الخوري جان الجرماني
مقالات/ 2020-01-06
مَعَ عيدِ مَعْمودِيَّةِ الرَّبِّ يَسوعَ في نَهْرِ الأُرْدُنِّ عَلى يَدِ يوحَنّا المَعْمَدانِ، يَبْدَأُ زَمَنُ الدِّنْحِ أَوِ الغطاس أَوِ المَعْمودِيَّةِ. وَيَسْتَمِرُّ هذا الزَّمَنُ حَتّى أَحَدِ المَرْفَعِ وَبَدْءِ زَمَنِ الصَّوْمِ الكَبيرِ. يَتَضَمَّنُ هذا الزَّمَنُ: عيدَ الدِّنْحِ، أَسابيعَ زَمَنِ الدِّنْحِ وَأَسابيعَ التّذْكاراتِ الثّلاث: أَحَد تَذْكارِ الكَهَنَةِ المُتَوَفّينَ وَأُسْبوعهُ، أَحد تَذْكارِ الأَبْرارِ وَالصِّدّيقينَ وَأُسْبوعهُ، وَأَحد تذْكارِ المَوْتى المُؤْمِنينَ وَأُسْبوعهُ.
يُسَمّى عيدُ مَعْمودِيَّةِ الرَّبِّ يَسوعَ، بِحَسَبِ ليتورْجِيَّتِنا المارونِيَّةِ، بِعيدِ الدِّنْحِ، وَالزَّمَنُ الّذي يَليهِ زَمَن الدِّنْح. كَلِمَةُ دِنْح هِيَ كَلِمَةٌ سِرْيانِيَّةُ " دِنحُا " تَعْني " الظُّهورَ، أَوِ الإِعْتِلانَ، أَوِ الكَشْفَ ". دَرَجَ تَقليدُنا المارونِيُّ عَلى اعْتِمادِ هذِهِ التَّسْمِيَةِ لِأَنَّ مَعْمودِيَّةَ يَسوعَ في نَهْرِ الأُرْدُنِّ كَشَفَتْ هُوِيَّتَهُ الإِلهِيَّةَ، وَأَظْهَرَتْ حَقيقَةَ الثّالوثِ، فَاعْتَلَنَ السِّرُّ المَسيحانِيُّ، سِرَّ الثّالوثِ وَسِرَّ الإِبْنِ المُتَجَسِّدِ الّذي سَيَتَتَوَّجُ بِسِرِّ الفِداءِ، المَوْتِ وَالقِيامَةِ.
فَفي الوَقْتِ الّذي كانَ يَتَعَمَّدُ فيهِ يَسوعُ، حَلَّ الرّوحُ القُدُسُ عَلَيْهِ بِشَكْلِ حَمامَةٍ: " وَرَأى روحَ اللهِ يَنْزِلُ مِثْلَ حَمامَةٍ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ " (متّى 3 / 16ب). وَسُمِعَ صَوْتُ الآبِ مِنَ السَّماءِ يَقولُ: " هذا هُوَ ابْني الحَبيب الّذي بِهِ رَضيتُ " (متّى 3 / 17). وَبِالتّالي ظَهَرَتْ وَاعْتلنَتْ حَقيقَةُ الإِبْنِ يَسوعَ الّذي يَتَعَمَّدُ بِأَنَّه ابْنُ اللهِ الوَحيدُ.
في الوَقْتِ نَقْسِهِ، نَجِدُ في مَعْمودِيَّةِ يَسوعَ حَقيقَةَ الثّالوثِ حَيْثُ كُلُّ أُقْنومٍ يُعَبِّرُ عَنْ ذاتِهِ: الآبُ يَصْرُخُ مِنَ السَّماءِ، الإِبْنُ يَتَعَمَّدُ في النَّهْرِ، وَالرّوحُ القُدُسُ يَحِلُ بِشَكْلِ حَمامَةٍ.
أَسابيعُ زَمَنِ الدِّنْحِ، يَخْتَلِفُ عَدَدُها مِنْ سَنَةٍ إِلى سَنَةٍ لِأَنَّها مُرْتَبِطَةٌ بِمَوْعِدِ بَدْءِ الصَّوْمِ الكَبيرِ الّذي هُوَ مُرْتَبِطٌ بِدَوْرِهِ بِمَوْعِدِ عيدِ الكَبيرِ. هذِهِ السَّنَةُ ثَلاثَةُ أَسابيع تَليها أَسابيعُ التَّذْكاراتِ الثَّلاث.
في الأَحَدِ الأَوَّلِ بَعْدَ الدِّنْحِ وَالأُسْبوعِ الّذي يَليهِ، نَتَأَمَّلُ في شَهادَةِ يوحَنّا الّذي أَعْلَنَ قائِلًا: " ها هُوَ حَمَلُ اللهِ الّذي يَرْفَعُ خَطيئَةَ العالَمِ " (يو 1 / 29 ب). فَقَدْ رَأى يوحَنّا الرّوحَ يَنْزِلُ عَلى يَسوعَ في وَقْتِ المَعْمودِيَّةِ وَقَدْ سَبَقَ وَقالَ لَهُ الّذي أَرْسَلَهُ: " مَنْ تَرى الرّوحَ يَنزِلُ وَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ، هُوَ الّذي يُعَمِّدُ بِالرّوحِ القُدُسِ" (يو 1 / 33ب)، لِذلِكَ أَعْلَنَ يوحَنّا قائِلًا: " وَأَنا رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذا هُوَ ابنُ اللهِ " (يو 1 / 34).
في الأَحَدِ الثّاني بَعْدَ الدِّنْحِ وَالأُسْبوعِ الّذي يَليهِ، نَتَأَمَّلُ في اعْتِلانِ سِرِّ المَسيحِ لِلرُّسُلِ وَدَعْوَتِهِ لَهُمْ. فَبَعْدَ شَهادَةِ يوحَنّا، قامَ اثْنانِ مِنْ تَلاميذِهِ وَتَبِعا يَسوعَ فَدَعاهُما يَسوعُ قائِلًا: " تَعالَيا وَانْظُرا " (يو 1 / 39أ)، " فَذَهَبا وَنَظَرا أَيْنَ يُقيمُ. وَأَقاما عِنْدَهُ ذلِكَ اليَوْمَ " (يو 1 / 39ب). وَكانَ أَحَدُ التِّلْميذَيْنِ أنْدراوسُ فَالْتقى أَخاهُ سِمْعانَ بُطْرُسَ وَأَخْبَرَهُ بِأَن: " وَجَدْنا مَشيحا أَيِ المَسيحَ " (يو 1 / 41ب). وَتَوالَتْ لِقاءاتُ يَسوعَ لِلرُّسُلِ وَدَعْوَتُهُ لِاتِّباعِهِ.
في الأَحَدِ الثّالِثِ بَعْدَ الدِّنْحِ وَالأُسْبوعِ الّذي يَليهِ، نَتَأَمَّلُ في مَوْقِفِ أَحَدِ رُؤَساءِ اليَهودِ نيقوديموس الّذي سَيَعْتَرِفُ قائِلًا: " رابّي، نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ جِئْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لِأَنَّهُ لا يَقْدِرُ أَنْ يَصْنعَ الآياتِ الّتي أَنْتَ تَصْنَعُها ما لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ "(يو 3 / 2). في المُقابِلِ، سَيَرَدُّ عَلَيْهِ يَسوعُ بِأَهَمِّيَّةِ الوِلادَةِ الجَديدَةِ الّتي يَجِبُ أَنْ تَتِمَّ بِالماءِ وَالرّوحِ، مُشيرًا إِلى سِرِّ المَعْمودِيَّةِ وَالّتي تُؤَهِّلُ المُؤْمِنَ المُعْتَمِدَ دُخولَ مَلكوتِ اللهِ: " ألحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكَ، لا أَحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلكوتَ اللهِ ما لَمْ يولَدْ مِنَ الماءِ وَالرّوحِ " (يو 3 / 5).
نَصِلُ إِلى أَسابيع التَّذْكاراتِ الثَّلاثِ الّتي تَسْبِقُ أَحَدَ المَرْفَعِ وَبَدْءِ زَمَنِ الصَّوْمِ الكَبيرِ.
١. أَحَدُ تَذْكارِ الكَهَنَةِ المُتَوَفّينَ وَأُسْبوعُهُ: نَتَذَكَّرُ كُلَّ أَحْبارِنا وَكَهَنَتِنا الّذينَ خَدَموا رَعايانا وَالكَنيسَةَ جَمْعاء. لَقَدْ قَدَّموا الطَّعامَ في حينِهِ: " مَنْ تُراهُ الوَكيلُ الأَمينُ الحَكيمُ الَّذي يُقيمُهُ سيِّدُهُ عَلى خَدَمِهِ، ليُعْطِيَهُمْ حِصَّتَهُمْ مِنَ الطَّعامِ في حينِها؟ " (لو 12 / 42). نَعمْ، إِنَّهُمُ الوُكَلاءُ الأُمَناءُ الحُكَماءُ الّذينَ كَرَّسوا حَياتَهُمْ لِلرَّبِّ مِنْ أَجْلِ خِدْمَةِ شَعْبِهِ. لَبِسوا كَهنوتَ الكاهِنِ الأَوَّلِ وَالأَعْظَمِ يَسوعَ المَسيح، وَأَعْطَوْا ذَواتِهِمْ لِخِدْمَةِ الكَنيسَةِ. نَتَذَكَّرُهُمْ وَنَعْتَرِفُ بَجميلِهِمْ وَتَعَبِهِمْ، وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ يَخْدُمونَ عَلى مَذْبَحِهِ السَّماوِيِّ بَعْدَما خَدَموهُ عَلى مَذْبَحِهِ الأَرْضِيِّ.
٢. أَحَدُ تَذْكارِ الأَبْرارِ وَالصِّدّيقينَ وَأُسْبوعُهُ: نَتَذَكَّرُ في هذا الأُسْبوعِ كُلَّ الّذينَ رَأَوْا المَسيحَ في إِخْوَتِهِ الصِّغارِ وَعَمِلُوا الخَيْرَ وَالرَّحْمَةَ مَعَهُمْ: " ألحَقَّ أَقولُ لَكُمْ: كُلُّ ما عَمِلْتُموهُ لِأَحَدِ هؤُلاءِ الصِّغارِ، فَلي عَمِلْتُموهُ! " (متّى 25 / 40). نَتَأَمَّلُ في حَياةِ جَميعِ القِدّيسينَ المُعْلَنينَ وَغَيْرِ المُعْلَنينَ الّذينَ تَأَمَّلوا في كَلِمَةِ الرَّبِّ، وَعاشوها في حَياتِهِمْ بِكُلِّ إيمانٍ وَرَجاءٍ وَمَحَبَّةٍ. إِنَّهُمُ الّذينَ تَناوَلُوا جَسَدَ الرَّبِّ وَدَمَهُ وَكانَ زادَهُمْ في طَريقِ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ.
٣. أَحَدُ تَذْكارِ المَوْتى المُؤْمِنينَ وَأُسْبوعُهُ: في هذا الأُسْبوعِ، نَتَذَكَّرُ جَميعَ مَوْتانا " مَساكينَ الرّوحِ " الّذينَ حَمَلَتْهُمُ المَلائِكَةُ إِلى حِضْنِ إبراهيمَ: " وَماتَ المِسْكينُ فَحَمَلَتْهُ المَلائِكَةُ إِلى حِضْنِ إبْراهيمَ " (لو 16 / 22). وَنَذْكُرُ خُصوصًا الّذينَ لا يَزالونَ في المَطْهَرِ لِكَيْ يَتَنَقَّوا وَيَتَطَهَّرُوا وَيَعْبُروا إِلى المَلكوتِ وَحَياةِ الشَّرِكَةِ مَعَ اللهِ صُحْبَةِ المَلائِكَةِ وَمَرْيَمَ العَذْراءِ وَالرُّسُلِ وَجَميعِ الأَبْرارِ وَالصِّدّيقينَ. نَتَذَكَّرُهُمْ وَنُعَبِّرُ عَنْ حُبِّنا لَهُمْ وَاتِّحادِنا بِهِمْ بِواسِطَةِ جَسَدِ يَسوعَ السِّرِّيِّ. وَفي تَذْكارِنا لَهُمْ، نَعْتَرِفُ بِالحَياةِ الأَبَدِيَّةِ وَنَشْهَدُ لِمَوْتِ يَسوعَ وَقِيامَتِهِ، الّذي فَتَحَ أَمامَنا بابَ السَّماءِ وَدُخولَ مَلَكوتِهِ السَّماوِيِّ.