الأحد السابع من زمن القيامة
وصيَّة يسوع الجديدة
(يو 13/31-35)
31. فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ يَسُوع: "أَلآنَ مُجِّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ ومُجِّدَ اللهُ فِيه.
32. إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ مُجِّدَ فِيه، فَاللهُ سَيُمَجِّدُهُ في ذَاتِهِ، وحَالاً يُمَجِّدُهُ.
33. يَا أَوْلادي، أَنَا مَعَكُم بَعْدُ زَمَنًا قَلِيلاً. سَتَطْلُبُونِي، ولـكِنْ مَا قُلْتُهُ لِلْيَهُودِ أَقُولُهُ لَكُمُ الآن: حَيْثُ أَنَا أَمْضِي لا تَقْدِرُونَ أَنْتُم أَنْ تَأْتُوا.
34. وَصِيَّةً جَديدَةً أُعْطِيكُم، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا. أَجَل، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا كَمَا أَنَا أَحْبَبْتُكُم.
35. بِهـذَا يَعْرِفُ الـجَمِيعُ أَنَّكُم تَلامِيذِي، إِنْ كَانَ فيكُم حُبُّ بَعْضِكُم لِبَعْض".مقدّمة
يُنهي هذا الأحدُ زمنَ القيامةِ، فيبدأُ في الأحدِ الَّذي يليه زمنَ العنصرةِ. ولكن يتميّزُ هذا الأحُد أيضًا عن باقي آحادِ القيامةِ بأنَّه الوحيدُ الّذي لا ينقلُ روايةَ ظهورٍ ليسوعَ القائمِ من بينِ الأمواتِ. بل يختارُ فيه الطَّقسُ المارونيُّ، نصًّا من كتابِ الآلامِ والمجدِ في إنجيلِ يوحنّا. وهذا النَّصُّ يفتَتِحُ العشاءَ السِّرّيَّ وفيه يعطي المسيحُ تلاميذَه وصيّةَ المحبَّةِ "الجديدة".
شرح الآيات
31. فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ يَسُوع: "أَلآنَ مُجِّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ ومُجِّدَ اللهُ فِيه.
32. إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ مُجِّدَ فِيه، فَاللهُ سَيُمَجِّدُهُ في ذَاتِهِ، وحَالاً يُمَجِّدُهُ.إنَّ خروجَ يهوذا لخيانةِ المسيحِ
"مُريحٌ" بعضَ الشَّيءِ ليسوعَ، فهو يمثلُ بدايةَ الفصلِ الأخيرِ من حياتِه على الأرضِ. إنَّ كلَّ الخبراتِ والتَّجاربِ، العظاتِ والحواراتِ، والآياتِ الّتي صنَعَها كانت تهيئةً لهذا الحدثِ، كانَتْ جميعُها تصبو نحو الحَدَثِ الخلاصيِّ الذي يمثِلُ خروجُ يهوذا فصلَهُ الأولَ. إنَّ خروجَ يهوذا جسديًّا من العشاءِ هو صورةٌ عن خروجِه الفعليِّ من جماعةِ الرُّسُلِ ومن المحبَّةِ التّي تربِطُه بيسوعَ. وبالفعلِ ذاتِه هو يأذُنُ وينبئُ ببدايةِ كتابِ الآلامِ عندَ يوحنا ولذلك يتكلَّمُ يسوعُ عن المجدِ الآتي. فيستعملُ كلمةَ
"مجد" خمسَ مرّاتٍ للدّلالةِ، ليسَ فقط على أهميّتِها، بل على قُرْبِ ودنوِّ ساعةِ المجدِ المنتظرِ.
يرتبِطُ هذا المقطعُ ارتباطًا وثيقًا بصلاةِ يسوعَ الكهنوتيةِ في الفصلِ السَّابعِ عشرَ حيثُ يقولُ:
"إِنِّي قد مَجَّدتُكَ في الأَرضِ فأَتمَمْتُ العَمَلَ الَّذي وَكَلتَ إِلَيَّ أَن أَعمَلَه" (17 / 4 )
إن كِلَي التقليدَيْن الأدَبيَّيْن، اليهوديَّ واليونانيَّ، يحتويان على نوعٍ أدبيٍّ يسمّى
"الوصايا" وفيه يودِّعُ المتكلِّمُ صّحْبَه ويوصيهم بالتَّعاليمِ الّتي عليهم تنفيذُها. وهذا النَّص يبدأُ "وصايا" الرَّبِّ يسوعَ لتلاميذِه.
33. يَا أَوْلادي، أَنَا مَعَكُم بَعْدُ زَمَنًا قَلِيلاً. سَتَطْلُبُونِي، ولـكِنْ مَا قُلْتُهُ لِلْيَهُودِ أَقُولُهُ لَكُمُ الآن: حَيْثُ أَنَا أَمْضِي لا تَقْدِرُونَ أَنْتُم أَنْ تَأْتُوا.
المسيح ذاهب إلى الآب كما أوضح يوحنا في بداية الفصل (13/1) من إنجيله " قبلَ عيدِ الفِصح، كانَ يسوعُ يَعَلمُ بِأَن قد أَتَت ساعَةُ انتِقالِه من هذا العالَمِ إِلى أَبيه، وكانَ قد أَحَبَّ خاصَّتَه الَّذينَ في العالَم، فَبَلَغَ بِه الحُبُّ لَهم إِلى أَقْصى حُدودِه." وهو قد سبقَ وأعلمَ اليهودَ مرّتين بأنهم لا يستطيعون أنْ يتبعوه إلى حيث هو ذاهبٌ في يوحنا الفصل ( 7 / 33) فقالَ يسوع:" أَنا باقٍ مَعَكم وَقْتاً قليلاً ثُمَّ أَذهَبُ إِلى الَّذي أَرسَلَني. ستَطلُبوني فلا تَجدوني وحَيثُ أَكونُ أَنالا تَستطيعونَ أَنتُم أَن تَأتوا"، والفصل (8/ 21) فقالَ لَهم ثانِيَةً:" أَنا ذاهِب سَتَطلُبوني ومعَ ذلك تَموتونَ في خَطيئَتِكم وحَيثُ أَنا ذاهِبٌ فَأَنتُم لا تَستَطيعونَ أَن تَأتوا". إنَّ الشّرطَ لاتِّباعِ يسوعَ إلى الآبِ هو الإيمانُ به والتَّضحيةُ في سبيلِ هذا الإيمانِ. إنَّ اليهودَ المذكورين في إنجيلِ يوحنا لم يؤمنوا به ولذلك لا يستطيعون أن يتبعوه. أمّا الرسلُ، فسيتبعون يسوعَ متَّى أتمّوا تضحيةَ الإيمانِ ولذلك يضيفُ يسوعُ في كلامِهِ لبطرسَ أنَّه سيتبعُه "فيما بعد" في الآية 36. أَجابَ يسوع: "إِلى حَيثُ أَنا ذاهبٌ لا تَستَطيعُ الآنَ أن تَتبَعَني، ولكِن ستَتبَعُني بَعدَ حين".
34. وَصِيَّةً جَديدَةً أُعْطِيكُم، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا. أَجَل، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا كَمَا أَنَا أَحْبَبْتُكُم.
35. بِهـذَا يَعْرِفُ الـجَمِيعُ أَنَّكُم تَلامِيذِي، إِنْ كَانَ فيكُم حُبُّ بَعْضِكُم لِبَعْض".
لقد تساءلَ الكثيرون من الشُّرّاحِ كيف تكونُ هذه الوصيّةُ جديدةً وهي وردتْ في العهدِ القديمِ في سفر اللاوين (19 / 18) "لا تَنْتَقِمْ ولا تَحقِدْ على أَبْناءِ شَعبِكَ، وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ: أَنا الرَّبّ."
إنَّ الكثيرَ من التَّفاسيرِ وُجِدَتْ، غيرَ أنَّ معظمَها يُجْمِعُ على أنَّ الجديدَ في هذه الوصيّةِ في هذا الفصل هو أن يسوع يحقِّقُها بنفسِه في داخلِ التّلاميذِ. بواسطةِ الحبِّ الذي يحبُّهم والّذي بلغَ إلى الغايةِ، بحسبِ الآيةِ الأولى من الفصل(13/1) "قبلَ عيدِ الفِصح، كانَ يسوعُ يَعَلمُ بِأَن قد أَتَت ساعَةُ انتِقالِه عن هذا العالَمِ إِلى أَبيه، وكانَ قد أَحَبَّ خاصَّتَه الَّذينَ في العالَم، فَبَلَغَ بِه الحُبُّ لَهم إِلى أَقْصى حُدودِه" إنَّ جديدَ هذه الوصيّةِ هو في القسمِ الثَّاني منها "كما أنا أحببتكم"، يضفي يسوعُ على هذا الحبِّ صفةً "لاهوتيّةً theologal". يصبحُ حبُّ التَّلاميذِ لبعضٍ مرآةً تعكُسُ حبَّ اللهِ للبَشَرِ الّذي تجلّى في يسوعَ المسيحِ. يذكِّرُ هذا الشَّرحُ بالفصلِ الثّالثِ من إنجيل يوحنّا (3/16): "فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة."
خلاصة روحيّة
يصطدِمُ المؤمنُ بهذه الوصيّةِ التّي تناقِضُ شريعةَ عالمِ اليومِ، فيراها كوصيّةٍ غيرِ قابلةٍ للتّطبيقِ. إنَّ عالمَ اليومِ لا يدعو للمحبّةِ والتَّضحيِّةِ بل لشريعةِ الغابِ والبقاءِ للأقوى. أضحّتْ المحبّةُ كلمةً للدَّلالةِ على الضُّعفِ.
رُغمَ ذلك، لا تزالُ وصيَّةَ يسوعَ الّتي يعلِنُها في هذا المقطعِ للتّلاميذِ الطَّريقَ الوحيدَ لاتّباعِه في مجدِه. وإنْ كانَتْ المحبّةُ تعكِسُ الضُّعفَ في نظرِ العالمِ، فإنَّ تضحيَةَ المسيحِ على الصَّليبِ، من أجلِ من أحبَّهم إلى الغايةِ، هي النَّقيضُ لهذا المبدإِ. فعلى الصَّليبِ تجلَّتْ قوّةُ اللهِ وعظمتُه، لذلك تتكلَّمُ اللّيتورجيا على
"بهاءِ" الصّليبِ و
"مجدَه".
إنَّ تضحيةَ الأهلِ من أجلِ أولادِهم ليسَتْ بضعفٍ، وتضحيةَ الزّوجين من أجلِ زواجِهِما ليْسَتْ بضعفٍ أيضًا. هي تجلِّي محبّةِ وقوّةِ اللهِ في قلبِ ضعفِنا البشريِّ. وما على المسيحي سوى الشَّهادةُ لهذه المحبّةِ، كيفَ يعرفُ العالمُ
"أنَّنا تلاميذُه".