الخوري منصور زيدان
مقالات/ 2020-12-07
"يا أبَتِ، مَجِّدِ اسمَكَ" (يو 12/ 28)
وصلت اليوم بنعمة الله وعنايته ومرافقة الكنيسة ومباركتها الى سيامتي الكهنوتيّة وها أنا أكتب مشروعي ورؤيتي المستقبليّة لخدمتي بثقةٍ وثبات. هذا المشروع يضعني أمام ذاتي لقراءة عمل الله في حياتي ومراجعة علاقتي الروحيّة والشخصيّة ولآخذ مقاصدي وألتزم فيها حتى مماتي بشفاعة أمنا مريم العذراء وجميع القدّيسين. وبالتالي، يصبح هذا الكتاب كمرجع ألتزم وأعد أن أعود إليه كلّما أضعت البوصلة فيذكّرني بحبّي الأوّل لأجدّد على الدوام أمانتي وامتناني للأمين والحبيب الأوّل.
من هنا، اخترت الآية التالية من إنجيل يوحنا: "يا أبَتِ، مَجِّدِ اسمَكَ" (12/ 28) لتكون شعاري أصلّيها وأتأمّل فيها وأخدم كنيستي على ضوئها: شاهدًا لحبّ وأمانة الله أينما وُجدتُ، وعلامةً لافتقاد شعبه، وممجدًا للثالوث الأقدس وإكرامه.
"يا أبت"
صرخة الابن، صلاة يتوجّه فيها يسوع الى ال "أبّا" بدالّة الأبناء، يكشف فيها هويّته كابنٍ ويعلن هويّة الله أبًا. هي أيضًا صلاتي ككاهن وصلاة المؤمنين كلّ مرّة نرفع أيادينا ونقول: "الأبانا". "يا أبت"، هي صلاة ذكر الله وهزيز روحيّ رافقني وسيرافقني كرجل صلاة وجليس الله، من خلالها أعي أمانة الله معي وأستمدّ قوّتي وأفهم هويّتي كابن محبوب من الآب وكأخ مفتدى بأخيه يسوع المسيح وكهيكل للروح القدس. هذه العلاقة التي سأجاهد يوميًّا لأحافظ عليها وأثبت فيها تماهيًا بيسوع المسيح، لا بدّ أن أعكسها مع الآخر بأبوّة روحيّة أساسها الرحمة والمحبة، وترجمتها عمليًّا تكون: أوّلاً، بحضور أبويّ نوعيّ لاستقبال كل آخر والترحيب به؛ ثانيًا، مرافقته بالإرشاد والاصغاء والمواساة؛ ثالثًا، التمييز واللقاء بالله؛ ورابعًا، الدمج في قلب الجماعة.
أ. " يا أبت البّار... عرَّفتُهم باسمك وسَأُعَرِّفُهم به" (يو 17/ 25- 26)
في مَهَمَّة التّعليم، سأثابر ككاهن على متابعة تنشئة ذاتيّة وتلمذة مستدامة ترتكزان على الكتاب المقدّس والتقليد وتعليم الكنيسة الكاثوليكيّة في خضمّ عالم اليوم التّائه في تعاليم متضاربة وتيّارات فلسفيّة ونظريات وجوديّة مختلفة تأتينا من كل حدب وصوب "فالحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك" (يو 17/ 3). وبالتالي، من مسؤوليتي نشر كلمة الله والسّهر على القطيع وقيادة النفوس وإيقاظ الضمائر من خلال نقل هذا التعليم والقيم والفضائل المسيحيّة بأمانة وغيرةٍ لمن توكلني الكنيسة تعليمه في الرعيّة والمؤسسات التربويّة والمنظّمات والجماعات الكنسيّة فيكبروا في المسيح تدريجيًّا ويتأصّلوا في الايمان والرجاء والمحبّة. من هنا، أعي بوضوح أهمّيّة المحافظة على أُلفة شخصيّة مع كلمة الله فتكون حياتي اليوميّة شهادة تناغم بين ما أقوله وما أعمله وما أنا عليه لِيَظهر التعليم مثالاً وحقيقةً مُعاشة وممكنة للمؤمنين.
ب. "أُكَرِّس نفسي من أجلهم ليكونوا هم أيضًا مكرّسين بالحقّ" (يو 17/ 19)
في مهمَّة التقديس، أؤمن أن الآب الذي قدّسني وكرّسني وخصّني من محبّيه، يدعوني أيضًا أن أقدّس ذاتي وأُقدّس من وهبهم لي وأحفظهم باسمه لنكون واحدًا بالمحبّة كما أنَّ الثالوث واحدٌ. وهذا التقديس يُستكمل في ممارسة الأسرار وأشباه الأسرار والطقسيّات والتقويّات والإحتفالات الليتورجيّة بإتقان وأمانة فيخلع الكاهن - كما المؤمن- الإنسان العتيق ويلبس الانسان الجديد ليولد من الماء والروح وليثبت من جسد ودم المسيح، عضوًا حيًّا وفعّالاً في جسد المسيح السرّيّ.
وبالتالي، هذا التقديس هو تخصّص في محبّة الله كما العريس يسوع خصّص ذاته من أجل أحبّائه وعروسه الكنيسة من خلال كرازته وخدمته لكلمة الله حتى النهاية وتحمّل الصليب والاضطهادات والموت فالقيامة والصعود والتّشفّع لأجلنا أمام الآب، كذلك على خادمه أي الكاهن أن يخصّص ذاته كما معلّمه فيصبح "خبزًا يؤكل". وتماهيًا بسيّدي يسوع، سأجاهد لكسر الكلمة وتوزيعها ولخدمة إخوة يسوع الصغار والقرب من المجروحين والمتروكين ومواساة المنبوذين والحزانى وحثّ الخطأة على التوبة والشفاء من الأمراض الروحيّة وبذل الذات والتشفّع لأبناء رعيّتي الأحياء منهم والأموات إذ "ما من تلميذ أسمى من معلّمه، وما من خادم أسمى من سيّده" (متى 10: 24).
ج. "إنّ أبي ما يزال يعمل، وأنا أعمَلُ أيضًا" (يو 5/ 17)
في مهمّة التدبير، سأعمل على مثال الخالق الذي نظّم الخليقة ورعى شعبه على مدى الأزمان، وعلى مثال ابنه الذي سار وحجّ مع تلاميذه وأرشدهم وقادهم، وعلى هدي الروح القدس أسلمهم للآب. وذلك من خلال قيادة الشعب في الحب والحزم كالأب والرّاعي الذي يوجّه بضربة عصا وينتشل برفعة عكّاز فلا يغيب عن ناظريه ضائع ولا يشرد من قطيعه متهوّرٌ. وفي ممارسة هذه الخدمة، سأضع أمام نظري دائمًا يسوع المسيح الهدف الأسمى لأي تدبير مع مراعاة البعد الرساليّ وخدمة المحبّة الاجتماعية رحمةً وخلاصًا للنفوس. فلا تتحوّل مهمّتي مع المنظّمات والجماعات والعائلات الى عمل محض اجتماعيّ أو وظيفيّ – مكتبيّ، بل عمل راعويّ نابع من محبّة أخويّة وصداقة واسعة تتوخّى الخلاص الشّامل. وهنا أعِد بالخروج الدّائم نحو "الأطراف" وأجاهد على القُرب من خلال الاهتمام بغَيرة بالأطفال والمراهقين والشّبّان والعائلات وكبار السنّ، كما زيارة المرضى والمسجونين والمهمّشين وإحاطة ذوي الإرادة الصّلبة والفقراء دون استثناء أو تمييز، حرصًا على تحقيق العدالة الإجتماعيّة وأقدّم لهم ما ينعم عليّ الآب من خيرات روحيّة ومادّيّة.
لا بدّ ختامًا من شكر الله على أهلي وبخاصّةٍ والديّ، "وديع" و"غلادس"؛ وإخوتي، "ايلي" و"جورج" وعائلاتهما، أوّل الدّاعمين لدعوتي؛ وعلى زوجتي "يولا"، أم ابني "وديع" ورفيقة دعوتي التي زرعت بالدّموع وها هي تحصد بالفرح والتّهليل.
أشكره على كهنة وبنات وأبناء رعيّة مار مارون – البوشريّة التي ترعرعت فيها وتعلّمت خدمة المذبح منذ طفولتي وأخصّ بالشّكر الحركة الرسوليّة المريميّة فيها التي طبعتني بروحانيّتها لخدمة كُل إنسان وكُلِّ الإنسان، وفوج الكشّافة الذي نشّأني على الاستعداد دائمًا للخدمة والمبادرة والتّعاون والابتسام في الصّعاب؛ ولا بدّ هنا، أن أذكر روح "المونسنيور جورج جميّل" والخوري "جورج أبو جودة" الخير شهود للكهنة القدّيسين.
كما أشكره على محبّة وكرم رعيّة مار يوسف – بيت الككو بشخص خادمها الخوري "سمير مظلوم"، الشّاهد الحقّ لرحمة الرّب الكبيرة وبمنظّماتها المُصلّيّة والنّشيطة. هذه الرّعيّة المباركة التي احتضنت دعوتي خلال السّنوات الثلاث الأخيرة ودعمت مسيرتي نحو الكهنوت معنويًّا وروحيًّا ومادّيًّا.
أشكر الله على كلّ شخص كان له الفضل في نموّ دعوتي من آباء وأساتذة في مدرستَي مار مارون -البوشريّة والسان جورج - الزلقا، وآباء لجنة الدّعوات في الأبرشيّة، وآباء منشّئين ومربّين ومرشدين في الاكليريكيّة البطريركيّة المارونيّة في غزير وكلّيّة اللّاهوت الحبريّة في جامعة الرّوح القدس – الكسليك، وعرّابي في الكهنوت، الخوري "شادي بو حبيب"، الأب الحقيقيّ والأخ الحاضر. ولا أنسى، فضل آباء وأساتذة وإدارة مدرسة مار يوسف – قرنة شهوان الذين شجّعوا ودعموا مسيرتي وفتحوا أمامي مجالات واسعة في تطوير شخصيّتي الكهنوتيّة وفي خدمة التّعليم والإرشاد.
أشكر الله على رعاية كلّ من الأساقفة يوسف بشارة وكميل زيدان، المثلثَيّ الرّحمة، رحمهما الله؛ هما اللّذَيْن تبنّيا وباركا دعوتي ووضعا كلّ إمكانيّات الأبرشيّة لتوفير الإطار المناسب لتنشئتي. كما أشكر الله على سيادة المطران أنطوان عوكر السّامي الاحترام سائلاً الله توفيقه في مهامه الأسقفيّة لخير الكنيسة وخلاص النفوس.
الشّكر والامتنان الأكبر والدّائم لله على كلّ عطاياه اللّامتناهيّة ملتمسًا منه العون والتّوفيق هو الذي لم يلبث يحضر دائمًا وأبدًا في كلّ جوانب حياتي ليبارك أفراحي ويبلسم أحزاني ويثبّت خُطاي.
أتقدم منكم آبائي في لجنة الدّعوات لقبول مشروعي هذا مجدّدًا طاعتي للكنيسة ومحبّتي البنويّة لكم ولمجد الله الآب والابن والروح القدس.