الأخت راغدة عبيد ر.ل.م.
مقالات/ 2021-09-13
22 فَجَاءَ فيلِبُّسُ وَقالَ لأَندراوس، وجَاء أندراوسُ وفيلبُّسُ وقَالا لِيَسُوع.
23 فأجابَهُما يسوعُ قائِلاً: "لقَد حانَتِ السَّاعةُ لِكَي يُمجَّدَ ابنُ الإنسان.
تَناقُلُ الخَبَرِ بَينَ التّلاميذ يُصَوِّرُ أَهَمّيَّةَ طَلَبِ اليونانيّين. فَتِلْميذَينِ اثْنَينِ نَقَلَا مَطْلَبَ ورَغبَةَ هؤُلاءِ إِلى يَسوع. إِنَّهُما شَاهِدَيْنِ اثْنَينِ على هَذِهِ الحَقيقَة، فلا غِشَّ فيها. أَمَّا الخَبَرُ، فَوَقَعَ في أُذُنَي الرَّبِّ يسوع مِثلَ عَلامَةٍ لَهُ مِن الآبِ السَّماويّ. فَكانَ جوابُهُ غَريبًا جِدًّا، خارِجًا عَنِ الـمَأْلوف، جَديدًا: "لَقَد حانَتِ السَّاعَةُ لِكَي يُمَجَّدَ ابْنُ الإِنسان". هَكَذا أَرادَ الإِنجيليُّ يوحَنَّا أَن يُصَوِّرَ حَدَثَ اقْتِرابِ يَسوعَ مِن ساعَةِ آلامِهِ ومَجْدِهِ. أَرادَهُ حَدَثًا يَتَشارَكُ بِإِعلانِهِ الإِبْنُ والآبُ، مَعًا. أَرادَهُ حَدَثًا يَشْهَدُ لَهُ اليَهودُ (تلاميذُهُ) والشُّعوبُ الغَريبَةُ (اليونانيِّون)، مَعًا.
24 ألحقَّ الحقَّ أَقولُ لَكُم: إِنَّ حبَّةَ الحِنطَة، إِن لَم تَقَع في الأَرضِ وتَمُتْ، تَبقى واحِدة. وإِنْ ماتَتْ تأتي بِثَمرٍ كَثير.
25 مَنْ يُحِبُّ نَفسَهُ يَفقِدُها، ومَنْ يُبغِضُها في هذا العالَمِ يَحفَظُها لِحياةٍ أَبديَّة.
هَاتانِ الآيَتانِ يُفَسِّرُ بِهِما الرَّبُّ يَسوع عِبارَةَ "ساعَةَ مَجْدِه"، هوَ ابنُ الإِنسان. فَمَثَلُ "حَبَّةَ الْحِنْطَةِ" مُرَكَّبٌ على شَكْلِ جُمْلَتَينِ شَرْطِيَّتَين عَنِ الحَقيقَة: (إِنْ ... حقيقَة؛ إِنْ ... حَقيقَة). فَحَبَّةُ الْحِنطَةِ، إِذا لَمْ تَمُتْ بَعدَ وُقوعِها في تُرابِ الأَرضِ، فَحَتْمًا، سَتَبْقى وَحيدَةً تَحْمِلُ الـمَوتَ في ذاتِها، لا نَفْعَ مِنْها. أَمَّا إِذا ماتَتْ واسْتَسْلَمَتْ لِدَورَةِ الحياة، فَسَتُعْطي حَقًّا، حياةً وثِمارًا كَثيرة.
في كِلْتَي الحالَتَيْنِ، ألأَرْضُ هيَ سَاحَةُ الحَدَث. فَمَنْ أَرادَ أَن يَحْيا، عَلَيْهِ أَن يَسْتَسْلِمَ، كَحَبَّةَ الحِنْطَة، لِدَورَةِ الحياة الَّتي تَتِمُّ في قَلْبِ الأَرض. هَذِه الدَّورَةُ تَبْدَأُ بالتَّخلّي الكُلّيِّ عَنِ الذّاتِ حَتْى الـمَوتِ، ثُمَّ مِنَ الـمَوتِ تُثْمِرُ الحياةُ مِنْ جَديد، وَلَكِنْ هَذِه الـمَرَّة، حَياةً أَبَدِيَّة لا نِهايَةَ لَها أَبَدًا. أَمّا مَنْ أَرادَ أَن يَموت، فَلَنْ يَخْتارَ أَبَدًا الاسْتِسلام لِدَورَةِ الحَياة ولا لِلْتَّخلّي عَن ذاتِه؛ فَتَكونُ الأَرضُ لَهُ مَدْفَنًا أَبَديًّا، لا خُروجَ مِنْه أَبَدًا.
فالسَّاعَةُ الَّتي حانَتْ إِذًا، هِيَ ساعَةُ الحقيقَة: دُخولُ الحياةِ الأَبَدِيَّةِ هوَ عُبورٌ في أَرْضِ الـمَوت. فَالكَلِمةُ الأَخيرَةُ هيَ لِلْحياة، والموتُ ليسَ إِلاّ مَرْحَلَةَ عُبورٍ إِلى الحياةِ الحقيقيَّة.
26 مَنْ يَخدُمْني فَلْيَتبَعني. وحَيثُ أَكونُ أَنا، فَهُناكَ يَكونُ أَيضًا خادِمي. مَنْ يَخدُمْني يُكَرِّمْهُ الآب.
بَعْدَما فَسَّرَ الرَّبُّ يَسوعُ قَصْدَهُ مِنْ جوابِهِ: "حانَتْ ساعَةُ مَجْدي"، أَي ساعَةَ اسْتِسلامِهِ لِلـمَوتِ، لِلخُروجِ مِنْ هَذِه الحياةِ ودُخولِهِ في الحياةِ الأَبَديَّة، يَدْعو الَّذينَ يَرْغَبونَ بِخِدْمَتِهِ لِاتِّباعِهِ في هَذِهِ الطَّريق. ثُمَّ يَعِدُ أَتْباعَهُ وخُدّامَهُ، بِأَمْرَين: الأوَّل، أَلسُّكْنى مَعَهُ حيثُ سَيَكونُ، أَي في دِيارِ الـمَجْدِ الأَبَديّ. والثّاني، بِأَنَّهُ سَيَنالُ مِنَ الآبِ السَّماويّ الإِكْرامَ. هَذِهِ الآيَة تُظْهِرُ عِظَمَ الـمَجْدِ الَّذي يَنْتَظِرُ الَّذينَ يَتْبَعونَ الرَّبَّ يَسوع في طَريقِ الموتِ عن الذّاتِ.
27 نَفْسي الآنَ مُضطَرِبَة، فَماذا أَقول؟ يا أَبَتِ، نَجِّني مِنْ هَذهِ السّاعَة؟ وَلَكِنْ مِنْ أَجلِ هذا بَلَغتُ الى هذهِ السَّاعَة!
28 يا أَبَتِ، مَجِّدِ اسْمَك". فَجاءَ صَوتٌ منَ السَّماءِ يَقول: "قَدْ مَجَّدْتُ، وسَأُمَجِّد".
بَعْدَ الوُعودِ، يَدْخُلُ يَسوعُ في ساعَةِ النِّزاعِ الأَليمَةِ. فَرَغْمَ عِظَمِ الـمَجْدِ وتَعزِيَةِ المواعيدِ، فإنَّ هَوْلَ ساعَةِ الـمَوتِ رَهيبٌ ومُخيفٌ. يُعَبِّرُ عَنْهُ يَسوعُ بِشُعورِ الإِضطِّرابِ، أَي غِيابِ السَّلام وحُلولِ الإِرتِباكِ النَّفسيِّ الشَّديدِ.
تَساؤُلَهُ: "ماذا أَقول؟" يَدُلُّ على أَنَّ اسْتِسلامَهُ لِلموتِ هوَ خَيارٌ حُرٌّ. يُمْكِنُه الرَّفْض والتَّراجُع، كَما يُمْكِنُه الاسْتِسلامُ والقُبولُ. ويَقومُ يَسوعُ بالاخْتِيارِ وهوَ يَتحَدَّثُ مَع أَبيه، لأَنَّهُ جاءَ لِيَعمَلَ ما تَرْتَضيهِ مَشيئَتُهُ: "يا أَبَتِ!" ثُمَّ يَتَذكَّرُ أَنَّهُ جاءَ إِلى هذا العالَمِ، لأَجْلِ هذهِ السّاعَةِ بالذّاتِ، لِيَعْبُرَ في أَلَمِ الموت فَالحياة. لأَنَّهُ، بِهَذه الطَّريقَةِ فَقَط، تَتَحقَّقُ مَشيئَةُ الآبِ ويَتمَجَّدُ اسْمُهُ. فَلِذا، جاوَبَهُ أَبوه السَّماويُّ، مُعَزِّيًا نَفْسَهُ الـمُضطَّرِبَة: "قَدْ مَجَّدْتُ، وسَأُمَجِّدُ".
29 وسَمِعَ الجَمعُ الحاضِرُ فَقالوا: "إِنَّهُ رَعْد". وقالَ آخَرون: "إِنَّ ملاكًا خاطَبَهُ".
30 أَجابَ يَسوعُ وقال: "ما كانَ هذا الصَّوتُ مِنْ أَجلي، بَلْ مِنْ أَجْلِكُم.
إِعْلانُ الآبِ مِنَ السَّماءِ هوَ عَلَنيٌّ ولَيسَ فقَطْ لابْنِهِ يَسوع، بَل لِلَّذينَ يُرافِقونَهُ. نُلاحِظُ أَنَّ الآبَ أَسْمَعَ صَوْتَهُ وكَلِماتَهُ (آ28). فالصّوتُ كانَ مِنْ أَجْلِ الحاضِرين وقَدْ فَسَّروهُ بِتَعابيرَ مُخْتَلِفَة: رَعْد وصوتُ مَلاك. أَمَّا الكَلِمات، فَكانَتْ لأَجْلِ يَسوعَ وَحْدَهُ ومُحْتَواها واضِحٌ، فما مِنْ أَحَدٍ يَحِقُّ لَهُ تَحْريفُها.
ويَقولُ يسوعُ لِلحَاضِرينَ: "ألصّوتُ كانَ مِن أَجْلِكُم". فَإِنْ فَهِموهُ كَصوتِ رَعْدٍ أَو تَلَقَّوهُ كَصوتِ مَلاك، فالـمَصْدَرُ واحِدٌ أيْ السَّماءُ، عَرْشُ اللهِ، وهذا الأَمرُ مَعلومٌ عندَ جَميعِ الأَديَانِ. فالصَّوتُ إِذًا كافٍ، لِكَي يُؤْمِنَ جَميعُ الحاضِرين، من يونانيّينَ ويَهودٍ، بِأَنَّ يَسوعَ هوَ ابنُ الله.
31 هيَ الآنَ دَيْنونَةُ هذا العالَم. أَلآنَ يُطْرَدُ سُلْطانُ هذا العالَمِ خارِجًا.
32 وأَنا إِذا رُفِعْتُ عَنِ الأَرض، جَذَبْتُ إِلَيَّ الجَميع".
يُنْهي يَسوعُ كَلامَهُ بِإعْلانِ الدَّيْنونَةِ لِهذا العالَمِ، فَسُلْطانُهُ يُطْرَدُ خارِجًا لأَنَّهُ سُلْطانُ الموتِ. هوَ يَدَعُ حَبَّةَ الحِنْطَةِ تَقَعُ في الأَرضِ مِنْ دونِ أَن يَدُلَّها على سَبيلِ حَياتِها. يُوهِمُ الإِنسانَ بِأَنَّ نِهايَتَهُ هيَ الموتُ وما مِنْ مَفَرٍّ آخَرَ. إِنَّهُ سُلْطانُ الخِداعِ والظُّلْمَةِ الَّتي تُعْمي النَّفْسَ والجَسَدَ معًا.
أَمّا الرَّبُّ يَسوعُ عَلَّمَنا طَريقَ الحَياةِ وأَنارَها لَنا، فَمَعَهُ لا نَخافُ الموتَ لأَنَّ لا سُلْطانَ لَهُ عَلَينا. ولِذلِك َيَعِدُنا مَرَّةً أُخْرى، أَنَّهُ عِنْدَما يُرْفَعُ عَنِ الأرضِ، سَيَرْفَعُنا مَعَهُ إِلى حَيثُ سَيَكونُ، لِنَكونَ إِلى الأَبَدِ مَعَهُ.