الخوري إيلي أسعد
مقالات/ 2021-07-10
مقدّمة
يأتي هذا الإنجيل مباشرةً بعد أن شفى يسوعُ صاحبَ اليدِ اليابسةِ نهارَ السَّبتِ (مت 12/ 9-13). أظهرَ يسوعُ من خلالِ هذا الشّفاءِ أنَّ الشّريعةَ في خدمةِ الانسانِ وليسَ الانسانُ في خدمةِ الشّريعةِ، تآمرَ الفريسيون عليه لقتلِه. الانجيلُ الّذي نقرأُه في هذا الأحدِ الثّامِنِ مِنْ زمنِ العنصرةِ يظهرُ بشكلٍ واضحٍ تصميمُ يسوعَ على تحقيقِ مشيئةِ أبيه من خلالِ متابعتِه بقوةِ الرّوحِ القدسِ رسالةَ اعلانِ بشرى الملكوتِ من خلالِ أقوالِه وشفاءاتِه.
في هذا الأحدِ، تدعونا الكنيسةُ للتشبُّهِ بالمسيحِ وتبنّي رسالتِه وروحانيّتِه. من خلالِ إظهارِ تتميمِ نبؤةِ أشعيا بشخصِ المسيحِ يسوعَ العبدِ المتألّمِ، يظهرُ القدّيسُ متَّى في هذا النّص ماهيّة الهويّةِ والرسالةِ المسيحيّةِ من أجلِ اتبّاعٍ جذريٍّ لشخصِ المسيحِ في قلبِ الكنيسةِ بالرُّغمِ مِنَ المصاعبِ والاضطهاداتِ. تلميذُ المسيحِ أمامَ خيارَين لا ثالثَ لهما: إمَّا اعتمادُ منطقِ العنفِ والحقدِ، منطقِ الفريسيّين الّذين أرادوا قتلَ يسوعَ، أو اعتناقُ منطقِ المسيحِ، منطقِ المحبّةِ، السَّلامِ والغفرانِ.
17. لِيَتِمَّ مَا قِيْلَ بِالنَّبِيِّ آشَعيا:
18. "هُوَذَا فَتَايَ الَّذي ٱخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي الَّذي رَضِيَتْ بِهِ نَفْسِي. سَأَجْعَلُ رُوحي عَلَيْهِ فَيُبَشِّرُ الأُمَمَ بِالحَقّ.
هاتان الآيتان هما بدايةُ النّشيدِ الأوّلِ للعبدِ في سِفْرِ آشعيا (أش 42/ 1-4). لقد تحقّقَتْ نبؤةُ آشعيا في هذا النَّشيدِ بشخصِ المسيحِ النَّبيِّ والكاهنِ والملكِ لاسيّما في معموديّتِه في نهرِ الأردنِّ (مت 3/ 16-17) وعندَ تجلّيهِ على جبلِ طابورِ (مر 9/ 2-7). وستتحقّقُ في حياةِ كلِّ إنسانٍ عندَ نيلِهِ سرَّ المعموديّةِ. نستنتجُ من خلالِ الكلماتِ المستعْمَلَةِ (فتاي، اخترْتُه، سأجعلُ روحي عليه) أنّ الرّسالةَ المزمَعَ أنْ يقومَ بها هذا العبدُ هي من مصدَرٍ إلهيٍّ وإنّ هذا الاختيارَ هو اختيارٌ مجّانيٌّ مِنَ اللهِ. لا يُمْكِنُ تحقيقُ هذه الرسالةِ الإلهيّةِ إلّا بقوّةِ الرّوحِ الّذي قادَ أيضًا الأنبياءَ ليعلّموا الشّعبَ ويقودوه إلى العبادةِ الحقيقيّةِ.
لفظةُ "فتاي" تعني حسَبَ اللَّفظةِ العبريّةِ "عبدي" (عابد الله). من هنا نفهمُ صورةَ المسيحِ الخادمِ في العهدِ الجديدِ الّذي أتى ليعملَ مشيئةَ الآبِ: "أنا بينكم كالخادم" (لو 22/ 27). رسالةُ العبدِ هي أيضًا رسالةُ الكنيسةِ الّتي مُسِحَتْ بمسحةِ الرّوحِ يومَ العنصرةِ والّتي تتمحورُ حولَ "خدمةِ العبادةِ" القائمةِ على خدمةِ الكلمةِ (اعلانُ سرِّ الخلاصِ) وخدمةِ التّقديسِ أو الذبيحةِ (تحقيقُ الخلاصِ).
إنّ هذه النّبؤةَ تكشِفُ إذًا بالعمقِ مضامينَ الرسالةِ المسيحانيّةِ في أبعادِ مسحةِ الرّوحِ القدسِ المثلّثَةِ: النُّبؤةُ والكهنوتُ والملوكيّةُ. انها رسالةُ النبؤةِ بالنُّطقِ بكلامِ اللهِ (كرازةً، تعليمًا وشهادةَ حياةٍ)؛ هي رسالةُ الكهنوتِ بهبةِ الذّاتِ على مثالِ المسيحِ الكاهنِ الأوحدِ وبذْلِها في سبيلِ الآخرين وهي رسالةُ الملوكيّةِ بتوطيدِ العدلِ والخيرِ بمختلفِ أوجُهِهِ وبنصرةِ الضّعفاءِ وهدايةِ الضّالين.
من جانبٍ آخرَ، يتميّزُ عملُ عبدِ اللهِ الأساسيِّ في إحقاقِ الحقِّ والعدالةِ بحسبِ منطقِ اللهِ. يحقّقُ عبدُ اللهِ العدالةَ منْ خلالِ اعلانِ الحقّ من أجلِ أن يقودَ الأممَ إلى الحقيقةِ. ما هي الحقيقةُ الأهمُ الّتي يجبُ أن يُعلنَها العبدُ في العهدِ القديمِ؟ اللهُ، إلهُ إبراهيمَ واسحقَ ويعقوبَ، هو الإلهُ الحقيقيُّ وليسَ آلهةَ الأممِ أي الأصنامَ والأوثانَ الّتي هي من صنعِ البَشرِ. الحقُّ هو العودةُ للجوهرِ الحقيقيِّ أي إلى حقيقةِ محبّةِ اللهِ للبشريّةِ وضرورةِ عيشِها من خلالِ محبّةِ الآخرين. إذًا، رسالةُ هذا البعدِ هي أن يعلنَ الحقيقةَ إلى الأممِ فيقودَها إلى الخلاصِ. لقد تمَّمَ يسوعُ هذه النُّبؤةَ من خلالِ بشارتِهِ بتحقيقِ ملكوتِ اللهِ بشخصِهِ لاسيّما من خلالِ موتِهِ وقيامتِه لخلاصِ ليسَ فقط اليهودَ بل كلَّ البشريّةِ.
19. لَنْ يُمَاحِكَ ولَنْ يَصيح، ولَنْ يَسْمَعَ أَحَدٌ صَوْتَهُ في السَّاحَات.
20. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَنْ يَكْسِر، وفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لَنْ يُطْفِئ، إِلى أَنْ يَصِلَ بِالحَقِّ إِلى النَّصْر.
21. وبِٱسْمِهِ تَجْعَلُ الأُمَمُ رَجَاءَها."
في هذه الآياتِ ننتقلُ من وصفِ هويّةِ العبدِ إلى وصفِ أعمالِهِ وكيفيّةِ تتميمِ رسالِته.
يظهرُ من خلالِ هذه الآياتِ الاختلافُ بين هذا العبدِ ــ الملكِ وباقي الملوكِ: مع أنّه يحقِّقُ العدلَ الإلهيَّ، لا يلجأُ عبدُ اللهِ إلى العنفِ والصُّراخِ. منَ المعروفِ أنّ ملوكَ الشّرقِ كانوا يعلنون قوانينَهم الجديدةَ على الملأِ بواسطةِ مرسَلِين-كارزين يخرجون في السّاحاتِ ويصيحون بأعلى صوتِهم ليجتمعَ النّاسُ ويسمعوا الأحكامَ الملكيّةَ. من المعروفِ أيضًا أنّ المحاربين وعظماءَ الجيوشِ كانوا يدعون إلى الحربِ والقتالِ بالصِّياحِ والصُّراخِ (أش 13/ 2).
أمّا هذا العبدُ، فهو لا يتصرَّفُ بحسبِ منطقِ هذا العالمِ، فهو مرسلٌ لدعوةِ شعبِ اللهِ إلى التَّوبةِ والرُّجوعِ إلى اللهِ. هذا الشَّعبُ كادَ ينكسِرُ بسببِ خطيئتِه وابتعادِه عن اللهِ، وهو يشبِه قصبةً اهتزّتْ تحتَ وطأةِ غضبِ الرَّبّ من معاصيها (1 مل 14/ 15) وكفتيلٍ مدخّنٍ يكادُ ينطفئُ ويزولُ (أش 61/ 3). بالرّغمِ أن البعضَ من الشَّعبِ يصبحُ كالقَصَبَةِ المَرضوضَةِ لا تعودُ نافعةً فقط بل تشكِّلُ أيضًا سَببَ تَعَثّرٍ وَسُقوطٍ للبعضِ؛ بالرّغمِ أنّ البعضَ يصبحُ أيضًا كالسِّراجِ المدخِّنِ لا يلطِّخُ بسوادِ دخانِه البيتَ فقط بل يخفّفُ النّورَ ويزعِجُ برائحتِه السّاكنين، إلّا أنّ عبدَ اللهِ لا ييأسُ ولا يستَسْلِمُ ولا يذهبُ إلى الحلولِ العنيفةِ (الكَسرُ والاطفاءُ) بل يتَّكلُ على قوةِ اللهِ فيكونَ شاهدًا للحقِّ من أجلِ توبةِ وخلاصِ الجميعِ.
لقد تحقّقتْ هذه النبؤةُ بشخصِ المسيحِ خادمِ الربِّ الَّذي لم يماحكْ ولم يصيحْ، ولم يفرضْ "سطوتَه" على النَّاسِ ولم يهدّدْ الخطأةَ والعشّارين بالموتِ بل هو الوديعُ والمتواضعُ القلبِ الّذي عاملَ الآتين إليه بالرّحمةِ، بل هو ذهبَ إليهم لأنّه هو الرّاعي الصّالحُ الباحثِ عن الخروفِ الضالَّ ليجدَه ويخلّصَه (يو 10).