الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2022-07-23
2 لأَنَّ شَرِيعَةَ رُوحِ الـحيَاةِ في الـمَسِيحِ يَسُوع، قَدْ حَرَّرَتْني مِنْ شَريعَةِ الـخَطِيئَةِ والـمَوت.
في هذه الآية، يوضح بولس سبب ما قاله في الآية الأولى: "لأنَّ شريعة روح الحياة في المسيح يسوع، قد حرَّرتني من شريعة الخطيئة والموت". استمرَّ بولس في استخدم كلمة "شريعة" (nómos)، بمعنى "المبدأ".
انتهى الفصل السَّابع من الرسالة إلى أهل روما بفكرة أنَّ مصير بولس كان محتومًا ليخدم "شريعة الخطيئة"، ما دام أنّه يعتمد فقط على قدراته البشريَّة. لكنَّه اكتشف أنَّ قوَّة الجسد وحدها تقوده إلى الموت (راجع 7: 6، 24؛ 8: 13). فتحرَّر من "شريعة الخطيئة والموت".
ما الَّذي حرَّر بولس؟ "شريعة روح الحياة". تُشير عبارة "روح الحياة" إلى الروح القدس: روح الله الَّذي يأتي بالحياة. في البدء شارك الرُّوح القدس في خلق الحياة الماديَّة (راجع تك 1: 1، 2، 26؛ 2: 7). أوحى الروح القدس بكلمة الحياة (راجع فل 2: 16؛ 2 بط 1: 21). كان الروح القدس قوَّةً حيَّة في يوم الخمسين إذ أتى بالحياة الروحيَّة للناس (راجع أعمال 2: 1-4، 33، 37، 38، 41). ظلَّ الروح القدس عاملًا أساسيًّا في حياة المسيحيّ الجديدة في المسيح (راجع أعمال 2: 38؛ 5: 32؛ روم 8: 6). بهذا عرفنا الروح القدس الَّذي يلعب دورًا بارزًا في الفصل الثَّامن من الرسالة إلى أهل روما. فـــ"شريعة روح الحياة"، هي الجاذب العلويّ للروح القدس الَّذي حرَّرنا من الجذب السفليّ للجسد. صوَّر بولس قوَّة الجذب السفلى للجسد (راجع روم 7: 14-25)، كشيءٍ لم يقدر التغلُّب عليه بقوَّته الشخصيَّة. وقد أكَّد لنا هنا أنَّه يمكن إبطال مفعول قوَّة الجسد بقوَّة الروح الَّذي أعطيناه في المعموديَّة. لكن، هل هذا يعني أنَّه لم يعد هناك وجودٌ لــ"شريعة الخطيئة والموت"، عندما تحرّرنا "شريعة روح الحياة"؟ عندما نتحرَّر من "شريعة الخطيئة والموت"، هذا لا يعني أنَّه لم يعد لها وجود، بل لم يعد هناك، عند المسيحيّ، قوَّة قهرٍ لا يمكن مقاومتها، لأنَّه يستطيع بمعونة روح الله أن يُميت أعمال الجسد (راجع روم 8: 13، 26). هذا ما سيوضحه بولس في الآيات التالية (روم 8: 3-4).
3 فإِنَّ مَا عَجِزَتْ عَنْهُ الشَّرِيعَة، وقَد أَضْعَفَهَا الـجَسَد، أَنْجَزَهُ الله، حينَ أَرْسَلَ إبْنَهُ في جَسَدٍ يُشْبِهُ جَسَدَ الـخَطِيئَة، تَكْفيرًا لِلخَطِيئَة، فقَضَى في الـجَسَدِ عَلى الـخَطِيئَة،
يركّز بولس في هذه الآية على شريعة موسى. وكلامه هنا يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالحوار الوارد عن الشريعة في الفصل السَّابع، لا بل يُعتبر خلاصةً له.
يبدأ الرسول بولس هنا بقوله: "فإنَّ ما عجزَت عنه الشريعة، وقد أضعفها الجسد...". لم تستطع الشريعة أن تحرّر بولس من "شريعة الخطيئة والموت"، لأنَّه كان "ضعيفًا بالجسد" (روم 8: 3). لم يقل بولس إنَّ الشريعة بحدّ ذاتها ضعيفة، لأنَّ الله نفسه هو الَّذي أعطاها لموسى. لكن ما كان يجب فعله بواسطة الجسد، كان ضعيفًا. بما أنَّ الانسان اعتمد فقط على مصادره البشريَّة، لم يستطع حفظ الشريعة حفظًا كاملًا. وبسبب هذا الضعف، لم تقدر الشريعة على تحرير الانسان.
لم تستطع الشريعة أن تحرّر الناس بسبب الجسد؛ ولكنَّ الله حرَّر النَّاس مستخدمًا الجسد: "فإنَّ ما عجزَت عنه الشريعة....أنجزه الله، حين أرسل ابنه في جسدٍ يُشبه جسد الخطيئة، تكفيرًا للخطيئة، فقضى في الجسد على الخطيئة" (روم 8: 3). لم يُرسل الله ابنه إلى العالم فحسب، بل أرسله كذبيحة خطيئة. جاءت الآية الثَّالثة في النص اليونانيّ كما يلي: perí hamartía، أي "بخصوص الخطيئة" أو "بما يختصُّ بالخطيئة". لكن استُخدِم هذا الـمُصطلح في الترجمة السبعينيَّة للعهد القديم ليشير إلى "تقدمات الخطيئة" (راجع مز 40: 7). إنَّ عبارة "ذبيحة خطيئة" تُذكّر القارئ بالحيوانات الَّتي كانت تُذبَح كذبائح خطايا في العهد القديم. يرمز موت الحيوان المقدَّم كذبيحة، إلى خطورة الخطيئة، كما يُشير إلى رغبة الله ليضع عقوبة انتهاك الشريعة على شخصٍ آخر. فما رُمِز إليه قديمًا بحيوانٍ بريء، تمَّمه الله "بتقدمة جسد يسوع المسيح مرَّةً واحدة" (عب 10: 10)، "لأنَّه يستحيل على دم الثّيران والتيوس أن يُزيل الخطايا" (عب 10: 4). والنتيجة: "قضى (الله) في الجسد على الخطيئة" (روم 8: 3)، الَّتي حملها يسوع عندما عُلّق جسده على الصليب (راجع 1 قور 15: 3؛ 2 قور 5: 21)، لأنَّ الله "لم يبخُل بابنه، بل سلَّمه إلى الموت من أجلنا جميعًا" (روم 8: 32).
4 لِكَي يَتِمَّ بِرُّ الشَّرِيعَةِ فينَا، نَحْنُ السَّالِكينَ لا بِحَسَبِ الإِنْسَانِ الـجَسَدِيِّ بَلْ بِحَسَبِ الرُّوح؛
يكشف بولس في هذه الآية عن السبب الأساسيّ الَّذي من أجله أرسل الله ابنه: "لكي يتمَّ برُّ الشَّريعة فينا، نحن السَّالكين لا بحسب الانسان الجسديّ بل بحسب الروح". بقوله "برّ الشريعة"، لا يقصد بولس طاعتنا الكاملة لجميع وصايا شريعة موسى؛ لأنَّه قال قبل ذلك إنَّنا قد متنا عن الشريعة وتحرَّرنا منها (راجع روم 7: 4، 6).
إذًا، كيف يمكن تتميم "برّ الشريعة"؟ قال بولس إنَّ هذا البرّ يمكن تتميمه فينا "نحن السالكين لا بحسب الانسان الجسديّ بل بحسب الروح". يشير فعل "السالكين" هنا إلى الكيفيَّة الَّتي نعيش بها (راجع روم 6: 4). قال بولس سابقًا (راجع روم 7: 14-25) إنَّه لم يكن يرغب في أن "يسلك حسب الجسد"، ولكنَّه فعل ذلك. كلُّ ذلك قد تغيّر، إذ يستطيع الآن أن يسلك "حسب الروح"، أي ما يريد الروح القدس أن يعمل.
5 لأَنَّ السَّالِكِينَ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ الـجَسَدِيّ، يَرْغَبُونَ في مَا هُوَ لِلجَسَد، والسَّالِكينَ بِحَسَبِ الرُّوحِ يَرْغَبُونَ في مَا هُوَ لِلرُّوح.
تأتي أعمالنا من أفكارنا، أو قلوبنا، أو أذهاننا (راجع أم 4: 23؛ 23: 7؛ لو 6: 45). لهذا قال بولس: "لأنَّ السالكين بحسب الانسان الجسديّ، يرغبون في ما هو للجسد، والسالكين بحسب الروح يرغبون في ما هو للروح". كلمة "يرغبون" هنا هي من اليونانيَّة fronéô ، ومعناها أن يوضع الشيء موضع الاهتمام، كما وقد تشير إلى الاتّجاه العام لمشيئة الشخص. فهي سلوك الشخص الأساسيّ، الّذي يحدّد أخلاقه.
عندما نقرأ في هذه الآية "يرغبون في ما هو للجسد"، قد نفكّر في ما هو غير أخلاقيّ، أو ما هو شرّيرٌ أصلًا. لا بدَّ أنَّ العبارة "في ما هو للجسد" تشتمل على ذلك النوع من الأخلاق، ولكنَّها غير محصورة فيه. لأنَّه إن عدنا إلى تعابير القدّيس بولس في رسالته إلى أهل غلاطية، نجد أنَّه عندما يعدّد أعمال الجسد، يذكر إلى جانب "الزنى"، "السكر"، بل ويشمل أيضًا "الغيرة" و"الشقاق" (غل 5: 19-21). من هنا تشير عبارة "ما هو للجسد" إلى أعمال هذا العالم الموقَّت الزائل وسلوكه. والَّذين "يرغبون" في ذلك، هم منغمسون في هذه الحياة، يركّزون فقط على ما يرَون ويذوقون.
وإزاء هؤلاء الرّاغبين في ما هو للجسد، نجد الَّذين "يرغبون في ما هو للروح"، يهتمُّون بالأمور المختصَّة بالأبديَّة؛ بصفةٍ عامَّة، لا تُرى هذه الأشياء، ولكنَّها حقيقيَّة أكثر من تلك الَّتي تُرى. إنَّها تدوم، بينما تزول الأشياء الَّتي من هذا العالم.
6 فرَغْبَةُ الـجَسَدِ مَوْت، أَمَّا رَغْبَةُ الرُّوحِ فَحَيَاةٌ وَسَلام.
في هذه الآية، يشرح بولس أهميَّة أن يرغب الانسان "في ما هو للروح"، لأنَّ "رغبة الجسد موت، أمَّا رغبة الروح فحياةٌ وسلام". بما أنَّ الجميع يموتون جسديًّا (بما في ذلك الَّذين لهم اهتمام الروح)، فلا بدَّ أن كلمة "موت" هنا تشير إلى "الموت الروحيّ"، أي الانفصال عن الله. من ناحيةٍ أخرى، "رغبة الروح حياةٌ وسلام". تشير كلمة "حياة" هنا إلى الحياة الروحيَّة، أي إلى الشركة الروحيَّة مع الله. هذا ما سبق وعبَّر عنه الرسول بولس بقوله: "فبما أنَّنا قد بُرّرنا بالإيمان، صار لنا سلامٌ مع الله بربّنا يسوع المسيح" (روم 5: 1).
7 لِذلِكَ فَرَغْبَةُ الإِنْسَانِ الـجَسَدِيِّ عَدَاوَةٌ لله، لأَنَّهَا لا تَخْضَعُ لِشَريعَةِ اللهِ ولا تَسْتَطيعُ ذلِكَ.
8 وإِنَّ السَّالِكينَ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ الـجَسَدِيّ، لا يَسْتَطيعُونَ أَنْ يُرْضُوا الله.
عبّر بولس عن العاقبة الأخيرة لـ"رغبة الجسد"، وهي "الموت" (روم 8: 6). ولكنَّه أراد أن يوضح جليًّا مأساة مثل هذا الاهتمام. لذا قال: "فرغبة الانسان الجسديّ عداوةٌ لله". تُرجمَت كلمة "عداوة" هنا من اليونانيَّة echthra، أي "الكره" أو "البغض"، أي "العداوة بكلّ ما فيها من معنى". ثمَّ أضاف بولس: "...لأنَّها لا تخضع لشريعة الله ولا تستطيع ذلك" (روم 8: 7)، مؤكّدًا على ما أوضحه آنفًا (راجع روم 7: 14-25).
لهذا استخلص بولس قائلًا: "وإنَّ السالكين بحسب الانسان الجسديّ، لا يستطيعون أن يرضوا الله" (روم 8: 8). إنَّ عبارة "الجسديّ" هنا لا تعني الَّذين لهم أجساد، لأنَّ هذا يعني أنَّه لا يستطيع أيٌّ منَّا إرضاء الله. بل "الجسديّ" بمعنى أن يحاول الشخص أن يعيش حياته معتمدًا فقط على المصادر الجسديَّة من دون الاعتماد على قدرة الله.
9 أَمَّا أَنْتُم فَلَسْتُم أُنَاسًا جَسَدِييِّنَ بَلْ رُوحِيُّون، إِنْ كَانَ حقًّا رُوحُ اللهِ سَاكِنًا فيكُم. وَلـكِنْ مَنْ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الـمَسِيح، لَيْسَ هُوَ لِلمَسِيح.
10 أَمَّا إِذَا كَانَ الـمَسِيحُ فيكُم، فَبِرَغْمِ أَنَّ الـجَسَدَ مَيْتٌ بِسَبَبِ الـخَطِيئَة، فَالرُّوحُ حيَاةٌ لَكُم بِفَضْلِ البِرّ.
11 وإِذَا كَانَ رُوحُ اللهِ الَّذي أَقَامَ يَسُوعَ مِنْ بَينِ الأَمْواتِ سَاكِنًا فيكُم، فالَّذي أَقَامَ الـمَسِيحَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ يُحْيي أَيْضًا أَجْسَادَكُمُ الـمَائِتَةَ بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُم.
كان بولس يتكلّم على سيطرة الجسد في تباينٍ مع سيادة الروح، وقد أعطى تطبيقًا شخصيًّا، لذلك انتقل من صيغة الغائب "هم" (روم 8: 8) إلى صيغة المخاطَب "أنتم" (روم 8: 9). من الكلمات الرئيسيَّة في هذه الآيات الثلاث (روم 8: 9-11)، كلمة "ساكنًا" (روم 8: 9، 11). قال بولس سابقًا (راجع روم 7: 17، 20) بأنَّ الخطيئة كانت تسكن فيه، وفعل "سكن" هنا (باليونانيَّة oikéô)، لا يشير إلى "إقامةٍ دائمة"، لأنَّ بولس أجرى مقارنةً بين "الساكن الجسديّ" القديم و"الساكن السماويّ" الجديد.
في الآية التاسعة نتذكَّر ما عمله الله عندما تعمَّدنا، إذ أعطانا عطيَّة الروح القدس. وفي الآية العاشرة ما يعمله الله الآن، بمنحِنا الحياة بالرُّوح الَّذي نلناه في العماد. وفي الآية الحادية عشرة، إلى ما سيعمله في المستقبل، عندما سيقُيمنا من الأموات بالروح القدس عينه.
قال بولس: "إنَّ السالكين بحسب الانسان الجسديّ، لا يستطيعون أن يرضوا الله" (روم 8: 8). ويقول الآن: "أمَّا أنتم فلستُم أُناسًا جسديّين بل روحيُّون، إن كان حقًّا روح الله ساكنًا فيكم" (روم 8: 9). يشدّد بولس، في هذه الآية، على الضمير المخاطب الجمع "أنتم"، بمعنى أنَّ ما قاله في الآية الثَّامنة لا ينطبق "عليكم أنتم"، لأنَّكم لستم في الجسد، بل في الروح، وذلك "إن كان حقًّا روح الله ساكنًا فيكم" (روم 8: 9). يشبه "روح الله" نبضة قلب الانسان. يبحث الطبيب أوَّلًا عن الخفقان ونبضة القلب ليعرف ما إذا كان المريض قد مات أم لا. هكذا أيضًا من دون "روح المسيح" يكون الانسان ميتًا روحيًّا. بالتَّالي، إن لم يكن للانسان "روح المسيح" فهو لا ينتمي إلى المسيح.
كلمة "الجسد"، المذكورة في الآية العاشرة، هي الجسد الطبيعيّ المذكور أيضًا في الآية الحادية عشرة. حتَّى وإن كان الانسان مسيحيًّا، والروح القدس ساكنًا فيه، يبقى جسده خاضعًا للموت الجسديّ. إنَّه "ميتٌ بسبب الخطيئة" (روم 8: 10). بما أنَّ هذا صحيح، "فالروح حياةٌ لكم بفضل البرّ" (روم 8: 10)، لأنَّكم قد تبرَّرتم بدم المسيح. بتعبيرٍ آخر، الجسد ميتٌ بسبب آدم، ولكنَّ الروح حيٌّ بسبب المسيح.
هل هذا يعني أنَّ خدمة الروح القدس محصورةٌ في روح الانسان، وليس لها تأثيرٌ على أجسادنا؟ لا! هذا ما تشرحه الآية الحادية عشرة، الَّتي تشتملُ على وعدٍ: "إذا كان روح الله الَّذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم، فالَّذي أقام المسيح من بين الأموات يُحيي أيضًا أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم" (روم 8: 11). في القيامة، لا يأتي الله بأجسامٍ جديدة لتحوي أرواحنا، بل سيُحيي "أجسادنا المائتة". يُشير الفعل "سيُحيي" إلى الحياة بكامل مفهومها: سيُعطى الانسان حياةً جديدة تتناسب في أن يكون في حضرة الله إلى الأبد.