الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2022-04-23
12 ولَسْنَا نَعُودُ فَنُوَصِّيكُم بِأَنْفُسِنَا، بَلْ نُعْطِيكُم فُرْصَةً لِلإفْتَخَارِ بِنَا تُجَاهَ الَّذينَ يَفْتَخِرُونَ بِالـمَظْهَرِ لا بِمَا في القَلْب.
بعد ذلك، يضيف بولس: "لسنا نعود فنوصيكم بأنفسنا، بل نعطيكم فرصةً للافتخار بنا تجاه الَّذين يفتخرون بالمظهر لا بما في القلب" (2 قور 5: 12). إنَّ الكنيسة غير المطَّلعة على حقائق الأمور، ستكون غير قادرةٍ عن الدفاع عن الإيمان الصَّحيح وسط الآراء المتعدّدة المتعلّقة بالإيمان المسيحيّ. ومن دون أجوبة مُقنعة، لن يعرف المسيحيّ ما هي سِمَته الأساسيَّة.
الكلمة اليونانيَّة aformên الـمُتَرجمة هنا بــ"فرصة"، هي كلمة تُستخدم كأساسٍ للعمليَّات في الحملة العسكريَّة. في بعض الأحيان، استُخدمت هذه الكلمة للمصادر اللَّازمة للحملة. وكان نجاح الحملة العسكريَّة أو فشلها يعتمد على الموارد الكافية وخطوط الإمدادات الأساسيَّة. هكذا الكنيسة، بالنسبة إلى بولس، تبقى عاجزة عن الدفاع إن تُركت بلا حمايةٍ ومن دون مؤنٍ أساسيَّة متينة للإيمان. وكأنّ بولس يقول: كيف يمكنني التكلّم على عملي كخادمٍ لله من دون الرُّجوع إلى المبادئ الأساسيَّة على الإطلاق؟ فإن فقدت هذا، فقدتُ كلَّ شيء!
على الرغم من أنَّ كنيسة قورنتس كانت قد سمعت الكلمات قبلًا بأنّ "واحدًا مات عن الجميع"، إلَّا أنَّها احتاجت إلى سماع تلك الرسالة الأساسيَّة مرَّةً أخرى. قد تبدو طريقة بولس في الإجابة على النقاط، المتنازع عليها في قورنتس، غريبة،إذ ما يهمُّ القارئ أو متلقّي الرسالة، عادةً، هو "النجاح" الَّذي سيتحقَّق، أكثر من التركيز على ما هو "صحيح". علاوةً على ذلك، ينبهر الانسان بالأفكار الجديدة لدرجة أنَّه يقرّر بسهولة رفض البشارة القديمة، ويعتبرها متهرّئة ولا تستحقُّ التكرار. لكنَّ الرَّسول بولس يُبرز هنا الرسالة القديمة في وقتٍ حرجٍ للغاية، لأنَّها المعيار الوحيد لتحديد ماهيَّة علامات الرَّسول الحقيقيّ للمسيح يسوع؛ وزاد معركته هي حقيقة من "مات من أجل الجميع" (2 قور 5: 11).
13 فإِنْ كُنَّا مَجَانِينَ فَلِلّه، وإِنْ كُنَّا عُقَلاءَ فَلأَجْلِكُم؛
تعطي هذه الآية انطباعًا عن المبادئ الَّتي حدَّدت عمل بولس، وربَّما ذكرها بولس لأنَّ آخرين قالوا إنَّه لم يكن "منتشيًا" بما فيه الكفاية. ففي الواقع، كلمة "مجانين" هنا هي في الأصل اليونانيّ "منتشيًا" (exestêmen). فإن كان بولس "منتشيًا" فذلك بينه وبين الله، وهو لا يعرض إنجازاته أمام الآخرين ليحقّق تقدُّمه. لا يبحث بولس عن الصدارة، لأنَّ خدمته هي "لله" و"للآخرين"، ورفضٌ للأنانيَّة.
14 إِنَّ مَحَبَّةَ الـمَسِيحِ تَأْسُرُنَا، لأَنَّنَا أَدْرَكْنَا هـذَا، وهوَ أَنَّ وَاحِدًا مَاتَ عَنِ الـجَمِيع، فَالـجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا.
ما الَّذي جعل بولس يرفض معايير ثقافة مجتمع قورنتس؟ "محبَّة الله الَّتي تأسره". الفعل اليونانيّ sunechei الـمُترجَم هنا "تأسرنا"، لافتٌ للنَّظر؛ فهو يعني "تحجزنا" أو "تدفعنا". كان هذا الفعل يُستخدم للسجين الـمُحتَجَز مِن قِبَل سلطةٍ عليا. وبولس قد "احتُجزَ" أو "أُسِرَ" بسبب محبَّة المسيح. فهو يتصرَّف بشكلٍ مختلفٍ عن الآخرين، لأنَّ هذا الحبَّ غمره. لذا يتصرَّف بدافع الحبّ المجَّانيّ الَّذي امتلكه بكليَّته.
يتكلَّم بولس في مكانٍ آخر عن هذه المحبَّة الغامرة: "أمَّا الله فأثبت محبَّته لنا بأنَّنا، حين كنَّا بعد خطأة، مات المسيح من أجلنا" (روم 5: 8)؛ و"مَن يفصلنا عن محبَّة المسيح؟" (روم 8: 35). لقد تأثَّر شخصيًّا بحبّ الله، لأنَّه كان محبوبًا. هذه هي الحقيقة الَّتي طبعَت خدمته.
عندما تذكَّر بولس الحبَّ الَّذي طبعه، فكَّر بالصَّليب. ففي خضمّ الحديث عن خدَّام الله الحقيقيّين والمزيَّفين، يستشهد بولس بما سبق وقاله في رسالته الأولى: "واحدًا مات عن الجميع". لم تكن هذه العبارة بلا معنى، لأنَّه بها يتذكَّر، كلَّ يومٍ، أنَّ المسيحيَّة بدأت بفعل حبٍّ غير أنانيّ، عندما رفض يسوع المسيح معيار التمركز حول الذَّات. ففي قلب الإيمان يوجد حرف الجرّ "عَن"؛ مات المسيح "عن" خطايانا (راجع 1 قور 15: 3) و"عَن الكافِرين" (روم 5: 6) ومنهم بولس.
15 لَقَدْ مَاتَ عَنِ الـجَمِيع، لِكَي لا يَحْيَا الأَحْيَاءُ مِنْ بَعْدُ لأَنْفُسِهِم، بَلْ لِلَّذي مَاتَ عَنْهُم وقَامَ مِن أَجْلِهِم.
إن كان يسوع لم يكن أنانيًّا، فما هي سمة المسيحيّ إذًا؟ يجيب بولس بأنّ "واحدًا مات عن الجميع، فالجميع إذًا ماتوا" (2 قور 5: 14ب)، "لقد مات عن الجميع، لكي لا يحيا الأحياء بعد لأنفسهم، بل للَّذي مات عنهم وقام من أجلهم" (2 قور 5: 15). ما يميّز المسيحيّ هو أنَّه لم يعُد منشغلًا بإنجازاته أو سمعته أو شهرته. أولئك الَّذين ينتمون إلى المسيح يتميَّزون برغبتهم في العيش من أجل الآخرين. قد يعيشون تجربة اختيار الخدَم الَّتي تجعلهم يشتهرون. لكن إن عادوا إلى مثل يسوع ليجدوا اتّجاههم الصحيح، فسوف "يُؤسرون" بطريقته؛ لأنَّ المسيح لم يختارهم ليكونوا ناجحين، بل ليكونوا أمناء.
16 إِذًا فَمُنْذُ الآنَ نَحْنُ لا نَعْرِفُ أَحَدًا مَعْرِفَةً بَشَرِيَّة، وإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الـمَسِيحَ مَعْرِفَةً بَشَرِيَّة، فَالآنَ مَا عُدْنَا نَعْرِفُهُ كَذلِكَ.
النقطة الأساسيَّة في هذه الآية هي أنَّ الصَّليب – ذلك الحدث الَّذي اعتُبر حماقةً وفقًا للمعايير البشريَّة – أعطى بولس طريقةً جديدة تمامًا للنَّظر إلى العالم. فعبارة "منذ الآن" تشير إلى الاختبار الجديد في المسيح الَّذي غيَّر بولس. فهو "لا يعرف أحدًا معرفةً بشريَّة" (باللُّغة اليونانيَّة kata sarka، أي وفقًا للمعايير البشريَّة)، لأنَّ الصَّليب يعني نهاية المعايير الدنيويَّة: "ما عدنا نعرفه كذلك"؛ هذا ما يُبرزه بولس في الآية التَّالية.
17 إِذًا، إِنْ كَانَ أَحَدٌ في الـمَسِيحِ فَهُوَ خَلْقٌ جَدِيد: لَقَدْ زَالَ القَدِيم، وصَارَ كُلُّ شَيءٍ جَدِيدًا.
عندما يتَّحد الانسان بالمسيح يُصبح "خلقًا جديدًا" ويرى العالم بطريقة جديدة، لأنَّ "كلَّ شيءٍ قد صار جديدًا". فما كان في السَّابق مهمًّا لم يعد ذا أولويَّة، والقيم الَّتي لم تُجدِ نفعًا أصبحت فجأةً ذات مغزى. قَلْبُ المقاييس هذا، وُلد من رحم الصَّليب؛ ولأنَّ هذه الحقيقة أساسيَّة، قيَّم بولس خدمته وفقًا لمعايير الله، لا معايير البشر.
18 وكُلُّ شَيءٍ هُوَ مِنَ الله، الَّذي صَالَحَنَا مَعَ نَفْسِهِ بِالـمَسِيح، وأَعْطَانَا خِدْمَةَ الـمُصَالَحَة؛
غالبًا ما يؤدّي غرور الانسان إلى العيش وفقًا للمعايير البشريَّة، فيميل إلى البحث عمَّا يعطيه سببًا للافتخار بإنجازاته. كما وأنَّه يميل إلى تجنُّب الخِدم الَّتي لا تجلب إمكانيَّةً كبيرة للنجاح. وهنا يُطرح السؤال: لِمَن الخدمة؟
يُجيب بولس على هذا السؤال بأنَّ "كلَّ شيءٍ هو من الله". وعندما يقول بأنَّ "الله صالح العالم مع نفسه بالمسيح، وأعطانا خدمة المصالحة" فهذا يعني أنَّ كلَّ شيءٍ بدأ بمبادرةٍ إلهيَّة، والانسان لم يفعل شيئًا ليُعيد نفسه إليه.
19 لأَنَّ اللهَ صَالَحَ العَالَمَ مَعَ نَفْسِهِ بِالـمَسِيح، ولَمْ يُحَاسِبِ النَّاسَ عَلى زَلاَّتِهِم، وأَوْدَعَنَا كَلِمَةَ الـمُصَالَحَة.
عندما تكلَّم بولس على الصَّليب، استخدم صورةً مُدهشة ليُعلن ما فعله الله: على الصَّليب "صالح الله العالم مع نفسه بالمسيح". تشير العبارة إلى استعادة السَّلام والوئام بعد فترةٍ من القطيعة (راجع 1 قور 7: 11). هذا ما يذكّرنا بالتحيَّة العبريَّة shalom الَّتي كانت تُلقى عادةً في الشَّارع؛ وهي تعني "السَّلام"، لكنَّها تحمل معنًى أكثر من غياب العداء، ألا وهو "الانسجام والكمال".
إن كان الله قد صالحنا، فقد "أودعنا خدمة المصالحة"، أي إنَّ المصالحة هي أمانة في عنق المسيحيّ. فخدمته ليست ملكه ليفعل بها كما يشاء، بل هو مؤتمن على وكالة. لذا، كلُّ خدمة رسوليَّة حقيقيَّة هي "خدمة مصالحة".
20 إِذًا فَنَحْنُ سُفَرَاءُ الـمَسِيح، وكَأَنَّ اللهَ نَفْسَهُ يَدْعُوكُم بِوَاسِطَتِنَا. فَنَسْأَلُكُم بِاسْمِ الـمَسِيح: تَصَالَحُوا مَعَ الله!
بولس هو "سفير المسيح"، وكانت كلمة "سفير" تعبّر عن احترامٍ كبير، على عكس بعض المصطلحات الأخرى للخدمة كــ "العبد" (2 قور 4: 5)، أو "الخادم" (2 قور 6: 4). ففي أيَّام بولس، كان للسَّفير الحقّ في التكلُّم بشكلٍ كامل باسم قائده. وأولئك الَّذين يكلّمهم، كانوا يعرفون أنَّ كلماته كانت حقًّا كلمات مُرسِله. وعندما عمل من أجل السَّلام، كانت تسانده سلطة سيّده كاملةً. هكذا، عندما ناشد بولس الآخرين لقبول "سلام الله"، كان الله هو نفسه الَّذي يناشدهم من خلال رسوله.
21 إِنَّ الَّذي مَا عَرَفَ الـخَطِيئَة، جَعَلَهُ اللهُ خَطِيئَةً مِنْ أَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ فِيهِ بِرَّ الله.
المسيح "الَّذي ما عرفَ الخطيئة"، قَبِلَ أن يكون "خطيئةً من أجلنا" وحمل ثقل خطايا البشريَّة. أخذ المسيح موضعَنا، وحُسب بين الخطأة، ليهَبَنا موضعه، فنُحسَب في عينَي الآب أبرارًا، إذ "نصير نحن فيه (في المسيح) برَّ الله". إنَّه عرضٌ فريدٌ ورائع يكشف عن خبرة الرَّسول بولس الفائقة مع صليب يسوع المسيح الَّذي قلب حياته رأسًا على عَقِب.