الأخت دولّي شعيا (ر.ل.م)
مقالات/ 2021-12-18
2 هذَا الإِنْجِيلِ الَّذي وَعَدَ بِهِ اللهُ مِنْ قَبْلُ، بَأَنْبِيَائِهِ في الكُتُبِ الـمُقَدَّسَة،
أراد بولسُ أن يعرفَ الجميعُ جذورَ "الإنجيل (البشرى السَّارَّة)" العميقةَ المكنونةَ في العهد القديم (تحتوي الرسالة إلى أهل روما على أربعة وسبعين اقتباسًا من العهد القديم). لا بل، أراد لقرَّائه أن يفهموا أنَّ الإنجيل يشير إلى يسوع، وهذا ما سيتكلَّم عليه في الآية التالية.
3 في شَأْنِ ابْنِهِ الَّذي وُلِدَ بِحَسَبِ الـجَسَدِ مِنْ نَسْلِ داوُد،
للإنجيل محورٌ واحدٌ فقط هو المسيح. في ما يخصّ النسب البشريّ، ولد يسوع "من نسل داود"، فكان إنسانًا كاملًا، وفي الوقت نفسه إلهًا كاملًا (راجع الآية التالية).
4 وَجُعِلَ بِحَسَبِ رُوحِ القَدَاسَةِ ابْنَ اللهِ بِقُوَّةٍ أَيْ بِالقِيَامَةِ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، وهُوَ يَسُوعُ الـمَسِيحُ رَبُّنَا؛
تقدّمُ "القيامة من بين الأموات" إثباتًا لا جدل فيه عن بنّوة يسوع الإلهيَّة. لم تجعل القيامة يسوع "ابن الله" لأنَّه كان دائمًا إلهًا منذ الأزل، بل كانت القيامة إعلان الله المتواصل بأنَّ يسوعَ المسيحَ "ابنُه الحبيب الَّذي به سُرَّ" (متَّى 17: 5). كان الصَّليب الطريقة الَّتي رفض بها العالم أن يكون يسوع ابن الله (راجع متَّى 27: 40)، بينما كانت القيامة الطريقة الَّتي قال بها الله أنَّ يسوعَ هو حقًّا ابنُه. جُعِلَ يسوع "ابن الله بقوَّة". كان الرُّومان يستخدمون القوَّة ويعبدون القوَّة. ولو سألهم أحد: "مَن يملك القوَّة؟" لأجابوا: "الإمبراطور، ويسانده الجيش". لكن بالنسبة إلى بولس، الله هو الَّذي يملك القوَّة، وقد استخدم قوَّته العظيمة لإقامة ابنه من الأموات. قيامة يسوع فريدةٌ من نوعها لأنَّها ختمُ تصديقِ اللهِ على يسوعَ وكلِّ ما عمِلَه.
5 بِهِ نِلْنَا النِّعْمَةَ والرِّسَالَةَ لِكَي نَهْدِيَ إِلى طَاعَةِ الإِيْمَانِ جَميعَ الأُمَم، لِمَجْدِ اسْمِهِ؛
"النعمة" عطيَّةُ الله لأناسٍ غير مستحقّين. وفي الواقع، اختار بولس رسولًا للأمم مع أنَّه لم يكن يستحقُّ ذلك أبدًا (راجع روم 15: 15-16؛ 1 قور 15: 9-10؛ أف 3: 7-8؛ 1 طيم 1: 12-14). نال بولس "نعمةً ورسالةً" من الله الَّذي أهَّله ليكون رسولًا "يهدي إلى طاعة الإيمان جميع الأمم". إنّها المرّة الأولى التي يرِدُ فيها ذكر كلمة "إيمان" في هذه الرسالة، وهي كلمة رئيسيَّة فيها، يستخدمها بولس ليبرهن أنَّنا مخلَّصون على أساسِ الإيمان بيسوع المسيح. فإن كان الإيمان أصيلًا، تكن نتيجته الطَّاعة دائمًا. لم يكن الإيمان بالنسبة إلى بولس مجرَّد تصديقٍ عقليّ ولا حتَّى موقفِ ثقةٍ فقط، بل كانَ إيمانًا يشمل طريقة عيش الطَّاعة. لذلك، أينما ذهب، قدَّم بولس الحقَّ الَّذي يجب أن يقبله النَّاس، لا طريقة حياته هو وكيفيَّة تفكيره.
6 ومِنْ بَيْنِهِم أَنْتُم أَيْضًا مَدْعُوُّونَ لِتَكُونُوا لِيَسُوعَ الـمَسِيح؛
بعدما اختتم بولس مقدّمته، انتقل من الكلام على الأمم بصفةٍ عامَّة (راجع روم 1: 5) إلى الكلام على الأمم الَّذين في روما: "المدعوّين ليكونوا ليسوع المسيح". كلمة "مدعوّين" هي الكلمة نفسها الَّتي استخدمها بولس في الآية الأولى، وتوحي بدعوةٍ إلهيَّة. لم تتمّ دعوة أهل روما برؤيا سماويَّة كما حدث لبولس، بل دُعوا بالإنجيل؛ لم يُدعَوا كما دُعِيَ بولس، بل دُعوا ليكونوا "ليسوعَ المسيحِ"؛ فدعوتُهم الإلهيَّة تمنحهم كرامةً وقيمة.
7 إِلى جَمِيعِ الَّذينَ في رُومَا، إِلى أَحِبَّاءِ الله، الـمَدْعُوِّيِنَ لِيَكُونُوا قِدِّيسِين: أَلنِّعْمَةُ لَكُم والسَّلامُ مِنَ اللهِ أَبينَا والرَّبِّ يَسُوعَ الـمَسِيح!
المسيحيّون هم "أحبَّاء الله"، والله يحبّ الجميع طبعًا (راجع يو 3: 16)، لكنَّ له محبَّةً خاصَّةً للَّذين قبلوا دعوته. هذا بالإضافة إلى أنَّ المسيحيّين هم "قدّيسون". تُفهَم كلمة "قدّيس هنا" بطريقةٍ غير صحيحة. فهي لا تشير إلى قلَّة من البشر تمَّت ترقيتهم بعد موتهم إلى مصافِ "القدّيسين"، لأنَّ الكتاب المقدّس يعلّمنا أنَّ كل مسيحيّ "مدعو ليكون قدّيسًا". فالكلمة اليونانيَّة hagios تُشير إلى من فُرِزَ من قِبَل الله، وبعد ذلك يُطالب بأن يحيا حياةَ "القداسة". اختتم بولس هذا الجزء الطَّويل في سبع آيات بتحيَّة: " أَلنِّعْمَةُ لَكُم والسَّلامُ مِنَ اللهِ أَبينَا والرَّبِّ يَسُوعَ الـمَسِيح!". كانت كلمة "نعمة" هي تحيَّة يونانيَّة، بينما كلمة "سلام" هي التحيَّة العاديَّة عند اليهود. بهذا نجدُ تلميحًا إلى أنَّ بولسَ يناشدُ كلًّا من اليهودِ والأممِ. "النِّعمةُ" و"السَّلامُ" يأتيان مِن "الله أبينا والرَّبّ يسوع المسيح". مصدر النعمة المطلقة هو الله، والسلام الوحيد الَّذي يدوم هو في المسيح يسوع.
8 قَبْلَ كُلِّ شَيء، أَشْكُرُ إِلـهِي بِيَسُوعَ الـمَسيحِ مِنْ أَجْلِكُم جَمِيعًا، لأَنَّ إِيْمَانَكُم يُنَادَى بِهِ في العَالَمِ كُلِّهِ.
9 يَشْهَدُ علَيَّ الله، الَّذي أَعْبُدُهُ بِرُوحِي، بِحَسَبِ إِنْجِيلِ ابْنِهِ، أَنِّي أَذْكُرُكُم بِغَيْرِ انْقِطَاع،
10 ضَارِعًا في صَلَوَاتِي على الدَّوَامِ أَنْ يتَيَسَّرَ لي يَوْمًا، بِمَشِيئَةِ الله، أَنْ آتيَ إلَيْكُم.
11 فإِنِّي أَتَشَوَّقُ أَنْ أَرَاكُم، لأُشْرِكَكُم في مَوْهِبَةٍ رُوحِيَّةٍ وَأُشَدِّدَكُم،
12 أَيْ لأَتَعَزَّى مَعَكُم وَبَيْنَكُم بإِيْمَانِي وإِيْمَانِكُمُ الـمُشْتَرَك.
في هذه الرّسالة، بنى بولس جسرًا بينه وبين المسيحيّين الَّذين كانوا في روما. بعدما عبَّر عن شكره لله من أجلهم "لأنَّ إيمانهم يُنادى به في العالم كلّه" (روم 1: 8) – من روما (مكان الوثنيَّة والماديَّة والعداوة المتزايدة نحو المسيحيَّة) أضاء نور المسيح، يسطع أكثر لمعانًا لكي تراه الإمبراطوريَّة كلّها – استخدم صيغة الخشوع قائلًا: "يشهد عليَّ الله، الَّذي أعبده بروحي، بحسب إنجيل ابنه، أنّي أذكركم بغير انقطاع" (روم 1: 9)، ليؤكّد أنَّه لم يحصر صلاته بالأماكن الَّتي عمل فيها فقط، بل صلَّى أيضًا من أجل كنائس في مدنٍ لم يزرها - مثل الكنيسة الَّتي كانت في روما - ويتوجَّه إليها بهذه الرّسالة، وهي كنيسةٌ حديثةُ النشأة، لكنَّ الإخوةَ فيها حافظوا على الإيمان تحتَ ظروفٍ قاسيةٍ (راجع روم 1: 21-32).
عندما صلَّى بولس من أجلِ الجماعةِ في روما، اشتملَتْ صلاتُه على طلَبٍ مُلِحٍّ: "ضارعًا في صلواتي على الدَّوام أن يتيسَّر لي يومًا، بمشيئة الله، أن آتي إليكم" (روم 1: 10). الكلمة اليونانيَّة euodow المترجَمَة هنا "أن يتيسَّر لي"، نادرًا ما توجد في العهد الجديد، وهي كلمة تجمع بين كلمتَي "جيّد" وفكرة "الرحلة" السَّعيدة المأمونة إلى روما لأنَّه "يتشوَّق أن يراهم" (روم 1: 11). وكرَّر ذلك في نهاية الرّسالة: "أنا متشوّقٌ منذ سنواتٍ عديدةٍ أن آتي إليكم" (روم 15: 23). يشتاق أن يراهم لكي "يُشركهم في موهبةٍ روحيَّة ويشدِّدُهم" (روم 1: 11)، لأنَّ الحياةَ لم تكنْ سهلةً، وينبغي على كلّ واحدٍ أنْ يهتمَّ بتشجيعِ الآخرِ: "لأتعزَّى معكم وبينكم بإيماني وإيمانكم المشترك" (روم 1: 12).
13 ولا أُريدُ أَنْ تَجْهَلُوا، أَيُّهَا الإِخْوَة، أَنِّي عَزَمْتُ مِرَارًا أَنْ آتِيَ إِلَيْكُم، لِكَي يَكُونَ لي فيكُم ثَمَرٌ كَمَا في غَيْرِكُم مِنَ الأُمَم، ولـكِنِّي مُنِعْتُ حتَّى الآن.
توقَّع بولس أن يكون هناك اعتراضٌ من أحدهم فيقول: "لو كنتَ مشتاقًا إلى هذا الحدّ إلى المجيء إلينا، فلماذا لم تأتِ؟ لقد ذهبتَ إلى مقدونية عدَّة مرَّات وهي لا تبعُدُ إلَّا بمسافةٍ قصيرةٍ عن إيطاليا عبر بحر أدريا". لهذا تابع بولس قائلًا: "لا أريد أن تجهلوا، أيُّها الإخوة، إنّي عزمْتُ مرارًا أن آتي إليكم، لكي يكونَ لي فيكم ثمرٌ كما في غيركم من الأمم، ولكنّي مُنعتُ حتَّى الآن". استمرَّ بولس في الصلاة من أجل الذَّهاب إلى روما، ولكنَّه لم يحِنِ الأوانُ الَّذي يريده الله، فكان عليه أن ينتظر إلى حين مستعدًّا لأنْ يُخضِعَ إرادته لإرادة الله: "أن يتيسَّر لي، بمشيئة الله" (روم 1: 10).
14 إِنَّ علَيَّ دَيْنًا لليُونَانِـيِّين وغَيْرِ اليُونَانِـيِّين، لِلحُكَمَاءِ والـجُهَلاء.
سببٌ آخرُ يحثُّ الرَّسولُ بولس على الذَّهاب إلى روما هو لدفع الدَّين الَّذي كان عليه. ذِكرُهُ للمجموعاتِ: "اليونانيّين وغير اليونانيّين، الحكماءُ والجهلاءُ" ما هو إلَّا طريقة ليقول إنَّه مديونٌ لجميعِ النَّاسِ. لم يتكلَّم بولسُ على نوع الدَّين الَّذي قد يكون نتيجة إعارة شيءٍ لشخصٍ ما، بحيث يكون الشَّخص الثَّاني مديونًا للشخص الأوَّل، إلى أن يفي كلّ ما هو مديونٌ به، بل كان دَينُه من النَّوع الَّذي يحدث عندما يعطي الله شيئًا لشخصٍ ما، على هذا الأخير أن يعطيه لشخصٍ ثالث. في هذه الحالة يكون الشَّخص الثاني مديونًا للشَّخص الثَّالث حتَّى يعطيه ما هو له. يوسّع بولس هذا الموضوع لاحقًا في الرسالة قائلًا: "لـمَّا كنَّا بعد ضعفاء، مات المسيحُ في الوقتِ المحدَّدِ عن الكافرين. ولا يكادُ أحدٌ يموتُ من أجل إنسانٍ بارّ، وقد يجرؤُ أحدٌ أن يموتَ من أجل إنسانٍ صالحٍ، أمَّا الله فأثبت محبَّته لنا بأنَّنا، حين كنَّا بعدُ خطأة، ماتَ المسيحُ من أجلنا. إذًا، فكم بالأحرى، وقد بُرّرنا الآن بدمه، نخلص به من الغضب الآتي! فإن كنَّا ونحن أعداء، قد صالحنا الله بموت ابنه، فكم بالأحرى، ونحن مصالحُون، نخلص بحياته!" (روم 5: 6-10).
15 لِذلِكَ فإِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أُبَشِّرَكُم أَنْتُم أَيْضًا يَا أَهْلَ رُومَا.
ما أثَّر في بولس، فوق كلّ شيء، هو الحقيقة العجيبة أنَّ يسوع لم يخلّصه فحسب، بل أودعه أيضًا مهمَّة التبشير بالإنجيل لأهل روما. أعطاه المسيح البشارة لكي يأتي آخرون إلى الرَّبّ وينالوا البركات نفسها الَّتي كان يتمتَّع هو بها.
لهذا السَّبب أحسَّ بأنَّه مديونٌ لجميع النَّاس، في كلّ مكان، بِغَضِّ النَّظرِ عن مكانتِهم الاجتماعيَّةِ، أو الحالة الماديَّة، أو مستوى التَّعليم، أو العرق، أو الخلفيَّة، أو السنّ... وبالرغم من كلَّ المشقَّات الَّتي تعرَّض لها بما يكفي من الأذى، لم يضعف حماسه بأيّ حالٍ من الأحول لتبشير أهل روما.
16 فإِنِّي لا أَسْتَحِي بالإِنْجِيل، لأَنَّهُ قُوَّةُ اللهِ لِخَلاَصِ كُلِّ مُؤْمِن، لِليَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِليُونَانِيّ؛
17 لأَنَّ بِرَّ اللهِ يُعْلَنُ في الإِنْجِيلِ أَوَّلاً وَآخِرًا، كَمَا هُوَ مَكْتُوب: "البَارُّ بِالإِيْمَانِ يَحْيَا".
في هاتَين الآيتَين الأساسيَّتين في الرسّالة إلى أهل روما، يؤكّد بولس أنَّ الإنجيل هو "قوَّة الله للخلاص... لمن يؤمنُ"، وأنَّ "برَّ الله يُعلَنُ بالإيمان". شدَّد بولس على ضرورة الإيمان للحصول على الخلاص. لأنَّ الإيمان الَّذي يخلّص يضمُّ العقل والقلب والإرادة، أي الانسان بكامله. أوَّلًا، يشمل العقل لأنَّه مبنيٌّ على ما تمَّتْ معرفتُه عن طريقةِ شهودٍ عيانٍ (راجع روم 10: 8، 17). ثانيًا، يشملُ الإيمان القلبَ، لأنَّ مَن آمن يقبل ما قد سَمِعَه ويكون مستعدًّا لعيشه معتمدًا على ما عمله يسوع لا على قواه الشخصيَّة؛ يثق بالله بدلًا من أن يثق بنفسه. ثالثًا، يشمل الإيمان الإرادة، لأنَّ هناك جزءًا ضروريًّا جدًّا في الاتكال على الله بدلًا من الاعتماد على القوى البشريَّة، وهو وضع إرادة الله فوق إرادتنا.
وسَّع بولس هذه الفكرة عن أهميَّة الإيمان قائلًا: "لأنَّ برَّ الله يُعلن في الإنجيل" (روم 1: 17)، وهذه عمليَّة تبدأ بالإيمان وتستمرّ به، لأنَّ "البارّ بالإيمان يحيا"، أي يعيش حياته باستقامةٍ مع الرَّبّ.