الخوري إيلي أسعد
مقالات/ 2020-04-15
من أشدِّ المخاطر التي تهدّد مجتمعاتنا اليوم هي محاولة الإنسان أحيانًا إفراغ الفضائل والقيم (كالمحبّة والكرامة والحكمة) من معانيها العميقة ومدلولاتها الحقيقيّة ليملأها أو يحصرها بمعانٍ تتناسب ورغباته ومنافعه الشخصيّة. الحريّة والأمانة هما الأخرتان لم تَسلما من هذا التشويه: الأختان اللتان لا تفترقان أبدًا في الحياة، ها هما بالنسبة لأبناء عصرنا ألدّ الأعداء لا يمكن أن يجتمعا في قلب إنسانٍ واحد.
فإذا سألنا اليوم ما هي الحريّة؟ الجواب جاهزٌ وبسرعة البرق: "الحريّة هي القدرة على الاختيار" أي القدرة على التحرّك الدائم من دون أيّ معوّقات. عندما يحصر الإنسان مبدأ الحريّة بهذا المفهوم، تصبح الأمانة بالنسبة إليه "سجنًا" يكبّله لأنّه يلزمه بمبادئ والتزاماتٍ معيّنة دون القدرة على التغيير (ألا ينظر البعض إلى الزواج أو التكرّس في هذه الطريقة؟) ولكن أهذا هو المعنى العميق للحريّة؟
الحريّة بالنسبة للبابا فرنسيس "هي القدرة على المحبّة الحقيقيّة". الله محبّة (1 يو 4: 8) وبما أنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله (تك 1: 26)، إذًا جوهر الإنسان هو المحبّة وتصبح عندها الحريّة هي القدرة على تحقيق الإنسان جوهر كيانه ودعوته. ستبقى الحريّة منبرًا يعلن فيه الإنسان لاسيّما المسيحيّ هويتّه الحقيقيّة (التي هي ثابتةٌ ولا تتغيّر) والتي يسعى كلّ يوم ليعيشها بطريقة أعمق: هذا أنا! أنا إنسانٌ محبوب! أنا مخلوقٌ على صورة الله ومثاله لأعيش الحبّ ولتمجيد الله! أنا ابن الله بالابن الوحيد يسوع الذي مات من أجلي ليحرّرني ويعطيني الحياة والحياة بوفرةٍ!
هنا نسأل: الإنسان ضعيف ومعرّضٌ دائمًا للوقوع بالخطيئة التي تمنعه من عيش هذه الحريّة وتحقيق دعوته، فما هو السبيل لعيش الحرية الحقيقيّة؟ الطريق هو اتباع المسيح أي وضعه في المقام الأوّل والاستعداد للتخلّي عن أمورٍ كثيرة تخنق قلوبنا. كلمة الرب يسوع واضحةٌ في إنجيل يوحنّا: " إِنْ تَثْبُتُوا أَنْتُم في كَلِمَتِي تَكُونُوا حَقًّا تَلامِيذِي، وتَعْرِفُوا الـحَقَّ، والـحَقُّ يُحَرِّرُكُم" (يو 8: 31): الثبات في الأمانة للرب ولكلمته هو السبيل لمعرفة الحقّ وعيش الحريّة. لا يمكن أن نتذوّق طعم الحريّة الحقّة من دون السعي الدائم لعيش التناغم مع إرادة الرب على مثال القدّيس يوسف الذي فعل دائمًا كما أمره به ملاك الرب (مت 1: 24). لنتذكّر دائمًا أن الله هو الحرّية والأمانة بالذات وما عيشنا لهاتين الفضيلتين سوى الجواب على حريّة وأمانة الله نحونا.
ستبقى أمّنا العذراء مريم مثالًا يجسّد بطريقة رائعةٍ كيفيّة عيش هاتين الفضيلتين سويّةً. لنتأمّل بها في إنجيل البشارة تقول للملاك: "ها أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك" (لو 1: 38). مريم هي المرأة الأكثر حريّةً عبر التاريخ لأنّها الأكثر أمانةً وإيمانًا بالله (كلمة أمانة تأتي من كلمة إيمان). تعلّمنا أمنّا في حياتها أنّ الثبات في الأمانة ليست أمرًا جامدًا وجافًا (كما يرى البعض مثلًا الأمانة الزوجيّة) بل هي أمانةٌ خلاقّة متجدّدة في السراء والضراء تُبدع في إظهار المحبّة للآخر حتى أقدام الصليب!
في الختام، في هذا الزمن التي يُكبّل فيه فيروس كورونا "حريّة تنقلاتنا"، لنعد إلى ذواتنا لاكتشاف جمال الحريّة التي دعينا لعيشِها. ليكن سعينا الدائم هو الانسجام مع هويّتنا من خلال عيش الأمانة لله، للآخر، للطبيعة وللكون أجمع. لا نخف من المضي قُدُمًا في مغامرة الالتزام في عيش الأمانة لله وللآخر فحريّتنا لن تتكبّل بل بالعكس ستتنقّى وتلمع كالذهب متلألئة في قلب الكنيسة والعالم، فنَعَم نقولها للأمانة هي الوقت نفسه نَعَم للحريّة!