة السفسطائيّين والفلاسفة المتعلّمين، وبين "حماقة البشارة"، الَّتي كان المسيحيّون قد سمعوا بولس يُنادي بها. وكان قد رأى أنَّ "العالم" (kosmos)، إذا تُرِكَ ورغبته، لا يحصل إلَّا على بصيصٍ من الله في الظواهر الطبيعيَّة (راجع روم 1: 20)، لأنَّه لم يستطع أن يسمو أكثر ممَّا يسمح به كبرياء الانسان ومحبَّته للمتعة. فبينما يزعم الانسان أنَّه حكيمٌ تراه صار جاهلًا (راجع روم 1: 22).
كان إخفاق البشر الخاطئ في أن "يعرف الله"، دليلًا على "حكمة الله". ومع ذلك، لم يرفض الله هذا الإخفاق، بل "رضي أن يخلّص بحماقة البشارة الَّذين يؤمنون". فبموت المسيح، فتح الله أمام الانسان باب المصالحة. إلَّا أنَّ العالم لم يجد أيَّ حكمةٍ في إلهٍ مصلوب، لأنَّ معرفة الله الحقيقيَّة هي نتيجةٌ لكشف الله عن ذاته.
22 لأَنَّ اليَهُودَ يَطْلُبُونَ الآيَات، واليُونَانِيِّينَ يَلْتَمِسُونَ الـحِكْمَة.
قسم بولس استجابة الانسانيَّة إلى جهالة الكرازة عن مخلّصٍ مصلوب إلى فئتَين: اليهود واليونانيّين. لم يستجب اليهوديّ أو اليونانيّ بالطريقة نفسها؛ ولكن عندما تعتمد أيُّ هاتَين الجماعتَين على تقاليدها العرقيَّة وعبقريَّتها، فإنَّها بذلك ستتجنَّب حكمة الله.
كان اليهود "يطلبون الآيات" من السماء، والَّتي قد تُثبت حقيقة ما كانوا يسمعون. لم تكن الآيات مقتصرةً على ما فعله الرَّبّ يسوع. فبولس كتب أيضًا، في وقتٍ لاحق، إلى أهل قورنتس قائلًا: "إنَّ علامات الرسول صُنِعَت بينكم في كلّ صبرٍ، بآياتٍ وعجائب وقوَّات" (2 قور 12: 12). كان اليهود، في كثيرٍ من الأحيان، يستجيبون لــ"حماقة البشارة" (1 قور 1: 21)، مُطالبين بآية، ولكن لم تكن هناك علامةٌ تُرضيهم.
تميل استجابة "اليونانيّين" للبشارة بمخلّصٍ مصلوب إلى أن تكون معرفة عقليَّة، لأنَّهم سعوا وراء "الحكمة". كان التنظير الفلسفيّ بين المفكّرين اليونانيّين، خلال العصر المسيحيّ المبكر بعيد المدى. فكان المبشّرون المتجوّلون يتراوحون من الجاهِل إلى المحنَّك، حتَّى أصبح العمَّال البسطاء والدبَّاغون يناقشون مزايا آخر فيلسوف اجتاح المدينة. لذا، كان بولس أحدثَ عرضٍ في الساحة، بالنسبة إلى غالبيَّة اليونانيّين. فكانوا يتطلَّعون إلى اللَّعب على الكلمات بالفصاحة والتفاسير الجديدة. من هذا المنطلق، كانت إمكانيَّة معرفة الله وتغيير الحياة، بسبب مخلّصٍ مصلوب وقائمٍ من بين الأموات، بعيدة كلَّ البُعد عن "التماس اليونانيّين للحكمة".
23 أَمَّا نَحْنُ فَنُنَادِي بِمَسِيحٍ مَصْلُوب، هُوَ عِثَارٌ لِليَهُودِ وحَمَاقَةٌ لِلأُمَم.
قدَّم بولس إلى أهل قورنتس، ومن دون تردُّد، مستخدمًا التوكيد "نحن"، بديلًا لمطلب اليهود بالآيات وافتتان اليونانيّين بالحكمة: "أمَّا نحن فننادي بمسيحٍ مصلوب". لم يقدّم بولس أيَّة آيةٍ لتلبية توقُّعات اليهود بخصوص المسيح؛ ولم يقدّم أيَّة حكمةٍ لإثارة اهتمام اليونانيّين بالحكمة. فالحقيقة تكمن في اتّجاهٍ لم يتوقَّعه إنسانٌ: تكمن المفارقة في الصليب، الَّذي يُعبّر عن حكمة الله: "لأنَّه وإن كان قد صُلب من ضعفٍ، لكنَّه حيٌّ بقوَّة الله" (2 قور 13: 4).
إنَّ القوَّة الَّتي في الصليب، تفتح الطريق للأكثر تواضعًا لأن يعرف الله، وليتغلّب على الشرّ. وهذه هي الحكمة الفائقة على كلّ شيءٍ يمكن أن يقدّمه الفلاسفة. بمعنىً آخر، أصبح الصليب محورًا لفهم بولس بأنَّ موت المسيح، صوَّر للانسانيّة عدم قدرتها في تجاوز الله.
لقد أبطلت قوَّة الله التوقُّعات اليهوديَّة، وجعلت حكمته رسالة الصليب حماقةً لليونانيّين. فأصبح التناقض الظاهريّ للقوَّة في الضعف، والحكمة في حماقة، النجمة المرشدة لبولس. وهذا ما سيدفعه ليكتب في ما بعد: "إن كان يجب الافتخار، فسأفتخر بضعفي" (2 قور 11: 30)..."لأنّي حينما أكون ضعيفًا فحينئذٍ أنا قويّ" (2 قور 12: 10).
24 وأَمَّا لِلمَدْعُوِّينَ أَنْفُسِهِم، مِنَ اليَهُودِ واليُونَانِيِّين، فَهُوَ مَسِيحٌ، قُوَّةُ اللهِ وَحِكْمَةُ الله؛
استمرَّ بولس في المقارنة بين طريقة الاقتراب إلى الله، الَّتي تحدّدها توقُّعات الانسان (الآيات والتنظير الفلسفيّ) من جهة، وبين النهج الَّذي انتظر الله ليقوم بمبادرةٍ ليخلّص النَّاس. لكنَّ تعليم بولس لا يقوم على تكهُّناتٍ مجرّدة عن الله؛ إنَّما هي بيانٌ بما قد فعله الله بالفعل. لذا، لم يقبل جميع النَّاس هذا المنطق، إنَّما "المدعوّين"، الَّذين اعتبروا الصَّليب "قوَّة الله وحكمة الله". وإن كان الله قد دعا الانسان بمبادرةٍ منه، فهذا لا يلغي حاجة الانسان إلى الاستجابة لهذه الدعوة.
لم يكن تبشير بولس نتاج مدارس فلسفيَّة، بل نتيجة كشف الله عن ذاته، وعن محبَّته للانسان بالرغم من الخطيئة. فما أراد بولس قوله لأهل قورنتس هو أنَّهم عندما يبدأون باتّخاذ رسالة المسيح على محمل الجِدّ، ستصبح الانشقاقات في ما بينهم، وإغراءات السلطة البشريَّة، والحكمة البشريَّة، هباءً.
25 فَمَا يَبْدُو أَنَّهُ حَمَاقَةٌ مِنَ اللهِ هُوَ أَحْكَمُ مِنَ النَّاس، ومَا يَبْدُو أَنَّهُ ضُعْفٌ مِنَ اللهِ هُوَ أَقْوَى مِنَ النَّاس.
كانت لبولس ثقةٌ في حقيقة الإنجيل، بحيث كان على استعدادٍ للاعتراف بمظهر "حماقة الإنجيل" وضعفه. وفقًا للمعايير البشريَّة، ليس الصليب ما يستحقُّ الثناء، بل يُعتبر "حماقة". لكنَّ بولس يقول: "ما يبدو أنَّه حماقة من الله هو أحكم من النَّاس". إنَّ حكم الناس على الإنجيل بأنَّه "حماقة"، هو بحدّ ذاته دليلٌ على أنَّه أتى من الله. إذ لا يمكن أن يتوقَّع أحدٌ أنَّ أيَّ إعلانٍ من الله سيتوافق مع توقُّعات الانسان. والأهمُّ من تقييم العالم لحماقة الله أو حكمته، هي هذه الحقيقة البسيطة: "ما يبدو أنَّه ضعفٌ من الله هو أقوى من النَّاس"، لأنَّ النصر النهائيّ هو لله.