مقدّمة
في الأحد الرابع من زمن المجيء، تحتفل الكنيسة بمولد يوحنّا المعمدان (السابق)، الذي يسبق ميلاد يسوع المسيح، مثلما الفجرُ يسبَقُ طلوعَ الشّمسِ. بمولده يغمرُ الفرحُ بيتَ الشيخِ والعاقرِ، والأقارب والجيران. بمولده يتأكّد زكريّا من صدق وعدِ اللهِ لشعبه، فينفتح فوهُ ويبارك الرب. بمولده تختبر العاقر رحمة الله وحنانه تجاهها وتجاه شعبها، فتبتهج وينكشف سرّها الذي كتمته خمسة أشهرٍ. بمولده يندهش شعبُ الله أمام هذا الطفل السّابق للطّفل الإلهي. في هذا الأحدِ تدعونا الكنيسةُ للتأمّلِ بحنانِ الله وحبِّه للبشريّة ولكلّ واحدٍ منّا، لأنّنا متى اختبرنا حبَّه وحنانَه، سنتحرَّرُ من كلِّ عارٍ وخجلٍ، سينفتحُ لسانُنا لنباركَه ونمجِّدَه وسنقفُ مدهوشين أمامَ سرِّهِ العظيم الذي لا يُسْبَرُ غورُه.
شرح الآيات
57 وتَمَّ زَمَانُ إِليصَابَاتَ لِتَلِد، فَوَلَدَتِ ابْنًا.
58 وسَمِعُ جِيرانُهَا وأَقَارِبُها أَنَّ الرَّبَّ قَدْ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا.
هاتان الآياتان تختصران خبر ولادة يوحنّا. الأمر الملفت عند لوقا أنّه يخبرنا بإيجازٍ خبرَ ولادةِ المعمدان (لو1: 57 – 58) بينما يسترسلُ بخبرِ ختانتِه (لو1: 59 – 79)، على عكس ما يخبرنا عن يسوع حيثُ يتوقَّف طويلًا عند خبر الولادة (لو 2: 1 -20) ويوجز خبرَ الختانةِ (لو 2: 21). هذه المفارقة ليست صدفةً، أراد لوقا أن يخبرَنا بأنّ يوحنّا ينتمي إلى العهد القديم حيث الختان هو أساسٌ وعلامةٌ للعهدِ القديمِ. أمَّا بولادةِ يسوع يبدأ عهدٌ جديدٌ، حيثُ يُحاطُ الخبرُ بهالةٍ من المجدِ الإلهي، علامةٌ على أنّ الطفل هو المخلِّصُ المسيحُ الربُّ (لو 2: 11).
وتَمَّ زَمَانُ إِليصَابَاتَ: زمان إليصابات، لا يعني فقط تمامَ التِّسعةَ أشهرٍ وحلولِ موعدِ الولادةِ، هو زمنُ الخلاصِ الّذي بدأ بالبشارات، وتمامُ زمانِها هو إعلانٌ لتمام الأزمنةِ كلِّها، واستباقٌ لحلولِ ملءِ الزَّمنِ، أي لمجيءِ المخلِّصِ. هو الزّمان الّذي افتقد به الربّ بيتَ العاقر ليعيدَ إليها اعتبارها، وهو إعلانٌ لها ولأقاربِها ولجيرانِها أنَّ لا أحدَ مُستثنى من مُخَطَّطِ الله وأن الخلاصَ للجميعِ.
وسَمِعُ جِيرانُهَا وأَقَارِبُها أَنَّ الرَّبَّ قَدْ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا: حين يولد طفلٌ في أسرة يهوديّة، تعمّ الفرحةُ الجيرانَ والأقاربَ، لأنّ الولادةَ اشارةٌ إلى رضى الربّ عن الوالدين، ولادةُ يوحنّا أصبحت مناسبةً لإعلانِ رحمةِ اللهِ لإليصابات، فالابتهاجُ والفرحُ المسيحانيُّ الذي اختبرتْه في زيارة مريم لها، يتوسّع ليطالَ جيرانُها وأقاربُها، سببُ هذا الفرحِ هو اختبارُ رحمةِ الله في حياة العاقر، وهو فرح يتخطّى الشَّخصَ بذاته ليطالَ كلّ محيطه. جيرانُ وأقرباءُ إليصابات هم أنفسهم الّذين نظروا اليها نظرة شفقة، يأتون الآن بعد أن سمعوا بولادة يوحنّا، ليشاركوها فرحها وليشهدوا على رحمة الله لها ولهم. يبدأ إذًا زمن الخلاص فتنقلب المقاييس والعاقر لم تعد بحاجة لتكتم أمرها (لو 1:24)، وزكريّا ستُفكُّ عقدةُ لسانِه.
59 وفي اليَوْمِ الثَّامِنِ جَاؤُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيّ، وسَمَّوْهُ بِاسْمِ أَبِيهِ زكريّا.
60 فأَجَابَتْ أُمُّهُ وَقالَتْ: "لا! بَلْ يُسَمَّى يوحنّا!".
61 فقَالُوا لَهَا: "لا أَحَدَ في قَرابَتِكِ يُدْعَى بِهـذَا الاسْم".
62 وأَشَارُوا إِلى أَبِيهِ مَاذَا يُريدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ.
63 فطَلَبَ لَوْحًا وكَتَب: "إِسْمُهُ يوحنّا!". فَتَعَجَّبُوا جَمِيعُهُم.
اليوم الثامن هو الوقت الذي حدّدته الشريعة للختانة (تك17: 12 و أحبار 12: 3). الختانة علامة العهد الذي أقامه الله مع شعبه، هو يوم دخول يوحنّا في عداد شعب الله. في اليوم الثامن أيضًا يختار الأهل الأسم للمولود الجديد، وللاسم اهميّة كبرى في إيمان الشعب اليهوديّ، فهو يشير إلى ما يرجوه الأهل، أو إلى الرسالة التي يريدها الله من الانسان، أو إلى الظروف التي ولد فيها الطفل، والتي قد تحدّد مصيره، وبالتالي الاسم يدلّ على الهويّة والرسالة. يتمّ اختيار الأسم بالاتفاق بين الأب والأم وكانت العادة في الشرق أيضًا، كما في أيامنا هذه، أن يُعطى الولدُ البكرُ اسمَ جدّه أو أبيه. لم يكن الأقارب والجيران على علم بما يعيشانه زكريّا وإليصابات، لذلك أرادوا تسمية الطفل على اسم أبيه زكريّا كاستمراريّة للسلالة البشريّة، وربّما أرادوه أن يصير كاهنًا مثلَ أبيه. ولكنّ الاسم الجديد، يُخرج يوحنّا من دائرة عائلته الضيقة، ليضعه في دائرة العائلة البشرية وليعلنَ رسالته ودورَه في تاريخِ الخلاصِ. لقد وضّح لوقا أنَّ الجيرانَ والأقاربَ "أشاروا" إلى زكريّا ليسمّي الولد، وفي هذا دلالة على أنّ الكاهن الشيخ كان قد أصبح أصم وأخرس بعد ظهور الملاك له في الهيكل، وفي هذا دلالة على نهاية الوحي والاعلان لكهنوت العهد القديم، وبداية عهد جديد من الكشف الإلهي.
لقد جاء الوحي إلى اليصابات كما إلى زكريّا، فسميا الولد يوحنّا دون أن يتفقا مسبقًا، وأعلنا سويًا رحمة الله لهما، هي أعلنت بفمها وهو بيده، وفي اعلانهما طاعةٌ للربِّ ودلالةٌ على إيمانهما وامتنانهما لعطيّة الربّ ورحمته تجاههما. ألأهل والجيران أرادوا اكمال التقليد المتّبع في العهد القديم، أما زكريّا واليصابات اختبرا أنّ عهدًا جديدًا سيبدأ لذلك تجرأا وأعلنا اسمًا لم يكن يتوقعه المحيطون، فالطفل الجديد لن يحمل اسم أبيه بالجسد بل سيحمل اسمًا يدلّ على تدخلّ الله في حياة والديه وحياة شعبه.
64 وانْفَتَحَ فَجْأَةً فَمُ زكريّا، وانْطَلَقَ لِسَانُهُ، وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ ويُبَارِكُ الله،
زكريّا سينطق بالكلمة، حالًا عندما سيعترف بأنّ كلمة الله تحقّقت. سيُكمل ما لم يستطع اكماله في الهيكل، عندما كان يقدّم البخور. صلاتُه وتسبيحتُه للربّ اللذان لم يكتملا في الهيكل، سيكتملان في البيت أمام المولود الجديد. ها هو الكاهن يرفع صلاته من جديد مباركًا الله ومعترفًا غيرَ خائفٍ ومتردّدٍ، بل مؤمنًا بخلاصِ الربّ الذي بدأ يتحقّق. بميلاد يوحنّا علم "زكريّا" معنى اسمه وآمن بأنّ الله ما نسيه يومًا ولا نسيَ شعبه، فانتقل الكاهن الشيخ من حالة العقم والخوف والبكم إلى حالة التمجيد واعلان خلاص الربّ، انطلق لسانه كمريم التي باركت الربّ حين قبلت إرادته في حياتها وفي حياة شعبها (لو 1: 46 -56).
65 فَاسْتَولى الـخَوْفُ على جَمِيعِ جِيرانِهِم، وتَحَدَّثَ النَّاسُ بِكُلِّ هـذِهِ الأُمُورِ في كُلِّ جَبَلِ اليَهُودِيَّة.
66 وكانَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ بِذـلِكَ يَحْفَظُهُ في قَلْبِهِ قَائِلاً: "ما عَسَى هـذَا الطِّفْلُ أَنْ يَكُون؟". وكانَتْ يَدُ الرَّبِّ حَقًّا مَعَهُ.
هذا الخوف الذي استولى على الجيـران، هو فعل يقظة يدلّ على أنّ الحاضرين، بدؤوا يتبصّرون خلاص الرَّبّ ويلتمسوا حضوره في ولادة هذا الطفل. فانفتاح فم زكريّا وخروجه من صمته أصبح علامةً لهم على بداية تحقيق زمن الخلاص لكلّ سكان جبال اليهوديّة. هذه العلامة حفظوها في قلوبهم أي بدؤوا بقبولها، وبالتالي بدؤوا الدخول بمسيرة توبة وعودة إلى الله ستكتمل بدعوة يوحنّا في نهر الاردن " أعدّوا للربّ الطريق واجعلةا سبله قويمة" (لو 3: 4).
خلاصة روحيّة
في ميلاد يوحنّا كلام الله يصبح واقعًا، والذي أنبأ به الملاك في الهيكل يتحقّق في بيت الكاهن، فيتأكّد الشيخ والعاقر كما مريم "أنّه ليس على الله أمرٌ مستحيل" (لو 1: 37)، أمام تحقيق الوعد يعمّ الفرح بيت زكريّا وكلّ اليهوديّة، فرحٌ ممزوج بمخافة الربّ ومحاولة فهم قصده وسبله الخلاصيّة.
في يوم ختانته يسمّى يوحنّا، أي في يوم تطبيقه لشريعة العهد القديم بالختانة، يعلن هذا الطفل الجديد بداية شريعة جديدة، قائمة على ختانة القلب، قائمة على حبّ الله وحنانه. لذلك سيكون يوحنّا السّابق الذي سيدعو النَّاس للتَّوبة، أي لتوجيه قلوبهم نحو الرَّبّ ولاكتشاف حنانه. رسالته القاسيّة في بريّة الأردن وكلامُه النَّبويُّ الحادُّ سيعلنان حبَّ الله وحنانَه للبشريّة.
في مسيرتنا نحو الميلاد، يدعونا حدث ميلاد يوحنّا إلى عيش الفرح المسيحانيّ في زمنٍ كثر فيه الخوف والحزن والآلم. فرحٌ نتوق إليه جميعنا، وينتج من عمل الله فينا. إحدى أهمّ الطرق لإختبار الفرح في حياتنا هي عندما نختبر أنّ الله يحبّنا وأنّ خلاصه لنا أكيد، فيصبح هو الكلّ في الكلّ ومركز حياتنا ومحور انتباهنا. عندها نعيش الألم أو الاضطهاد أو أيَّ صعوبةٍ تعترضُنا ونحن واثقون أنّ الله معنا وهو سيعتني بنا وهو نصرتنا، هذا الشعور ينتـزع منّا كلّ خوفٍ وقلقٍ واضطراب ويزرع مكانها الفرحَ والسَّلامَ الحقيقيَّيْن.