الخوري ميراب الحكيم
مقالات/ 2020-04-10
يوم الجمعة العظيمة من كلّ عامٍ تتحرّك القلوب والمشاعر، يستيقظ الإيمان في قلب المؤمنين، تسخى العين بدموعها، ويترنّم اللسان بأعذب الكلمات وتصفى القلوب فتدرك حينها أنّك في يومٍ يختلف عن كلّ الأيّام.
وتسأل لماذا؟ ما هو الأمر الذي يدفع كلّ المسيحيّين، غير الملتزمين قبل الملتزمين وحتّى غير المؤمنين إلى التخشّع والتضرّع في هذا اليوم العجيب؟ هل هي مشاعرٌ وأحاسيس؟ أم هو تعبيرٌ عن إيمانٍ دفين؟ أم نحن أمام سرٍّ عميقٍ ولغزٍ كبير؟
في هذا النهار يدرك كلّ إنسان بأنّه في يوم عيدٍ وفرح لأنّه يوم خلاصٍ عظيم. في هذا النهار، يحصل الإنسان من خلال تأمّله بالذي عُلِّقَ على الصليب على الجواب الذي يطمئِنه ويعطيه معنًى لكلّ ما يعيشه.
فالألم والموت يبقيان عقبةً لا مفرّ منها ولغزًا لا حلّ له بالنسبة لكلّ إنسانٍ مهما علا شأنه. فَيَقِف، أمام سِرَّي الألم والموت، عاجزًا، ضعيفًا، مستسلمًا، فاتح اليدين، رافعًا ناظرَيه إلى العُلى وبحسرة قلبٍ يصرخ: أين أنت يا الله؟ لماذا لا تستجيب لي؟ لماذا لا تتدخّل وتعفيني من كلّ هذا الألم؟
إنّها صرخةٌ توحّد كلّ البشريّة المتألّمة التي تصرخ إلى إلهها: لماذا تركتني؟!!!
صرخة مَن فقد إنسانًا غاليًا على قلبه بعد فترةٍ من العذاب.
صرخة مَن يغرق في مرضه ويرى الموت ينخر في جسمه ولا مجيب.
صرخة مَن يتألّم بسبب ظلمٍ يعانيه وهو بريءٌ منه.
صرخة مَن يعاني أشدّ أنواع الرفض والاضطهاد وهو عالقٌ في دوّامة الشرّ.
صرخة مَن جُرِحَ بخيانة حبيب ولا يفهم السبب.
صرخة مَن وضع ثقته في أناسٍ خذلوه وتركوه في معترك الطريق.
صرخة مَن وُلِدَ في وطنٍ لم يعرف يومًا السلام والعدل.
صرخة مَن يموت جوعًا وعطشًا ولا يجد من يعينه.
صرخة مَن ربّى وتعِبَ وفي النهاية خسر أولاده ضحيّة المخدّرات والمعاشرات السيّئة.
صرخة مَن يعيش ظلمةً روحيّة وقد فقد بوصلة حياته.
صرخة مَن يعاني من اضطراباتٍ نفسيّة وعاطفيّة نتيجة العنف والظلم.
صرخةٌ تلو الصرخة ولعلّ صفحاتٍ وصفحاتٍ من الحبر لا تكفي لنعدّدها. واللغز واحد: لماذا يا ربّ؟
اليوم، يوم الجمعة العظيمة، يسوع سيّد الحياة وابن الله، يسوع شافي الأمراض ومجترح المعجزات العظام، يسوع المعلّم والنبّي، يسوع فاعل الخير وحده يجد نفسه مفعولاً به وذلك بكامل حريّته وإرادته، يعاني قمّة الظلم والألم ويصرخ صرخةً من أعلى صليبه تحمل في طيّاتها صدى كلّ صرخات البشر قبله وبعده: إلهي، إلهي لماذا تركتني؟
صرخةٌ يوازيها صمتٌ رهيب وظلمةٌ روحيّة ونفسيّة حالكة، صرخةٌ يتبعها تسليمٌ إراديّ وغير منطقيّ بالنسبة إلينا: أبتِ بين يديكَ أستودِعُ روحي. ما الذي حصل بين الصرخة الأولى والصرخة الثانية؟ كيف تحوّل "إلهي" الذي تركه إلى "أبتِ" يحمله بين ذراعيه؟ في وغر هذا الصمت العميق أوجَد يسوع الجواب الذي لطالما انتظرته البشريّة ولطالما نسيناه في أوقات الشدّة والألم: أنا هنا! معلّقٌ معك على الصليب!
إنّه الجواب الذي يسطع كالنور في عتمة الظلام، إنّه اكتشافُ إلهٍ أضحى إنسانًا مثلي وقَبِلَ أقسى عذابات الألم من أجلي وحَمَل ثِقلَ خطيئة البشريّة جمعاء دون أن يكون خاطئًا، إنّه اختبار إبن الله الإنسانيّ الذي ذهب إلى عمق أعماق الإنسانيّة ليُعطينا جميعًا الجواب:
في ذروة الألم والخوف والمجهول والظلم، عندما لا تسمع صوت الله ولا تشعر بحضوره فاعلَم أنّه هنا يتألّم لألمك وقد تألّم ومات مرّةً واحدة من أجلكَ على الصليب لكي من خلال اتّحادك بآلامه تدخل نفق الموت فالقيامة وتدرك بأنّ الله حيٌّ وحاضرٌ في كلّ الظروف!
يوم الجمعة العظيمة هو يوم عيدٍ لأنّ البشريّة تفرح بفاديها، حاملاً إليها بشرى سارّة: إلهُكِ معكِ في كلّ حين، حتّى في أصعب الظروف، إلهُكِ عاش واختبر كلّ ما يمكن أن يعيشه أيّ إنسانٍ ليكون بذلك قدوةً ومثالاً يقودنا نحو الإنتصار على كلّ أنواع الألم والموت!