المونسنيور إيلي صفير
تأملات/ 2021-03-06
من السّماء إلى جهنّم،
من النّعيم إلى الحجيم،
من السّعادة إلى البؤس، إلى الحزن إلى اليأس، إلى سعاداتٍ زائفة، آنيّة، هشّة، كئيبة، وصلتُ بعدما خرجتُ..
خرجتُ من السّماء، من حضن أبي، من عائلتي، من انتمائي...
خرجتُ وذهبتُ بعيدًا بعيدًا وليس معي أيّ مقياسٍ لأكيل مسافات البعد، فلن تُقاس... لأنّ البُعد الروحيّ لا يُقاس...
خرجتُ وذهبتُ بعيدًا بعدما قتلتُ والدي باكرًا ورجمتُ أخي الكبير بصواريخ الحقد وسلاح الغدر وقنابل الغيرة ورصاص الطيش...
خرجتُ ورحلتُ علّه في الترحال أجدُ مراعٍ خصيبة... لقد جمعتُ كلّ ما لديّ وكلّ ما أملك وسافرتُ...
سافرتُ ولا أدري ما أفعلُ... سافرتُ ولم يكن معي جواز سفر يليق فيَّ وفي عائلتي وفي انتمائي...
سافرتُ ولم أكُن أحملُ أيّة فيزا لأيّ بلد... قريبٍ أو بعيد... فقد كان مبتغاي أن أرحلَ من حيث كنتُ... من السّماء... إلى جهنّم...
من النّعيم خرجتُ... بعدما اعتبرتُ أنّ هذا الـــ "ـهُناك" – هذا "البعيد" هو أكبر وأهم وأقوى وأينع وأجمل وأفضل من المكان الّذي فيه جُبِلْتُ، الّذي فيه تكوَّنتُ... فأردتُ أن أُجْبَلَ في تربةٍ تُرعِشُ النفس وتُلهِبُ الخيال... فأردتُ أن أتكوّنَ من جديدٍ فأغيِّــرَ شكلي وظاهري والـ "لوك" علّه يَجذب مَن هم حولي إلى طيشي، إلى بُعدي...
من النّعيم خرجتُ... فوصلتُ إلى الحجيم... حيث حياة الطيش... حيث الجوع إلى كلّ شيء، جوعٌ إلى القوت، جوعٌ إلى الحياة...
جوعٌ إلى الموت لأنّ فيه خلاصي من الذلّ وعلوّ الانحدار الّذي وصلتُ إليه...
جوعٌ إلى الحريّة الّتي فقدتُـها... هناك في البيت السّماويّ كنتُ حُرًّا وهناك في البيت الأرضيّ أصبحتُ عبدًا... عبدًا لا للإنسان فقط بل للحيوان... هناك كنتُ أُخْدَمُ وهناك صرتُ أَخدم... صرتُ خادمًا للإنسان... والحيوان... "الخنزير"... لقد فقدتُ كلّ شراكةٍ وشَرِكَةٍ مع السّماء واستَعْطَيْتُ الشراكة والشَرِكَة مع الحيوان وصاحبه...
هذا هو الجحيم... فالجحيم هو أن تكونَ ولا تكون، أن تُدرِكَ ولا تُدرِك، أن تغرقَ وتقولَ لا لستُ أغرقُ... لقد اعتقدتُ أنّ الحياة في البُعد... فاكتشفتُ أنّ البُعد في الغربة موتٌ ولا حياةَ من دون أن أكون مع الّذي كوّنَني – وجبلَني من التراب ونفخَ فيّ نسمة الحياة...
من السّعادة إلى الحزن... هناك في البُعد البعيد جلستُ مع ذاتي... وتصفّحتُ أفكاري... ودخلتُ إلى أعماقي... وتأمّلتُ في واقعي... فوضعتُ رأسي بين يديَّ عَلّي أكتشفُ... انحداري... فأدركتُ أنّ لا حبّ يعلو على حبّ أبي وأنّه حافَظَ على صورتي وكياني وجمالي من الـ "لا أحد" الّذي لم يُعطني الخرّوب لأكون في شَرِكَةٍ مع آكلِه...
وفي لحظة ارتعاش... وخفقان القلب... قلتُ لذاتي، قلتُ لنفسي: قومي... قومي من تحتِ... قومي من الجحيم... قومي من جهنّم وارحلي سريعًا وعودي عودة الأبطال الفائزين...
عودي عودة الملوك المنتصرين...
عودي عودة الأبناء إلى بيت الوالد... الحاضر... المترقِّب... المنتَظِر... الجالس على عرشه ولن يقوم إلّا ليغمرَني... ليخلقَني ليُعيدَ إليّ بهاء ما فقدتُ من جمال... ولم يقمْ إلّا ليغسلَني من ضعفي ورائحتي فيُنعشَني بمياهه... ويُشبعَني من قوته... ويُسكرنَـي من خمرة حبّه... قومي من الموت إلى الحياة...
قومي وعودي إلى الشراكة والشَرِكَة مع العائلة، مع الأصدقاء والأحبّاء، مع الجيران والأصحاب...
نعم أريدُ أن أكون "شاطرًا" بعدما شطرتُ كلّ شيء... شاطرًا... في العودة سريعًا إلى ما كنتُ عليه، وفي العودة توبة، وفي التوبة اعتراف، وفي الاعتراف ندامة، وفي الندامة دموع، وفي الدموع ولادة، وفي الولادة حياة جديدة، وفي الحياة الجديدة مقصد لبداية يانعة... نعم أريدُ أن أعودَ إلى أبي... ليس لأنّ لديه الخبز بل لأنّ عنده كلام الحياة الأبديّة...
فشكرًا لك أبي... لأنّك أبي... آمين.