الخوري ماهر بطيش
مقالات/ 2020-12-09
"قال لي أنت ابني" مزمور 2 /7
"قال لي أنت ابني" (مز 2 /7)، إنّه صوت الآب الذي يدعوني للبنّوة، وما أصعب البنّوة وما أسهل العبوديّة، ففي العبوديّة سيرورة عمياء ومهمّة واحدة وحريّة محدودة، أمّا في البنوّة فهناك مسؤوليّة ضخمة، إذ على صورته عليّ أن أكون، ومن حريّته أنطلق حراً وعلى إرثه أصبح مؤتمناً. فمن أنا يا رب لأحمل هذا الوسام، من أنا لتدعوني إبناً لك مؤتمناً على إرثك؟
"أنا اليوم ولدتك" (مز 2 /7)، أنا اليوم ولدتك في الكهنوت خادما لشعبي، ولادة جديدة منحتني يا ربّ، أنت ولدتني في البشريّة إنساناً، وفي الكنيسة مؤمنا عندما حصلت على سرّ المعموديّة وفي الكهنوت خادماً لأسرارك المقدّسة، إجعلني يا رب أمينأ على نعمة الإنسانيّة متمسّكأً بإيمان الكنيسة الجامعة، المقدّسة، الرسولية خادمأ لأسرارك بكلّ تواضع وأمانة.
"سلني فأعطيك الأمم ميراثاً لك وأقاصي الأرض ملكاً لك" (مز 2 /8)، لن أسألك يا رب أن تعطيني إلا إرث الكنيسة وتقاليدها المارونيّة لا طمعاً بالخيرات الأرضية بل غيرةّ على تعليمها ورغبة بالحفاظ عليها، وإن كانت فيّي رغبة لكي أملك، فلا تجعلني إلا ملكاً على نفسي لا أصغي إلا للملك السماوي الذي افتداني، وإلى تعليم الكنيسة، وإن كنت أنوب عنه بالملوكيّة، فلا تجعلها إلا جسر عبور للمملكة السماويّة.
"ترعاهم بعصاً من حديد" (مز 2 /9)، وما هي الدعوة التي دعوتني إليها يا ربّ إلا دعوة للرعاية الحكيمة، كالراعي الصالح الذي يسهر على القطيع ويذهب بحثاُ عن الخروف الضال. دعوة تجعل من عصا الحكمة والرحمة صولجان رعاية وخدمة.
من هنا أضع هذه الخدمة في عهدتك يا ربّ، لتكون خدمة صالحة في الكنيسة ومن أجل الكنيسة، إنّها محطّة لطالما سعيت لعبورها، غير جاعلٍ منها هدفا بل رسالةً لخدمة المؤمنين ولإعلان ملكوتك. منذ أن سلكت في هذا الطريق، ودخلت المدرسة الإكليريكيّة من سنين قاربت العشرين، ملبيّاً دعوة هذا الصوت الذي ضجّ في داخلي يقول لي، "اتبعني" (يو 21 /19)، كان يقودني باستمرار نحو الإلتزام بإعلان البشارة والأمانة لتعاليمك. وعلى هذه الطريق التي سلكتها، واجهت الصعاب والتحديات الكثيرة من الداخل ومن الخارج ولو لم تكن كلمتك القائلة "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" (لو 9 /62) ولولا الدعم والرجاء الذي تلقيته من عائلتي ومن أساتذتي والكهنة المرافقين والمرشدين والأساقفة الذين توالوا على متابعتي، لم أكن ههنا قادراً على الوقوف للعبور نحو هذه الخدمة.
في عمق ارتباط البنوّة، أدرك أن أهميّة البنوّة لله هي من صلب الرسالة الكهنوتيّة التي أسعى إلى تقديمها، في البنوة أجد نفسي أخاً لكلّ الإنسانيّة، وهذه الأخوّة تدفعني منطلقا للإلتزام بإعلان البشارة وللتمسّك بالتعليم الذي أتعهّد بأن أكون أميناً عليه. والتعليم بشطريه إعلان البشرى السارة والشهادة المسيحيّة بالأعمال لا ينفصلان، فلا يمكنني أن أبشرّ وأعلم، إلا إذا كنت أسعى لكي أكون قدوة في مسيرتي وأعمالي، فالأعمال ليست إلا مرآة للتعليم، والتعليم ليس إلا موجهاً للأعمال. وما من تشويه يصيب التعليم إلا الأعمال التي تناقضه، فقد شدد بولس الرسول على تلميذه طيموتاوس لكي يكون قدوة بأعماله ومعلماً بكلامه " لا يستخفن أحد بشبابك، بل كن قدوة للمؤمنين بالكلام والسيرة والمحبّة والإيمان والعفاف. إنصرف إلى القراءة والوعظ والتعليم" (1 طيم 4 /12) فهذه التوصيات ستكون في صلب القاعدة الأساسيّة التي ستتأسس عليها مسيرة التعليم والشهادة.
ومن هنا سأكرّس خدمتي الكهنوتيّة للتعليم والشهادة الصالحة، ملتزمًا إعلان ملكوت السموات لأبناء الله، ساعياً قدر المستطاع، لترسيخ مفهوم البنوّة في مسيرتي، ومنه أنطلق أخاً لخدمة كافة أبناء الله على ما أوصى به بولس الرسول تلميذه طيموتاوس "لا تعنّف شيخاً، بل عظه وعظك لأب لك، وعِظِ الشبان وعظك لإخوة لك، والعجائز وعظك لإمهات لك، والشابات وعظك لأخوات لك، بكلّ عفاف" (1طيم 1/1-2) .
في عمق ولادتي في الكهنوت، سأكون مؤتمناً على تقديس شعب الله، مدركاً أن الكهنوت الحقيقي مرتبط بمن أقسم الله عليه ولن يندم كما أوضحت الرسالة إلى العبرانيين :" وأمّا هذا فبيمين من الذي قال له: "أقسم الرب، ولن يندم أنّك كاهن للأبد" (عب 7 /21). سأسعى في مسيرتي الكهنوتية إلى التشبث بمن كهنوته لا يزول وخدمته مقدَسة ومقدِّسة. من القدوس أستقي القداسة وأنطلق لأقدّس شعب الله من خلال الأسرار فأتقدّس معهم لنلتقي معاً في القدّوس إلى الأبد. خدمة التقديس مسؤوليّة كبيرة تجعلني أسأل نفسي من أنا يا ربّ لكي أستحق أن أقوم بها؟ فعندما أنظر إلى ضعفي أقول"لست أهلاً للتقدم إلى مذبحك الطاهر ولا إلى أسرارك المقدّسة" ولكن أنت الذي تجعلني "مقبول الوقوف بين يديك في هذه الساعة وفي كلّ وقت" (من صلاة الإستعداد للقداس).
أمام هذه المسؤوليّة والقدسيّة في خدمة التقديس، سأكون حاملاً لهذه الرسالة مؤتمناً عليها جاعلاً منها محور خدمتي الكهنوتيّة. وأمام التحديات الجمّة التي يواجهها مجتمعنا، أتعهّد لكي أحمل خدمة التقديس لكل المؤمنين ولكلّ من هم بحاجة لها متخطيًا كلّ حدود على مثال الرسل وعلى مثال بطرس الذي قال لطالب الصدقة "لا فضة عندي ولا ذهب، ولكنّي أعطيك ما عندي" (أع 3 /6) فبالموهبة أعطى بطرس الشفاء، وبموهبة الكهنوت سأسعى لأكون معطياً الأسرار المقدّسة التي ليست ولن تكون من عندي بل من عند الذي قدسها ويقدّس شعبي ويقدسني.
في عمق الإرث الملوكي والرعاية، سأحمل مسؤولية التدبير بدقّة وحكمة وأصغي دائماً إلى سفر الأمثال "طوبى للإنسان الذي وجد الحكمة، وللإنسان الذي نال الفطنة... يا بني إحفظ التبصر والتدبير" (أمثال 3/ 13، 21). فالتدبيرتحدٍ يواجهه كلّ إنسان، والتحدي يوقع الإنسان بالإتكال على الذات في تدبير الشؤون، إنّما التبصّر في حكمة الله وإستشرافها في كلّ قرار يجعل من التدبير خير خدمة في سبيل إعداد شعب الله لقبول ملكوت السماوات في واقعهم وحياتهم اليوميّة. سأعمل جاهداً على صدى ما تربيت على سماعه في عائلتي "الله بدبّر" أن أكون مدبراً لشؤون رعيتي مستلهماً تدبير الله من أجل خدمة النفوس واعادة الخروف الضال، على مثال الملك الخادم الذي يبذل نفسه من أجل رعيته.
على مثال يسوع المسيح ، الفادي والمخلّص والكاهن الأوّل الذي رفض مشروع المملكة الأرضيّة ليتمسّك بمملكته التي في السماوات، ويجعل من سلطانه، سلطانا مدبرًا لخلاص البشر. سأحمل رسالة التدبير خدمة لشعب الله وليس كسلطة أرضية عليهم، كالخادم الأمين الحكيم الذي أقامه سيده على أهل بيته، "وإذا جاء سيّده منصرفا إلى عمله هذا" (مت 24 /45).
ختاماً، أرفع الصلاة إلى من دعاني إلى الوجود، وأسأله أن أن يجددني بقوة روحه القدوس كلّ حين لكي أكون أمينا على هذه المسؤولية، فأحمل عهد الخلاص الذي أعطانا إياه ربنا ومخلصنا يسوع المسيح وأجعل من نفسي جسر عبور للآخرين نحوه، في حمى الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية، ومن رحم عائلتي التي ربتني وعائلتي التي أسير معها حاملاً هذه الخدمة، بشفاعة السيدة العذراء ، سيّدة الأمل، ومار أفرام السرياني ومار نعمة الله الحرديني.