الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2022-06-18
2 لأَنِّي قَرَّرْتُ أَنْ لا أَعْرِفَ بَيْنَكُم شَيْئًا إِلاَّ يَسُوعَ الـمَسِيح، وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا!
كلّ ما علَّمه بولس كان منسجمًا مع الحقيقة المركزيَّة لرسالته ومنبثقًا منها، ألا وهي "يسوع المسيح، وإيَّاه مصلوبًا". اختار بولس بوعيٍ أن يقف على الرسالة الَّتي كان يعرف أنَّ حكماء هذا العالم سيزدرونها. لم يكن هدفه تعزيز مكانته الشخصيَّة، ولم يقبل المساومة بالإنجيل؛ إنَّما اختار أن يتكلَّم وفقًا لما أعطاه الله من أجل تقديس أهل قورنتس.
لقد كان صَلْبُ يسوع المسيح من أجلهم، مجدًا لهم. لذا، سماحُهم لحكماء هذا الدهر بأن يغزوهم، هو بمثابة رفضهِم لحكمة الله.
3 وقَدْ جِئْتُ إِلَيْكُم بِضُعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ شَدِيدَة.
لم يقدّم بولس نظريَّات مجرَّدة عن الحكمة؛ لكنَّه ومن دون تردُّد، أجرى مقارنة بينه وبين الحنكة السلسة الَّتي كان يتوقَّعها أهل قورنتس من الفلاسفة المحترِفين والبليغِين. خلافًا لهم، كان هو مستعدًّا لأن يُبيّن "ضعفه وخوفه ورعدته الشديدة". بولس الَّذي علَّمهم الإنجيل، لم يكن بطلًا ولا خطيبًا فصيح اللّسان، ولا معلّمًا مشهودًا له، بل جاء بضعفٍ، وبقوَّة الصليب.
لكي يضيف بولس قوَّةً إلى كلامه، ذكَّر قرَّاءه بوصوله إلى قورنتس لأوَّل مرَّة (الأحداث الموجَزة في الفصل الثامن عشر من سِفر أعمال الرسل). كان قد سافر إلى قورنتس، فيما كان طيموتاوس وسيلاد في مقدونية (تسالونيكي وفيليبّي) يبنيان الكنائس هناك. كان بولس قد وصل إلى قورنتس وحده. لذا، عمل على تذكير المسيحيّين هناك بتلك الأيَّام الأولى، حتَّى يستطيعوا أن يشهدوا لذلك الانسان الَّذي لم يأتِ بأيَّة مؤهَّلاتٍ من الحكمة والفصاحة، بل بمنطق الحكمة الإلهيَّة.
4 ولَمْ يَكُنْ كَلامِي وَتَبْشِيري بِكَلِمَاتِ الْحِكْمَةِ والإِقْنَاع، بَلْ بِبُرْهَانِ الرُّوحِ وَالقُدْرَة،
استخدم بولس هنا كلمَتين: "الكلام" و"التبشير". فالكلمَتَان "كلامي وتبشيري" عند جمعهما معًا، تقدّمان ملء التَّعبير الَّذي أراد بولس إيصاله. فإنَّ تعليمه لم يكن "بكلمات الحكمة والإقناع"، كما لم يُقدّمه بالفصاحة الَّتي اعتاد أهل قورنتس على سماعها من السفسطائيّين الَّذين كان يجتازون المدينة. على عكس ذلك، كانت كرازة بولس مصحوبةً "ببرهان الرُّوح والقدرة"، أي بشهادة الروح القدس. فليست التعابير البلاغيَّة هي الَّتي تثبّت حقيقة ما علَّم به بولس أهل قورنتس.
لا يقف بولس بمعزلٍ عن الرسالة الَّتي كان ينادي بها. فهو نفسه، وشخصيَّته، وسمعته، وعلاقته بالله، ورجاؤه في المسيح، كانت كلُّها جزءًا لا يتجزّأ من الرسالة الَّتي كان قد كرز بها في قورنتس.
5 لِئَلاَّ يَكُونَ إِيْمَانُكُم قَائِمًا عَلى حِكْمَةِ النَّاس، بَلْ عَلى قُدْرَةِ الله.
انتقل بولس من الكلام على "كرازته وتبشيره" (1 قور 2: 5)، إلى إيمان أهل قورنتس. كان قد علَّمهم وتصرَّف بالكيفيَّة الَّتي تصرَّف بها "لئلَّا يكون إيمانهم قائمًا على حكمة النَّاس، بل على قدرة الله" ليخلُصوا.
كان الروح القدس مصدر حكمة بولس (راجع 1 قور 2: 10)، وهذا الروح يمنح أهل قورنتس حكمةً بطريقته الخاصَّة. فإنَّهم معًا يتشاركون بثمار الفداء على الصَّليب. وإن فعلوا ذلك، فإنَّ الانشقاقات والولاءات التحزُّبيَّة ستنحلّ.
6 غَيْرَ أَنَّنَا نَنْطِقُ بِالـحِكْمَةِ بَيْنَ الكَامِلين، ولـكِنْ لا بِحِكْمَةِ هـذَا الدَّهْر، ولا بِحِكْمَةِ رُؤَسَاءِ هـذَا الدَّهْرِ الَّذِينَ مَصِيرُهُم إِلى الزَّوَال.
حدثت تحزُّبات في كنيسة قورنتس لأنَّ الحكمة فُهِمَت بطريقةٍ خاطئة. لم يتخلَّ بولس عن كلمة "حكمة"، لأنَّ "حكمة الله" (1 قور 1: 21) هي الَّتي دعمت الإنجيل. فحكمة الله هي "المسيح، وإيَّاه مصلوبًا" (1 قور 1: 23، 24). كان فداء أهل قورنتس شهادةً على "حكمة الله" (1 قور 1: 30)، ولكنَّ "رؤساء هذا الدهر" (1 قور 2: 6) قد اخترعوا صورةً مزيَّفة لحكمة الله. أمَّا بولس، فقد اختار حكمة الله المبنيَّة على "المسيح المصلوب" (1 قور 2: 2)، الَّتي من شأنها أن تُخمد الانشقاقات الصغيرة الَّتي تجعلهم مضطربين.
7 بَلْ نَنْطِقُ بِسِرِّ حِكْمَةِ اللهِ المَحْجُوبَة، الَّتي سَبَقَ اللهُ فَحَدَّدَهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لِمَجْدِنَا
لم تكن الحكمة الَّتي ينادي بها بولس شيئًا سريًّا يجب اكتشافه، لأنَّ الله نفسه هو الَّذي أعلن "السرّ الَّذي كان مكتومًا منذ الدهور" (قول 1: 26)، عن طريق الصليب ليفتح الباب، بيسوع، لجميع النَّاس (راجع 1 قور 1: 30). "حكمة الله المحجوبة" لم تكن معروفة في الماضي؛ ولكنْ الآن، وببشارة الإنجيل، أصبحت مكشوفة للعالم.
اختار بولس كلمة "سرّ" (mustêrion) بوعيٍ، وهو مصطلحٌ له أهميَّةٌ خاصَّة في العالم النَّاطِق باللغة اليونانيَّة آنذاك. كانت هناك سمةٌ قديمة للدّين الإغريقيّ تتمثَّل في مراسم سريَّة للَّذين يدخلون طوائف لآلهةٍ أو لآلهاتٍ معيَّنين. كان الإغريق يسمُّون هذه الطقوس الشعائريَّة بــ "أسرار" أو "ديانات سريَّة".
كان بولس حريصًا في قوله بأنَّ التبشير بالمسيح لم يهبط فجأةً على العالم، بل إنَّ خطَّة الله لخلاص كلٍّ من الأمم واليهود، بالمسيح المتألّم، كانت منذ الدهور. بهذا المفهوم، كان الله قد "سبق فحدَّد قبل الدهور" هذا العمل.
8 وهيَ الـحِكْمَةُ الَّتي لَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ هـذَا الدَّهْر، لأَنَّهُم لَوْ عَرَفُوهَا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الـمَجْد.
الحكمة الَّتي رافقت بولس في كرازته بالصَّليب، كانت مختلفةً عن تلك الَّتي قدَّمها الفلاسفة المعاصرين في ذلك الزمان. فالخطباء المتجوّلون في السُّوق، الَّذين يكرههم البعض، والبعض الآخر يُعجب بهم، إلى جانب "رؤساء هذا الدهر"، قد أظهروا جهلهم لحكمة الله عندما "صلبوا ربَّ المجد". كان ينبغي على المسيحيّين في قورنتس أن يقدّموا جماعة واحدة واقفة تحت راية الصليب. لكنَّ جهلهم أدّى بهم إلى التهكُّم.
9 ولـكِنْ، كَمَا هوَ مَكْتُوب: "مَا لَمْ تَرَهُ عَيْن، ولَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُن، ولَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَر، قَدْ أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ".
مصدر هذا الاقتباس غير معروف تمامًا؛ قد يكون ترجمةً حرَّة لما ورد في سفر أشعيا (74: 4)، على الرغم من أنَّ النقطتَين اللَّتين أدلى بهما أشعيا وبولس مختلفتَان إلى حدٍّ كبير. من المرجّح أن يكون بولس قد اختار أجزاءَ من المرجع المذكور أعلاه من أشعيا النبيّ، بسبب صلتها بالموضوع الَّذي كان يكتب عنه، ووسَّع الفكرة كما أراد، بقدر ما رأى ذلك مناسبًا. لم يَقُل بولس أبدًا إنّ السياق الوارد في سفر أشعيا يعلّم قرَّاءه الفكرة نفسها الَّتي أراد أن يفهمها أهل قورنتس، بل لجأ بولس إلى الكلام الوارد في سفر أشعيا عن "ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر"، ليربطه بالوضع في قورنتس.
كلمات أشعيا ساعدت بولس على إيصال حقيقَتَين: أوَّلًا، أكَّد أنَّ حكمة الله الـمُعلَنة في رسالة المسيح المصلوب قد سبقت فأدَّت إلى بركاتٍ لشعب الله فوق ما يتخيَّل البشر؛ ثانيًا، ما زال هناك المزيد من البركات ممَّا "أعدَّه الله للَّذين يحبُّونه".
العبارة اليونانيَّة المترجمة في هذه الآية بــ "قلب بشر" (kardían anthrôpou)، تعني حرفيًّا "قلب الانسان". تحدَّث بولس مجازيًّا، كبقيَّة الناس الَّذين كانوا يعيشون في ذلك الزمان، عن القلب كمركز الفكر البشريّ. وكان معاصروه يعتبرون الأمعاء، وفي بعض الحالات الكِلى، كمقرٍّ للمشاعر. كان القلب يرمز إلى الحياة الداخليَّة بكاملها، بما في ذلك الفكر والإرادة.
10 لـكِنَّ اللهَ أَعْلَنَهُ لَنَا بِرُوحِهِ، لأَنَّ الرُّوحَ يَسْبُرُ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ الله.
استعار بولس هذه الصياغة من أشعيا لإقناع قرَّائه بأنَّ الحكمة "بين الكامِلين" (1 قور 2: 6)؛ أي النَّاضجة، الَّتي قبلها المسيحيُّون، تفوق بشكلٍ لا يُقاس الحكمة الَّتي يُمارسها "رؤساء هذا الدهر" (1 قور 2: 6، 8). تفوُّقها هذا، مُستمَدٌّ من كَون الله هو الَّذي "أعلن لنا بروحه، لأنَّ الروح يسبر كلَّ شيءٍ حتَّى أعماق الله".