الخوري بول ناهض
مقالات/ 2021-08-07
22. وإِذَا بِٱمْرَأَةٍ كَنْعَانِيَّةٍ مِنْ تِلْكَ النَّواحي خَرَجَتْ تَصْرُخُ وتَقُول: "إِرْحَمْني، يَا رَبّ، يَا ٱبْنَ دَاوُد! إِنَّ ٱبْنَتِي بِهَا شَيْطَانٌ يُعَذِّبُهَا جِدًّا".
يُصِرُّ متَّى على وصْفِ المرأةِ بالكنعانيّةِ أمّا مَرْقُس فيقولُ عنها "مِنْ أَصْلٍ سُورِيٍّ فِينِيقِيّ" وسببُ ذلك يعودُ لحالةِ العداءِ التي يُضمِرُها اليهودُ للكنعانيّين فهم ليسوا فقط غرباءَ إنما أعداءٌ أيضًا وقد تحوّلوا في أيامِ عزرا الى شعبٍ نجسٍ مدَنَّسٍ. لقد اعترفَتْ هذه "الغريبةُ والعدوّةُ والنَّجسةُ" بيسوعَ كإبنٍ لداودَ مع ما يحملُه هذا اللقبُ من معانٍ مؤسِّسَةٍ للإيمانِ اليهوديّ وما طلبَتْه من يسوعَ ليس إلاّ إعترافًا ضمنيًّا من قِبَلِها بأنَّه يمكنُه التَّغلُّبُ على الشَّيطانِ.
23. فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَة. ودَنَا تَلامِيذُهُ فَأَخَذُوا يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ قَائِلين: "إِصْرِفْهَا، فَإِنَّهَا تَصْرُخُ في إِثْرِنَا!".
يظهرُ لنا كما في أماكنَ أخرى في الإنجيلِ دورِ التَّلاميذِ الّذين لا زال ينقُصُهم الكثيرَ من النُّضجِ الرُّوحيِّ فهم في مرحلةِ التّلمذةِ والتّنشئةِ. همُّهم الوحيدُ لا أن تَشفى إبنةُ هذه المرأةِ بل أنْ تتركَهم بسلامٍ، لذلك يطلبون من يسوعَ أن يصرفَها.
24. فَأَجَابَ وقَال: "لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلى الخِرَافِ الضَّالَّةِ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيل".
ما يُعْلِنُه يسوعُ يتوافقُ تمامًا والمهمّةَ الّتي أوكلَها إلى تلاميذِه (متّى 10/ 5). كما أنّه تلقَّى من أبيه السَّماويّ مهمّةَ خلاصِ إسرائيلَ هكذا يحمِّلُ تلاميذَه الرِّسالةَ نفسَها.
25. أَمَّا هِيَ فَأَتَتْ وسَجَدَتْ لَهُ وقَالَتْ: "سَاعِدْنِي، يَا رَبّ!".
للمرّةِ الثَّانيّةِ تتكلّمُ المرأةُ لكنَّها هنا تسْجُدُ والسُّجودُ عند متّى هو تعبيرٌ عن الإيمانِ. وفي طلبِها الآن أدخلَتْ نفسَها بالموضوعِ. في حينِ كانَتْ تطلُبُ لإبنتِها، هي الآنَ تطلبُ أنْ يساعدَها شخصيًّا. "سَاعِدْنِي، يَا رَبّ!": هو تعبيرٌ إيمانيٌّ بإمتيازٍ نجدُه بخاصةٍ في المزاميرِ.
26. فَأَجَابَ وقَال: "لا يَحْسُنُ أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ البَنِين، ويُلْقَى إِلى جِرَاءِ الكِلاب!".
إنّه الجوابُ الثّاني ليسوعَ، فبعدَ جوابِ الصَّمتِ في (الآيةِ 23) يأتي الرَّفضُ المطلقُ من قِبَلِ يسوعَ الّذي يُعَبِّر عنه بطريقةٍ تبدو لنا، نحن قرّاءَ الألفيّةِ الثّالثةِ، بعيدةً عن أصولِ الّلياقةِ والتّهذيبِ. غير أنّنا، إذا عُدْنا الى البيئةِ الّتي كُتِبَ فيها هذا النَّصُ، نُدرِكُ بسهولةٍ أنّ ليسَ في الأمرِ شيءٌ غريبٌ إذ كانَ اليهودُ يُسَمّون الوثنيين بالكلابِ الضَّالّةِ الَّتي تتغذَّى على العفنِ كما في قصّةِ لعازر والغني: "غَيْرَ أَنَّ الكِلابَ كَانَتْ تَأْتِي فَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ" (لو 16/ 21).
27. فقَالَتْ: "نَعَم، يَا رَبّ! وجِرَاءُ الكِلابِ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الفُتَاتِ المُتَسَاقِطِ عَنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا".
28. حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهَا: "أيَّتُهَا ٱلمَرْأَة، عَظِيْمٌ إِيْمَانُكِ! فَلْيَكُنْ لَكِ كَمَا تُريدِين". وَمِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ شُفِيَتِ ٱبْنَتُهَا.
يتأثرُ يسوعُ بألمِ المرأةِ الَّتي تأتي إليه ويندَهِشُ لعظمةِ إيمانِها والثِّقةِ الّتي تُظْهِرُها. هذا الإيمانُ يَنتُجُ عنه شفاءٌ لإبنتِها وتكونُ الخُلاصَةَ أنّ "للكلابِ" أيضًا الحقُّ في أنْ تتغذَّى من يسوعَ، لأنَّ قوّةَ يسوعَ هي للجميعِ وهذا ما سيُشَكِّلُ درسًا عميقًا لتلاميذِه الّذين يتتلمذون على يدِه.