في الأحد الأخير قبل الميلاد، تدعونا الكنيسة للتأمّل بإنجيل نسب يسوع. أمام هذه البشارة التي تفتَتِحُ إنجيل متّى، نسأل أهي تعليمٌ أم سردٌ تاريخيّ؟ ما الغايةُ منها ونحن لا نرى فيها إلّا تعدادَ مملّاً لأسماءِ أشخاصٍ غرباء لا نعرف عنهم الشَّيءَ الكثيرَ؟ ولِمَا هذا الاهتمام في الإنجيل بنسبِ يسوعَ المسيحِ التّاريخي؟
إنّ هذه السِّلسلة البشريّة الّتي نحن بصدد شرحِها، تأتي لتثبّت أنَّ التجسّد قد تمّ في الزّمان، وأنَّ الله حين أرادَ أنْ يُرسلَ ابنَه الوحيدَ، اختار شعبًا وعائلةً، وأعدّ تاريخًا وصنعَ عهدًا مع الإنسانِ وَوَعَدَه بالخلاصِ وها هو يحقّق وعوده.
1. كِتَابُ ميلادِ يَسُوعَ الـمَسِيح، إِبنِ دَاوُد، إِبْنِ إبْرَاهِيم:
"كتاب ميلاد" (أو كتاب تكوين): يبدأ متّى إنجيله بعبارة كتابيّة تعود بنا إلى سفر التّكوين (تك 5: 1)، حيث يُعلَنُ كتابُ مواليد آدم. بالنِّسبة إلى المسيحيّين الأوّلين النّاطقين باليونانية، هذه عبارة مألــــــــــوفة لديهم، وهي عنوانُ السّفرِ الأوّلِ من الكتابِ المقدّسِ الّذي يحكي قـــصّةَ الخلقِ. فيسوعُ، هو انتظارُ الشُّعوبِ وفيه يُلَخَّصُ كلُّ التَّاريخِ الماضي ويبدأ تاريخٌ جديدٌ للعالمِ. مُنذُ البدايةِ يختارُ متَّى إسمان أساسيّان هما داود وابراهيم، وباختياره هذا، يركِّز على مفهوم "الوعد" في العهد القديم.
إِبنِ دَاوُد: الوعد كان لداود، أنّ منْ نسلِه يكونُ المسيحُ الملك، حسب ما جاء في(2 صم 7: 4 – 17). فابن داود هو ابن الله، هو المسيح الملك الّذي سيجلس على عرش داود أبيه ولن يكون لمُلكه انقضاء، وسوف يأتي ليخلّص شعبه. بمجيئِه يُفتَتَحُ عهدَ الخلاصِ، ويبدأ ملكوتُ السَّلامِ الأبديّ.
"إبنِ إبراهيم": أي الأبنُ الَّذي تتباركُ به كلُّ الشُّعوب (تك 12، 1-3)، هو تحقيق وعد الله لإبراهيم ومن خلاله لشعب إسرائيل ولكلّ البشريّة. فالوعد لإبراهيم يأخذ طابعاً أكثر شموليّة، لأنّ المسيح الآتي يتخطّى حدود الشعب اليهودي ليطال البشريّة بأكملها، فخلاصُه شاملُ.
متّى الذي يوجّه إنجيله إلى المسيحيّين من أصل يهوديّ، يبدأ بداود وابراهيم، ليؤكّد لقرّائه أنّ انتظارهم الطّويل قد وصل الى خاتمتِه بمجيءِ المسيحِ. نفهمُ من الآية الأولى في إنجيله، أنّ يسوع هو تحقيق الوعد، هو عطيّة الله العظمى للبشريّة جمعاء، معه ندخُلُ في عهدٍ جديدٍ، من دونِ قيودٍ أو شروطٍ.
تقدّم لنا الآية 17 مفتاحًا أساسيًّا لقراءةِ نصّ النَّسب عند متّى، إذ تقسَّم هذا النّسبَ على ثلاثِ سلاسلَ متوازية من "أربعة عشر جيلاً":
أولًا: من ابراهيم إلى داود (آ 2 - 6 أ): إنّها المجموعة الأولى التي تبدأ بابراهيم الذي نال الوعد بالأرض (تك15)، وتنتهي بداود الذي معه يتحقّق هذا الوعد بقيامِ المملكةِ. هذه اللَّائحة الأولى نجدُها في (1أخ 1، 28/ 34/ 1أخ 2، 1-15).
ثانيًا: من داود إلى المنفى (آ 6 ب - 11): إنّها المجموعة الثانية التـي تبدأ بسليمان الذي بنـى الهيكل ولكنّه أدخل العبادة الوثنية، وتسلّلت هذه العبادة إلى اسرائيل. لذلك تنتهي هذه المجموعة بالسَّبيِ وخرابِ أورشليم والهيكلِ. هذه اللّائحة الثّانية نجدها في (1أخ 3، 10-15).
ثالثًا: من المنفى إلى يسوع (آ 12 - 16): هي المجموعة الثالثة التي تبدأ بعد السّبي بيوكنيا وتنتهي بميلاد المخلص. هذه اللّائحة الثّالثة لا أثرَ واضـحٌ لها في العهد القديم، ما عدا الأسماء الثلاثة الأولى التـي يمكن أن نجدَها في (1أخ 3، 17-19)، من المرجَح أنّ التَقليد الشَّفهيّ قد حافظ في مكانٍ ما على لائحة سلالة داود بعد العودةِ من السّبي الى بابل.
في المجموعةِ الأولى وعدُ الله وقصدُه وتحقيقهما، في الثّانية فشلُ الإنسانِ الذي أسلمَ نفسَه للباطلِ، وفي الثَّالثة نرى الرَّجاء الّذي صار حقيقةً بميلادِ المخلص.
العدد الإجماليّ للأجيالِ من ابراهيم إلى داود هو 14 جيلًا ومن داود إلى السّبي إلى بابل هو 14 جيلًا، ومن السّبي إلى يسوع هو 14 جيلًا. لكن إذا عدنا إلى الأسماء في العهد القديم وجدنا أنّ متّـى ألغـى ثلاثةَ أسماء من السّلالة الداوديّة، (بين يورام وعزريا هم: أحزيا (841)، يوآش (835 - 696)، أمصيا (811 - 782)). بالعودة إلى (2 أخ 22-25) نجد أن هؤلاء الملوك، من أحزيا ولغاية أمصيا قد اقترفوا المعاصي، وجلبوا عبادة الآلهة الوثنيّة الى مملكة داود، ويؤكّد التّقليد اليهوديّ أنّ هؤلاء الملوك قد لحِقَتْ بهم لعنة أتاليا، ابنة الملك آحاب (2 أخ 23، 15). كان اليهود يعتقدون أن اللعنة تطال الملعون حتّـى الجيلِ الثالث، ولا بد أن متـّى قد عرف هذا التقليد لذلك ألغاهم من نسب يسوع الملوكيّ. كلّ هذه الشّروحات تؤكّد أنّ متـّى لم يبنِ هذه السلالة على قاعدة التّسلسل التّاريخي الكرونولوجيّ، إنّما كانت غايته من هذا العرض لاهوتيّة رمزيّة، أراد من خلالها اعلانَ أنّ يسوع هو المسيح المنتظر هو ابنُ داود وفيه كمال الأجيال. يسوع يجمع في شخصه ويكمّل ويخلّص كلّ تاريخ البشريّة.
هذه الرمزيّة في عدد الأجيال يمكن قراءتها على مستويين:
1- الرقم 14 هو رمز لاسم الملك داود، فالقيمة الرقميّة للأحرف التي تكوِّن اسم داود في العبريّة (دَوِد) هي 14 (د= 4 + و= 6 + د= 4). فالرمز بأسره يدور حول الوعد الّذي أُعطي لداود بأنَّ منه يأتي المخلّص، الملك الّذي يجلس على عرشه الى الأبد.
2- الرقم 14 هو مجموع 7+7، والعدد 7 يرمز إلى الكمال في الكتاب المقدّس، فإذا قسّمنا لوائح الأسماء الى 7 أسماء بدلاً من 14 نجد 6 مجموعات من الأسماء، لنصل إلى ولادة المسيح التي تدخل في المجموعة السابعة، أي في رقم الكمال. والغاية من هذه القراءة هي التأكيد على أنّ ولادة المسيح تُدْخِلُنا في الزَّمن المسيحانيّ، ملء الأزمنة، حيث تتحقّق إنتظاراتُ شعبِ الله وشعوب الأرض كافّة.
ذكر النساء في لائحة النّسب:
كانت العادة اليهوديّة تقضي بذكر الرجال فقط في لوائح النّسب. لماذا إذًا يذكر متّى في سلالة يسوع خمس نساء؟ هنّ: تامار، راحاب، راعوت، إمرأة أوريّا ومريم العذراء؟ للإجابة على هذا السؤال يجب التعرّف إلى تلك النّساء:
تامار (راجع: تك 38: 6 – 30): حملت من حميها وأنجبت توأمين، فارص وزارح وبهذا أنقذت سلالة داود من الانقراض، لذا سيأتي المسيح من سبط داود بواسطة ابنها فارص.
راحاب (راجع يش 2: 1 – 34): هي البغيّ التي استقبلت الجواسيس الذين أرسلهم يشوع الى أريحا ليـروا إمكانيّة احتلالها، فأنقذتهم وساعدتهم على الهرب. ثمّ تزوجت من سلمون، وهو أحد جنود إسرائيل، فولدت منه بوعز والد يسّى وجدّ داود.
راعوت (راجع سفر راعوت): هي مؤابيّة وثنيّة آمنت باللّه وتزوجّت اسرائيليّ، لكنّها فقدت زوجها وابنيها، فتزّوجها بوعز ابن راحاب، وولد منها يسّى أبَ الملك داود. تميّزت بشجاعتها واتّكالها على الربّ واتّباعه.
إمرأة أوريّا، هي بتشابع ( راجع 2 صم 11: 1 – 27 و12 : 1 – 18) أمرأة أوريّا الحثّي، من الملفت أنّ متّى لا يسمّيها باسمها، إنقادت لنزوات داود الملك الذّي أغواها فحملت منه، عندها أرسل زوجها الى الحرب وجعله في الصفوف الأماميّة ليُقتل، وأخذها زوجةً له. هي أم سليمان الملك، صارت رمزاً للحكمة وموضع إكرام الملك ابنها.
إنّ ذكر هذه النساء في سلالة يسوع، يحمل رسالة لاهوتيّة أراد متّى أن ينقلها لقرائه وهي تتلخّص بالتالي:
كلّهن غريبات عن شعب وأرض اسرائيل لكنّ الله اختارهنّ لتصبحن جدّات المسيح المنتظر. وهذا يفهمنا أنّ طرق الله تختلف عن طرق البشر وأنّ مخطّطه الخلاصيَّ يطال الجميع. لم تكنَّ قديسات وكلُّهنَّ حملن بطريقة غير اعتياديّة. لقد ذكر متّى نساءً زانيات وغرباء، ليفهمنا أنّ المسيح يأتي من سلالة خطأة، ليرحم الخاطئة، لأنّه ما أتى من أجل الأصحاء بل من أجل من يحتاجون إليه، وأنّ الله قادرٌ على استخراج الخير من الشرّ الّذي يقترفه الانسان.
مريم العذراء، هي المرأة الخامسة التي يذكرها متّى، بعكس النّساء السّابقات، ليستْ بغريبةٍ عن شعبِها، هي ابنة صهيون، لم تكن خاطئة بل وبحسب التقليد بريئة حتى من الخطيئة الأصليّة. ما يجمعها بتلك النساء أنَّ ما تمّ في حياتهنّ كان بعكس ما خطّطن له شخصيّاً، فهي المخطوبة من يوسف والمفترض أن تسكنَ معه، اختارها الله ليتجسّد منها المخلّصُ بقوة الروح القدس، لقد أعدّ لها مكاناً مميّزاً في مخطّطه الخلاصيّ، وهي استجابت بقبولها.
خلاصة روحيّة
ونحن على أبواب عيد الميلاد، يأتينا إنجيل النّسبة ليؤكّد لنا حقائق لاهوتيّة وروحيّة أساسيّة تدخلنا في فهم سرّ التجسّد:
وحده الله يستطيع أنّ يكسر رتابة التّاريخ، ووحده يعطي معنىً حقيقيًّا للأحداث. فالسّردُ المملُّ في نصِّ النِّسبة والذي يتكرّرُ في عبارةِ "فلان وَلَدَ فلان"، يُدْخِلُنا في رتابةِ التّاريخ. ستتوقف هذه الرّتابة عند ذكر يوسف في الآية 16 "…يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَم، الَّتـي مِنْهَا وُلِدَ يَسُوع، وهُوَ الَّذي يُدْعَى الـمَسِيح". كأنّ متّى أراد من خلال هذا الأسلوب أنّ يقول لنا أنّ المسيح بتجسّده يكسر رتابةَ التاريخ، ويعيد للبشريّة معنى وجودها، فيصير هو محور الأحداث كلّها.
يمكننا أنّ نعيش حياتنا بعيدًا عن الله، ويمكننا أنّ نحقّق نجاحاتٍ، لكنّنا سنفتقدُ للمعنـى وسندخلُ في رتابةِ الأحداث، ممّا سيفقدنا الرّغبة في الحياةِ. وحدَه اللهُ عندما يتجسَّد في واقعنا ويدخل تاريخ حياتنا، سيعطي لهذا التّاريخ معناه الحقيقيّ. سنقول حينها قبل معرفتنا للمسيح كانت حياتُنا فارغةً، مملّةً، لا قيمةَ ولا معنى لها، وبعد معرفتِنا به أصبحت حياتُنا قصّة خلاصٍ نعيشُها كلّ يوم مردّدين صلاتنا "ليأتِ ملكوتك ولتكنْ مشيئتك".
لم يكن تاريخ السُّلالة كاملًا، بل مرَّ بمحطات غيـر مشرقة في تاريخ الشّعب اليهودي، وذُكِرَتْ أسماءٌ لأشـخاصٍ لم يشرّفوا بسيرتهم تاريخَ شعبِهم. فإذا نظرنا إلى الأحداث في أوانها لوجدناها سوداء ومحزنةً أو مخجلةً، لكنَّ حدثَ التجسّد، يضفي على التّاريخ والأحداثِ معنًـى آخر، إذ يشكّل لنا دعوة لقراءة إيمانيّة، تُحـي فينا الذاكرة المؤمنة، وتُفهمنا أنّ الله سيّدُ التاريخ، الحاضر أبدًا مع شعبه، الذي يستطيع دومًا أن يحوّل مسار الأحداث لخيـر الذين يتّقونه ويحبّونه. في هذا الزمن المليء بالقلق والخوف وعدم الفهم لما يدور حولنا من أحداثٍ، هلّا آمنّا أنّ الــ "عمانوئيل" الله معنا وهو سيّد التّاريخ وهو من سيحوّل كلّ حدثٍ نعيشُه اليوم إلى مناسبةِ خلاصٍ، إذا عرفنا كيف نؤمنُ بحضورٍه وبسلطانِه في حياتنا اليوم وغدًا.